فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      مقاصد الشرع في الحِلّ والتَحريم .. درس عن الثقة بالله

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

      يعرف من اختلط بي أننى أتحدّث، حين أتحدث، بكل جوارحى وكياني إن تعلق الأمر بدين الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، حتى ليحسبنى المُحاور قائما على جيشٍ باتَ على أمتارٍ من حصون العدوّ! وفي حديث طويل، جرى بيني وبين أحد الفضلاء من المشايخ، لم يكن استثناءً من ذلك الطبع الشديد، استنزَفت فيه قدراً من دمى وأعصابي في الحديث عن كفر النظام الديموقراطيّ وخراب من سار في سيره ونهج نهجه، وحرمة ذلك السير والنهج، سألنى الشيخ سؤالاً، قال ما معناه: هذا أمر متفق عليه، ولكن، دعنا نتناول الأمر من الجهة الواقعية، أليس الإنتخاب، ولو تحت ظلْ العلمانية، أفضل من ترك الساحة للعلمانيين يرتعوا فيها دون مُعارض؟ قلت هنا مربط الفرس ومبرك الراحلة، بارك الله فيك، فقد أهديتنى مقالاً لعل فيه فائدة لمن أراد.

      الأمر الذي لم ينتبه اليه أكثر مشايخنا، حتى الصّادقين منهم، هو معنى الحُرمة في الشريعة، وهل يجوز هذا التفريق بين الحرام، وبين ما يمكن أن يطبق منه واقعاً. الحرمة في التعريف الأصولي هي "ما يثاب تاركها وما يعاقب فاعلها". هذا هو التعريف الدارج عند الأصوليين، وهو تعريف يُعنى بالشِقّ الشّرعيّ من الحكم، لا غير. لكننا هنا نعرّفها تعريفاً مختلفاً، يلقى بطيف من الشقّ الواقعيّ فيه، ويدفع بقدرٍ من مقصد الشارع في التحريم والتحليل في التعريف. فالتحريم يعنى "ما مَنَع منه الشارع لتجنب ضررٍ يربو على ما قد ينفع فيه"، وعكس ذلك الوجوب فهو يعنى"ما طلبَ الشارع فعله لحدوث نفعٍ منه، يربو على ما قد ينشأ منه من ضرر"، وبينهما سائر الأحكام التكليفية الثلاثة الأُخر.

      إذا، فالشارع حين حَرّم فعلاً، فإنما حرّمه لأنه لن يقع منه نفع يدرأ الضّرر عن العباد، ولن تكون فيه مصلحة لهم مهما تصوّرها الخلق، إلا أن تكون ثانوية، بالمقارنة إلى الضرر العائد منها، ومن ثم وقع التحريم، لا تعسّفاً ولا تحجّراً.

      ومن ثم، فما معنى مثل هذا التساؤل، أنه "دعنا من الحكم الشرعي الآن، فنحن متفقون عليه، لكن ماذا عن الواقع؟" الواقع هو أنّ ما حَرُم لن يأتي بنفع عام، بأي حالٍ من الأحوال. وها نحن نرى مثالاً لهذا الأمر، فيما حدث في تونس، بعد أن تولّى حزب النهضة العلماني، وفي مصر خاصة، حين وضع الإخوان يدهم الآثمة في يد العسكر، وهو ولاءٌ محرم، ثم في تبنّيهم، وكلّ من تابعهم على ذلك مثل أدعياء السلفية، وجماعة الشاذليّ والجماعة الإسلامية، للحلّ الديموقراطيّ الغربيّ تحت زعم المصلحة، وكأن المصلحة في ضد الحكم الشرعيّ. فقد وضع العسكر كل الأحابيل ليوقعوا بهؤلاء من مرتكبى الحرام، الذين فرقوا بينه وبين الواقع، وها هي أيام قليلة تفصلنا عن الفصل الأخير في انتصار الحرام، ورجوع الفساد إلى حكم مصر، إن كان قد تركها إبتداءً.

