الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
من أهم الموضوعات التي تشغل بال الكثير من أبناء الحركة الإسلامية في زماننا هذا، هو شرعية إقامة حزبٍ سياسيّ، أو الإنضمام إلى حزبٍ سياسيّ، في ظلّ الدولة التي يحكمها دستور علمانيّ كالدولة المصرية، خاصة بعد ذلك الصعود السريع لنجم الديمقراطية العلمانية، وغزوه لواقع المسلمين بعامة، بل وبكثير ممن كانوا ينتسبون إلى النخب الإسلامية. فنجد اليوم تهافتاً عجيباً على إقامة أحزاب سياسية، وكأن الناس كمن جاع طويلاً ثم فتح له باب الطاحون! أو الأصح، كفراش راح يتهافت حول النور الذي أوقد له، وهو لا يعلم أن فيه حتفه. وصدق الشاعر
رُبّ إمرئ حَتفه فيما تَمنّاه
ولست بصدد الحديث عن أولئك الذين يقيمون، أو ينضمون، للأحزاب القائمة في ظلّ العلمانية، إيماناً بشرعيتها، أو بشرعية العملية الديموقراطية ذاتها، فإن الحديث إلى هؤلاء محله مباحث التوحيد، وتحقيق معنى لا إله إلا الله، وحقيقة الدخول في الإسلام. إنما يتوجه حديثى هذا إلى ذلك الربع من النخب الإسلامية، التى تقصد إلى استخدام العمل الحزبيّ لمناهضة التوجه العلمانيّ، ومحاولة القضاء عليه، أو، بتعبير آخر، إقامة أحزاب إسلامية، تقف في وجه الأحزاب العلمانية.
وحديثى يتعلق بإعتبارين، أو فلنقل نظرين:
النظر الأول، وهو الذي يذهب إلى أنّ إنشاء الأحزاب في ظل النظام العلمانيّ، خرم لجناب التوحيد وإبطال لوثاقه. ذلك من حيث أنه يعنى ابتداءً قبول هذا النظام، والرضا بالعمل من داخله، أياً كان توجه هذا العمل. وهذا النظر، يعنى أنّ الناظر قد اعتبر إقامة الحزب في رتبة المقاصد الشرعية، أو الغايات، أو ما يقصد بالتحريم لذاته، بل الحق، أنه قد ارتآه أعلى رتبة من ذلك، إذ هو من باب العقائد لا من باب الأحكام ابتداءً. ومن ثم، ففي هذا النظر، يكون هذا الفعل كفراً. ثم ينقسم بعد ذلك الرأي، إلى رأيين، رأي يقول بعدم كفر فاعله لوجود شبهة تأويل، ورأي يرى كفر فاعله عيناً، وإن لم يكفر من عذره بشبهة التأويل.
النظر الثاني، ويحتاج هذا النظر إلى مزيد من التفصيل، إذ يذهب إلى أنّ إنشاء الأحزاب بشكلٍ عامٍ، هو من باب الوسائل المفضية إلى غايات، وهو ليس غاية في نفسه. وهو ما يعنى أنه ليس من مسائل العقيدة أو التوحيد، التي كلّ مسائلها مقاصد وغايات. والدليل على ذلك أن الأحزاب، كوسيلة سياسية أو إجتماعية، ليست محرمة، ابتداءً، بل قد بارك رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف الفضول، وهو حزب اجتمع على نصرة الحق ورفع الظلم. ففكرة التحزب لنصرة مبادئ معينة في ظل الشريعة الإسلامية لا غضاضة فيها، والدليل في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت" صحيح أخرجه أحمد دون الزيادة. فوقع التحريم على الوسيلة، لأنها محرمة فقط في ظلّ النظام العلماني الكافر.
وقد قرر علماء الأصول أنّ حكم المُحَرّم تحريم الوسائل يختلف عن المُحَرّم تحريم المقاصد، ففي الأول توسعة عن الثاني، لكن قد حدد العلماء قدر هذه التوسعة، ولم يتركوا بابهاً مفتوحاً. قالوا، إن ما حَرُمَ تحريم مقاصد حلّ للضرورة، وما حَرُم تحريم وسائل حلّ للحاجة. والحاجة في الفقه الإسلامي مُحدّدة بما يمكن أن تستمر معه الحياة، بمشقة، من جهة، وبما هو من باب رفع الضرر، لا من باب جلب المنفعة من جهة أخرى. فإذن، من أراد أن يستخدم وسيلة ممنوعة لجلب منفعة، في درجة الحاجة، لم يجُز، وإنما المنفعة تأتي من باب دفع المضرة.
فإذا نظرنا هذا النظر، في مسألة الأحزاب، فإنه مع كونها وسيلة، وليست مقصداً، فإنه أولاً، لا حاجة تدعو لإنشائها في واقعنا هذا، إذ لن يكون مسار الدعوة أشد مشقة منه بدونها. وثانياً، إنه حتى لو رأينا حاجة اليها، فهي من باب جلب المنفعة للدعوة، لا دفع الضرر عنها، إذ يمكن للسلطات أن تلغي الحزب بجرة قلم، كما أنه لا يجوز اتفاقاً أن يكون الحزب ردءاً للدعوة، كما بيّناً، وهو فارق هائل في الحكم على الفعل بالحلّ أو بالحرمة.
من ثمّ، فإنه يتبين من هذا التحليل أنّ حكم إقامة الأحزاب، في كلا النظرين، حرامٌ شرعاً. والخلاف بين النظرين هو من باب إجراء الأحكام على من يفعل. ففي النظر الأول، يكون مرتكب هذا الحرام قد وقع في دائرة مخالفة عقدية، أما في النظر الثاني، فيكون مرتكب الفعل قد وقع في حرامٍ، لن يجديه نفعاً، بل سيضيع الوقت والجهد دون نتيجة، إذ إن الحرام، في أصل تعريفه، ما لا تنشأ عنه منفعة شرعية.
ثم أودّ أن أشير إلى أننى لم أفرّق في هذا المطلب بين الناحية الشرعية والناحية الواقعية، فقد انتهينا من قبل إلى أنّ الفهم الصحيح للإسلام يملى أنه لا فرق بين الأمرين، فإن الله يُحرّم ما يضر واقعاً لا خيالاً أو إجحافاً، ويوجب ما ينفع واقعاً لا خيالاً أو إجحافاً.
وإني أتوجه إلى علمائنا، من أصحاب الباع والنتاج العلميّ في علوم الشريعة والأصول، أن يتصدّروا لما دوّنت، على ضعف باعي وقلة متاعي، ليقيّموا ويصحّحوا ، أو ينصروا ويدعموا، فإن هذه الفتنة قد طال لهيبها بعد المشرقين، ولابد للعلماء النحارير (لا علماء الفيسبوك رجاءً)، أن يكون لهم القول الفصل، المُمَهّد بالدليل الخاص المحكم، لا الأدلة العامة المتشابهة، في هذا الأمر.