الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
من المُسلّم به في قواعد النَظر والإستدلال أنّ "الجمع بين أطراف الأدلة"، بتحقيقها والجمع بينها، هو الطريق السنيّ الذي يمثل منهج أهل السنة والجماعة. وقد ضربنا لذلك أمثلة في كتابنا "حقيقة الإيمان"، مما تعتمد عليه المرجئة في إثبات الإيمان بالتلفظ بالشهادتين، وإعتبار أنّ التلفظ بقول "لا إله إلا الله"، هو دلالة إسلام لا حقيقته (راجع حقيقية الإيمان 107).
ومن هذا النظر، فإنه من الأهم العاجل أن نتعرض إلى حديثٍ شريفٍ يعتبر من الأصول في منهج أهل السنة والجماعة، وهو الحديث الذي ورد بعدة روايات، إخترنا منها الصحيح، نجملها فيما يلى:
- حديث جابر بن عبد الله يقول سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول "لا تزال طَائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة" مسلم
- حديث ثوبان، رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ" مسلم
- حديث الْمُغِيرَةِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَنْ يَزَالَ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى النَّاسِ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ" البخاري ومسلم
- قد خُصِّصت الشّام وبيت المَقدس في بعض الروايات الصحيحة الأخرى.
والحق، أنّ هذه الروايات المُتعددة تُنبأ، للفاحص المُتأني، عن مَعانٍ كثيرة، من أهمّ ما يَكون للداعية الحَركيّ في أيامنا هذه أن يحققها.
الظهور على الحقّ يعنى مَعرفته والتحقّق به، ومن هنا فإن هذا يَعنى، من مَدلول الرِواية الثانية من حديث ثوبان، أنّ الحقّ لنْ يضيع، وأنّ دين الله محفوظٌ بكماله، لا يتبدل ببدع مبتدع، ولا بكفرِ كافرٍ أو تزويرِ مُزوّرٍ. ثم إنّ قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "من خذلهم"، يعنى أنهم سائرين بالدعوة فعلاً، وأن هناك من سار معهم فيها، ثم خذلهم وتركهم في طريق الدعوة. ومن هنا، فإن هذه الرواية تشير إلى الدعوة إلى الله، ومن سار في طريقها وعلى نهجها، لا يضره مخالفٌ أو خاذلٌ.
ثم يشير حديث جابر، إلى أنّ هؤلاء الظاهرين على الحقّ، يقاتلون عليه، ويواجهون به، ويتصادمون مع مخالفيهم من أجله. كما أنه يدلّ على أنهم ظاهرون بهذا القتال على الحق، وأن أية طريق غير المُواجهة، بشروطها، لن يجدى نفعاً.
ومن هنا أخطأ من ظن أن الدعوة التي لا تقصد إلى إقامة دين الله والمنافحة عنه بكل أنواع المواجهة والصدام، في مناطه وبتمام شروطه وانتفاء موانعه، تمثل هذه الطائفة الظاهرة على الحق، إذ ليس بالمعرفة البحتة، ولا بالدعوة البحتة يقوم الحق ويظهر على الناسن كما في رواية المغيرة رضى الله عنه، من ظهورهم على الناس.
وكذلك يظهر خطأ من ظنّ ان القتال بمجرده، دون الظهور على الحق ومعرفته، ونشره، لتتم الشّوكة التي يكون للمواجهة والصدام معها ثمرة يقتطفها العاملون، هو طريق الطائفة المنصورة، إذ يجب أن تكون لها شوكة ومنعة تتم بنشر الدعوة، ثم تجييش جموع الأمة، ثم المواجهة، ثم المصادمة فالقتال، إن لزم الأمر.
وهذا الطريق هو الذي بيناه وسلكناه في توضيح منهج التيار السنيّ، أنّ المَسلك هو الدعوة التي يَحملها من ظَهر على الحَق، أي عَرفه، إلى عامة الناس، نبيّن التوحيد، وحدوده، وأركانه، ونواقضه، تطبيقاً على ما في عصرنا من كفريات، ونواقض، ظاهرة وخافية، دن مواربة ولا مداهنة. ومن ثم، ننشأ تياراً توحيدياً يحمل الحق ويؤمن به، نصل به إلى الكتلة الحرجة التي يمكن عندها النداء للثورة والتجمع في الميادين والدعوة إلى دولة "لا إله إلا الله". هذا الحشد، الذي يتجمع تحت شعار دَولة لا إله إلا الله، سيواجه المصاعب، وسيواجه مقاومة عنيفة من دولة الظّلم، أو البَغي أو الكفر، حسب ما ستكون عليه ساعتها، فإن الباطل أيا كان، لا يترك الحق ظاهراً إلا ناوشه وصادمه، وحاول القضاء عليه. ساعتها يحكم الله بين الناس بالحق، ويكون مدلول رواية جابرٍ هو الذي قد فرضه الله على أهل الحق، ساعتها فإن الطبيعة البشرية تأبى أن يُعتدى عليها إلا أن ترُدّ العدوان بمثله، كما قال تعالى "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم". يومها يكون قد تحرّر الولاء، وتميّز أهل الحق من أهل الباطل، وصار كلّ حزب يدافع عما سيقابل عليه الله، إنْ توحيداً فتوحيد، وإنْ كُفراً وعلمانية فكفر وعلمانية.
إذن، فالتيار السنيّ، هو الذي يَجمع في مفهومه وحركته، بين أطراف روايات هذا الحديث الجليل، دون إخلال بأيها جاءت، فإن الإخلال بها لا يأتي إلا بكل خطلٍ في الرأي وجنوحٍ في الحركة.