فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      هل للإخوان عُذر فيما يفعلون؟

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

      ورد الينا سؤالٌ من قارئة ألمعية، تعليقاً على مقالنا الأخير بشأن الإخوان، هذا نَصه "بعد أن قرأت مقالكم الأخير، جلست أفكر وأتساءل ما سر تشتت فكر الاخوان وإصرارهم المضي علي الدرب الذي هم عليه؟ لا يمكن ان يكون هو الغباء فمعظمهم أصحاب مؤهلات علمية عالية. ثم خطر ببالي مقولة أو فتوي لا أدري حقاً كيف تصنف عندكم أهل العلم يقول فيها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله "فَمَنْ وَلِيَ وِلَايَةً يَقْصِدُ بِهَا طَاعَةَ اللَّهِ، وَإِقَامَةَ مَا يُمْكِنُهُ مِنْ دِينِهِ، وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَقَامَ فِيهَا مَا يُمْكِنُهُ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، وَاجْتِنَابِ مَا يُمْكِنُهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ؛ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا يَعْجِزُ عَنْهُ؛ فَإِنَّ تَوْلِيَةَ الْأَبْرَارِ خَيْرٌ لِلْأُمَّةِ مِنْ تَوْلِيَةِ الْفُجَّار" ماذا لو كان شرع الإخوان وما ينتهجونه مبني علي فهم معين لهذه القاعدة ،فإن كان فهما خاطئا فهل لك أن توضح لنا كيف ومتي يؤخذ بهذا القول" اهـ بنصه.

      والقول قد ورد بتمامه في مجموع الفتاوى ج28 ص 396. وتمام النقل قوله "ومن كان عاجزاً عن إقامة الدين بالسلطان والجهاد، ففعل ما يقدر عليه من النصيحة بقلبه والدعاء للأمة وفعل ما يقدر عليه من الخير لم يكلف ما يعجز عنه".

      والحق، أن هذا التساؤل قد تردّد في أماكن أخرى مَرت بي، وشغلتنى عن الردّ عليه وقتها شَواغل أخرى. لكن قد وجب تخصيصه بتوضيح منفرد لأهميته في تصحيح مفاهيم عديدة، منها مفهوم الولاية، والدين، وحدود الواجبات، وحدود القدرة.

      ويجب أن يكون معلوماً أنّ الإستدلال بنصٍ من كتابٍ أو سنة أو قول عالم، يجب أن يؤخذ في السياق العام أولاً، وأن يعتبر فيه المعاني اللغوية والشرعية للكلمات ثانياً، وأن يجمع بينه وبين النصوص الأخرى لينتظم منها عقد متناسقٌ من الفهم، بحيث لا يضرب قولٌ هنا أقوالاً هناك، فالشريعة، كما يقرر الشاطبيّ في الإعتصام، كالجسد الواحد، فاليد ليست جسدا والقدم ليست جسداً، ولكن كما يجب أن يعتبر الجسد وحدة واحدة، يجب أن يُنظر في النُصوص كوحدة واحدة، وهذا هو طريق الراسخين، خلافاً لطريق الزائغين، الذي يجعل القرآن عضين، ويفرق بين النصوص المختلفة، ويضرب الأقوال بعضها ببعض.

      والحق أن شيخ الإسلام بن تيمية، كعادته قد أوجز وأبدع في تلك المقولة الصحيحة الصريحة. لكن الأمر يبقى في تنزيل الأقوال على مناطاتها، ووضعها موضعها الصحيح من التصورات العقدية أولاً ثم من الأحكام الشرعية ثانياً.

      كما يجب أن يكون من المعلوم أن هناك فرق كبير هائلٌ بين إقامة الولايات الجزئية التى تختص بعدد من المسلمين في مكانٍ ما، وبين الولاية العامة، أو الإمامة العظمى، التي يقوم على أساسها بنيان الدين، ويعلو فيه توحيد الله سبحانه والتزام طاعته ظاهراً وباطناً، والخلط بين الإثنين خلطٌ بين ما هو من الواجبات الشرعية الداخلة في أمور الفقه، كأمور الحلال والحرام، وما هو من الواجبات العقدية التي هي من قبيل الإسلام والكفر.

      وشيخ الإسلام، وهو يتحدث في ذلك الموضع من فتاواه، قد بدأ حديثه، صفحة 390، بتوجيه الكلام إلى طائفة من أهل الخير، ممن يمتنعون عن الولايات الخاصة خوفاً من عدم القدرة على إعطائها حقها وإقامتها على تمام وجهها. وبيّن في سياق ذلك أقسام ولاة الأمور الأربعة ص393، من قصد العلو في الأرض والإفساد فيها، ومن قصد العلو دون الإفساد، ومن قصد الإفساد دون العلو، ومن ابتعد عنها لتجنب العلو والفساد. ثم بيّن أن الأصل هو ما عليه أهل الإيمان من قصد الإصلاح في تولى الولايات، ومن ذلك بالضرورة فعل المقدور عليه.

      والحق أنّ هذا القدر ليس مما يُحتاج إلى بن تيمية للإفتاء فيه، فإن الله سبحانه قد أرسى القاعدة العامة في القرآن "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها". وبذل الوسع هو الأصل، إنما الإختلاف هنا في قدر هذا الوسع، وحدوده. فإن كان الحديث عن تطبيق أحكام شرعية في مجال الحلال والحرام، مما قد يرد تحت باب التدرج في تطبيق الأحكام الشرعية، لا في إعلان الولاء والطاعة لله، فهذا أمر لا خلاف فيه. وأما إن كان الحديث في ترك شرائع الإسلام بالكلية، وإعلان الطاعة لمبادئ عامة تشترك فيها كافة البشر على مدى التاريخ، فإن هذا أمر آخر بالكلية، وهو كفرٌ يقاتل عليه من فعله، إن كان القتال مقدوراً عليه. وقد ذكر بن تيمية في ذات الجزء، "فثبت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة أنه يُقاتل من ترك شريعة الإسلام، وإن تكلم بالشهادتين"ج28 ص 357. فهذا قدرٌ لا خلاف عليه في فهم التوحيد وأصل الدين.

