الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
يأتي رمضان هذا العام على عادته فينا، كريماً مضيافاً داعياً للخير، للنفس وللغير، لا على عادتنا فيه، لا فرحى، ولا مستبشرين. إذ إن الإحدث لم تسر فينا على ما تمنينا، وذلك بتقصيرٍ منا وظلم لأنفسنا "وما ظلمناهم ولكن كانوا انفسهم يظلمون" .
لكن رمضان هو رمضان، الشهر الأكرم، الذي اختاره الله سبحانه، وفضله على كافة الزمان، لينزل فيه القرآن "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان". فخاصية رمضان، هي نزول القرآن، نزول الهدى والفرقان، نزول الوحي والبيان، نزول الأحكام والإيمان. لكن ما هي علاقة كلّ ذلك بالصيام، وبالإمتناع عن الطعام؟
الحياة البشرية سمتها الإستكثار. الإستكثار من كل شئ هو متاع مستنفذ. الطعام والشراب، الشهوة، النساء، المال، المقتنيات والمستهلكات. كلّ شئ. تلك هي التعريفة البشرية للحياة. أمرٌ يتعلق بغريزة البَقاء يدفع النفس للإستكثار مما عندها خشية أن ينفد، وهو نافذ مهما حاولنا ".. وما عند الله باقٍ".
هذا الإستكثار هو وسوسه الشيطان اللعين، أن اجمع يا بن آدم، ففى الجمع بقاء لك أطول ومنعة لك من الذل والفقر، بينما العكس هو ما يعدنا ذلك الخبيث، إذ هو يعدنا الفقر "الشيطان يعدكم الفقر..."، فالإستكثار من المتاع ليس غنى، "والله يعدكم مغفرة منه وفضلا" وما أرى الفضل هنا إلا صلاح الدنيا والإستغناء فيها، إذ جعلها الله تالية للمغفرة، التي هي الأهم والأولى، وإن لم يمنعها بنى آدم بالكلية.
هذا النّهم للحياة، هو ما يصبغ كل تصرفاتنا، وبالتالي يحكم علاقاتنا مع الغير، ومع الله سبحانه.
كلمة واحدة .. التّخفف. رمضان يأتي الينا بالتّخفف من الدنيا، من كل متاعها، حتى الضرورى منه، الماء والطعام. وسبب ذلك أن النفس لا تقبل الهدى إن كانت مشغولة بالضلال. فكان أن أعطاها الله فسحة من شهر كاملٍ، وأن بدأ فيه تنزيل القرآن، كتاب الهدى، فيحل محل ثقل الشواغل وغواشى الموانع، فتصفى القلوب لكلمات ربّها، دون عوائق أو منغّصات.
في رمضان، يتخفف المرء من الذنوب، خاصة اللمم الذى يكاد يكون ملازماً لكلِ نفس في سكونها وحركتها، ذلك اللمم الذي يعرض على الإنسان في خطراته ولفتاته ونظراته، فيجتمع، فإذا هو قدر هائلُ من الذنب، إن كان مع الإصرار عليه، واتخاذه عادة ملازمة. هذا ما يقض مضاجع الذين آمنوا فأمنوا كبائر الإثم، فلم يبق للشيطان اليهم مدخلٌ إلا تلك العوارض المتكررة المُلحة.
في رمضان، يتخفف الإنسان من الخوف الذي يحيط به، خوف الفقر، خوف الدنيا، خوف الحاجة، خوف الفقد، فكلها مخاوف تصرف الناس عن عبادة الله، حيث لا يجب أن يخافَ المرء إلا الله، ولا يكون محل لخوفِ غيره في قلبه.
وبين انعكاس مادتي الإستكثار والتخفف، في حياة المسلم، يأتى رمضان بالخير كله، والفضل كله.