فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      في رحاب العربية .. تحت راية القرآن

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

      تنزع بيّ النفس، من حين إلى حين، أن أعود إلى ما قرأت قديماً، في الأدب العربيّ، أرجع به، أو يرجع بي إلى عبق تلك الأيام الذهبية لأدبنا العربيّ، ووشيجته بتاريخنا وبديننا، تلك الوشيجة التي لا تنفصل عراها، إذ العربية هي لحمة هذا الدين وسداه، وكيف لا وهي لغة كتابه العزيز، ومعجزته الباقية أمد الدهر، تتحدى الملحدين وتهدى المؤمنين.

      رجعت اليوم إلى كتابٍ من أحبِّ الكتب إلى قلبي، "تحت راية القرآن" للمُبدع، عبقريّ العربية، وحارس الدين، مصطفى صادق الرافعيّ رحمه الله، فأردت أن أشارك قرائي في هذا الموضوع القديم الجديد.

      وحكاية هذا المؤلَف، بإيجاز، هي الردّ على التخليط الفاحش الذي جاء به طه حسين في كتابه الشهير بلا شهرة "في الشعر الجاهليّ"، والذي كفّره لأجله، فيما بعد، الأزهر الشريف، يوم أن كان أزهراً له رجال. وقد ادعى طه هذا أنّ الشعر الجاهليّ كله مَنحولٌ (أي مصنوع) على أصحابه، وأنه ليس صحيح النسبة اليهم، بل وضعته أيدى بعض شعراء الأمويين والعباسيين ليثبتوا أنّ القرآن فَرْدٌ في بيانه وأسلوبه! وجاء في سياق هذا الإلحاد الجاهل بخزعبلات، منها إنكار وجود إمرؤ القيس إبتداءً.

      وتأتي روعة هذا المؤلَف، إلى أمور عدة، تجعله مما لا يتم عِلمُ إمرئ في هذا العصر إلا بقراءته، ثم معاودة قراءته، مرة تلو الأخرى. ذلك أن ذلك الكتاب، مثالاً في النقد الأدبيّ، التاريخيّ، الدينيّ، دفعة واحدة، بأسلوبٍ أخّاذ، كأنما قُدّ من أدم العربية، يسلب العقل حُسن ألفاظه وبراعة تعبيراته، ولطف مآخذه، حتى يجعلك تكاد تنسى الموضوع الأصلي الذي يدور حوله الكتاب، وهو بيان عوار إمام المبشرين والمستشرقين في القرن العشرين، طه حسين، فيما ذهب اليه في كتابه الذي أشرنا اليه.

      ثم هو كتاب في التاريخ العربيّ، أدباً وسيرة، يأخذك في تتبعٍ نشأة أدب العرب وسيرة أئمته في الجاهلية ثم في الإسلام، من خلال تتبع عورات ذلك المُهلهل السمعة، الفقير الفكرة، طه. فتجده يحدثك عن نشأة إمرؤ القيس، وشعر طرفة بن العبد ويشار بن برد، ويعتمد في مداخلاته على ما نسج عن "كليلة ودمنة" يأتي منه بالحكمة التي تناسب الموضع وتكشف الفكرة.

      اسمع له وهو يبيّن أسلوبه الذي اتبعه في الكتاب "ونحن مستيقنون أن ليس في جدال من نجادلهم عائدة على أنفسهم، إذ هم لا يضلون إلا بعلم وعلى بينة! فمن ثمّ نزعنا في أسلوب الكتاب إلى منحى بيانيّ نديره على سياسة من الكلام بعينها، فإن كان فيه من الشدّة أو العنف أو القول المؤلم أو التهكم، فما ذلك أردنا، ولكنّا كالذي يَصف الرجل الضَال ليمنع المهتدى أن يَضِل، فما به زجر الأول، بل عظة الثاني..". فهو إذن يسلك مجراه في البيان، غير عابئ بما فيه من شدة على طه، إذ نجاة الناجين أهم كثيراً عنده من غضب الضالين.

      ثم هو يمسّ واحدة من أخبث أدواء زماننا هذا، الذي أكرم الله الرافعيّ بعدم مشاهدته! وهي مسألة التجديد والمجددين. وهي المسألة التي عرضنا لها في عدد من مقالاتنا السابقة، في معرض الردّ على أمثال سليم العوا، وحسن الترابي، وإمام "المُبَددين، كما يسميهم الرافعيّ رحمه الله، راشد الغنوشيّ، وغيرهم، ممن ولع بكلمة التجديد، زهادة فيما قدّم الإسلام وحضارته للدنيا، وحباً في تقليد الغربيين وبدعهم من ناحية أخرى، فجمعوا بين ضعف الإيمان، وضعف النفس وهزيمتها.

      يقول الرافعيّ " هو وأمثاله المجددون يسمّون كتاباً وعلماء وأدباء، إذ كان لابد لهم من نعتٍ وسمةٍ في طبقات الأمة، غير أنهم على التحقيق غلطات إنسانية تخرجها الأقدار في شكلٍ علميّ أو أدبيّ ... فالمجددون الملحدون هم جزء من الخطأ يخرج من عمله جزء من الصواب، وما أشبههم بالمواد السامة يُداف قليلها في الدواء لتكون قوته من قوتها.." وهو يقصد في هذا أنّ أمثال هذه الأعمال الخربة المغرضة كمثل ".. الوباء يمر بالدنيا فيصيب منها، لكنه يترك في أيدى أطبائها المصل الواقي منه أبد الدهر"، وكتابه هذا هو من المصل الواقي في حالة وباء طه حسين.

      الكتاب إذن قديم في تناوله لقضية، وإن ذهبت مع الأيام جِدّتها، إلا إننا لا نزال نعاني آثارها، في ذلك الضعف البيانيّ والركاكة اللغوية التي تصبغ كتابة كلّ من كتب اليوم، إسلاميّ أو علمانيّ، ثم نتساءل لم خرج هذا الجيل الجديد عيّا قاصراً في فهمه وقوله جميعاً؟ ثم هو جديدٌ فيما ينبه له من ضرورة الحذر من المجددين "المبددين"، ومن تكرار استعمال هذه اللفظة التي هي حقٌ أريد بها باطل، ووضعها في غير محلها، واستعمالها فيما لم تنشأ لأجله.

      رحم الله مصطفى صادق الرافعيّ، وهدى أبناء هذا الجيل الذي عَرى عن العربية، وعن تاريخها القديم والحديث، والذي هو مفتاح التاريخ الإسلاميّ كله، لا يفهمه أحدٌ لم يعالج هذا الفنّ، ولم يزيّن فكره بأنواره.