      فإن ثبت أنّ هذا الحديث يتعلق بترك إنفاذ بعض الواجبات حلالاً وحراماً، لا بشأن ترك الشريعة بالكلية، وأن هذا الوضع الأخير يقع تحت فتوى مختلفة تمام الإختلاف، إذ هو حينئذ يتعلق بمسائل الكفر والإسلام وإقامة التوحيد، لا مسائل الحلال والحرام والفروع، ننتقل إلى الأمر الآخر، وهو متعلق بقول بن تيمية "لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا يَعْجِزُ عَنْهُفالأمر متعلق بالعجز عن التحقيق، لا بالقدرة والتخاذل. والمشكلة اليوم أنّ تلك التي تسمى نفسها "التيارات الإسلامية"، يقف من ورائها غالبية شعبٌ كامل من المسلمين، ومن ورائهم تاريخٌ مديدٌ من الإنتماء إلى الإسلام وإلى دولة الخلافة، فالأمر ليس أمر عجزٍ عن إعلان دولة لا إله إلا الله، وإن وقع بعض العجز عن إنفاذ بعض الواجبات أو ترك المحرمات حسب ما تمليه الأحكام الشرعية شروطا وموانعاً، بل الأمر هو "الإعراض" عن هذا الإتجاه كلية، والتمسك بمدلولات مثل هذا التوجيه الفقهيّ في حديث بن تيمية، وهو توجيه غير مقبول للنصّ في هذا الموضع، لا شكلاً ولا موضوعاً. فهذا الإعراض ليس له ما يبرره من عدم القدرة. بل الحق أن الإعراض عن تولى الطريق الصائب في مواجهة المقاومة الكفرية قد سبق إلى الذهن وإلى التطبيق لدي من يستغلون هذا القول، ثم جاءت المبررات بعدها بتصيد مثل قول بن تيمية، وقطعه عن سياقه والإستدلال به في غير محله.

      وإنّ مما لا شك فيه أن تولى الأبرار خيرٌ من تولى الفجار، لكن تعريف الأبرار، لا يمكن أن يستقيم مع الرضا بدولة الكفر التي تضع مع الله آلهة أخرى تتحكم في شرعه وتشاركه في أمره، وهو مربط الفرس، وموضع الخلاف بيننا وبين المرجئة من الإخوان، أنّ إعلان الطاعة لله في كلّ أمره ونهيه وإتباع شرعه وحده دون غيره، ليست من الواجبات الشرعية، بل هي أسُّ الإسلام وعموده وسنامه، لاتوحيد بدونها، وإن كره المُشركون. كما أنّ تعريف الفُجّار يجب ضبطه، فالفجار جمعٌ من فاجر، وهو إن أُطلق في القرآن عَنَى الكفار حصرياً، لا مَنْ دونهم "وإن الفجار لفي جحيم". لكن لفظ الفجار في السنة وفى أقوال العلماء ومذاهب الفقه يعنى غير ذلك، بل يعنى أهل المَعاصى والآثام، كما فيالفقه "باب الصلاة وراء كلّ برٍ وفاجر". ومن هنا وجب الإنتباه إلى معنى هذه الكلمة في حديث بن تيمية، إذ يستحيل أن يقصد بها "الكفار" لأنّ الخضوع لحكم الكفار ليس موضع الحديث ابتداءً في هذا المكان، وإنما هو موضع حديثٍ عن أهل البرّ الذين يتهربون من مسؤولية الولاية لعدم قدرتهم على القيام بكلّ الواجبات أو منع كل المحرمات. أمّا أن يحكموا بالعلمانية ويتركوا الشريعة بالكامل، ويعتمدوا على نصّ كُفريّ كالمادة الثانية، فأين هؤلاء من البرّ والأبرار إبتداءً؟

      ثم إن التلاعب بتوظيف مفهوم "العجز"، لهو أمرٌ مكشوفٌ مفضوح، وسلعة لا تَنفق عند الله ولا عند العاقلين. فللعجز شروط وحدود، لا يمكن لكل واحدٍ أن يدّعيها ليتهرب من مسؤلياته، هذا لا يكون في عالم الأعمال، ولا في عالم الأديان. مصر حرة على أرضها، تسكنها أغلبية مسلمة، يتحكم فيها أقلية عسكرية مجرمة، والشعب قد مكّن لهؤلاء الإخوان أن يكونوا رجالاً مرة تلو الأخرى، لكن جيلهم هذا جيلُ عجزٍ وهوان، فلجؤا إلى الصفقات في الغرف المظلمة، ثم هم يتحدثون عن "العجز"، ويعلم الله أنه عجزهم عن أن يأخذوا الكتاب بقوة، لا عجز شرعيّ معتبر. هؤلاء ليسوا عاجزين عن أداء شئ، بل هم متواطئون على هذاالأمر، مؤتمرون عليه مع كفار الدولة وأرجاسها، فحكمهم حكمهم في الجملة.

      فيجب على الناظر المُسْتَدِل الحذر كلّ الحذر حين يمر بمثل تلك النصوص، فإن من وراء فهمها على الوجه الصحيح عِلماً متراكماً يجب أن يُرجع اليه، ونظراً تحليلياً صائباً يستدل به عليه.

      والله الموفِق.