      المشكلة هنا أنّ مجرد هذا التساؤل، يَعكس فَصلاً حقيقياً بين الشرع والواقع، وبالتالي يَعكس فَصلاً بين الدين والسياسة. وهذا عينُ ما ينكره هؤلاء المَشايخ أصلاً، بكل قوة وحزم. إنّ النّظر إلى الواقع، مُنفصلاً عن الحُكم الشرعيّ، هو عين فصل الدين عن الدولة، والسياسة عن الشّرع. هو عين العلمانية المُستترة، وإن ظنّ صاحبها أنه أبعد الناس عنها.

      سُلوك الطريق الديموقراطيّ لم يكن ليؤدى إلى الحكم الإسلاميّ، بأي وجه كان، وتحت أي زعمٍ كان، بل ولم يكن ليؤدى إلى نشر العدل والحرية والإستقرار، أو نزع الفساد والدكتاتورية والطاغوتية. لماذا؟ لأنه حرام، ليس إلا. وما يحدث اليوم على أرض مصر وفي ساحتها السياسية أدلّ دليلٍ على ما نقول، إلا لمن أصبح قلبه غلفاً وعقله منتكساً.

      لقد كان من رحمة رب العباد على العباد أن بيّن لهم الحلال والحرام، ليكون ذلك دليلٌ أكيد على ما ينفعهم وما يضُرهم، على ما يفيدهم وما يؤذيهم، على ما يناسبهم من واقعٍ فيفعلوه، وما يفسد عليهم الواقع فيجتنبوه.

      لا محلّ إذا لمثل هذا التساؤل، فهو عكس للحقيقة التي يجب أن يتعامل بها المسلم، وهى أن يثقَ في حكم الشرع ثقة تجعله يطرح نظره وراءه، ويقدح في صحة تحليلاته إنْ تجاوَزت الفتوى الشَرعيّ. وليس هناك فتوى شرعية صحيحة يمكن أن يناقضها أو يصادمها فكرٌ ينبنى على الواقع وحده دون عونٍ من الشرع. هي السلسلة الذهبية كما في الحديث، حكم شرعيّ، وواقع قائم، ففتوى تقوم على أساس الحلال والحرام، فنفعٌ يقعُ أو ضَرَرٌ يُمنَع.

      إن مثل هذا التساؤل يقع، فيما نرى، تحت مفهوم التقديم بين يديّ الله ورسوله، من ناحية أنه يسبق إلى تصور ما يرى أن المنفعة تتحقق به أولاً، ثم يقدم على عملية الفتوى ثانياً. ومن يرى مثل هذه الرؤية، وإن كان مخلصاً صادقاً، فقد ظنّ أن فعل الحرام، وإن صاحبه بعض المنفعة، قد تكون نتيجته النهاية، منفعة غالبة، أو دفعُ ضَررٍ مُحقق. هذا لا يكون. وقد ناقشنا في مقالنا السابق بعنوان "فقهُ الأولويات .. ورفع الخَطر عن الأمة"، كيف أنّ الفعل المحرّم قد ينشأ عنه بعض النفع الثانويّ، مما يمكن الإستفادة منه، إن أتى على رغمٍ من المرء، وضربنا المثل بإنتخاب محمد مرسى، الذي هو أفضل بكل المقاييس من نجاح أحمد شفيق، وإن كان إنتخاب كلاهما حرام، في ظل النظام العلمانيّ. لذلك لم نفتى بإنتخاب أيهما، ولكن ذكرنا أنّ النفع الذي قد يصاحب فشل أحمد شفيق ونجاح مرسى، هو من قبيل القدر الكونيّ لا القدر الشرعيّ، الذي يصاحب الأحداث، دون أن يكون مقصوداً شرعاً، وهو ما لا تضر الإستفادة منه إن وقع.

      فليحذر المرء إذا، شيخاً كان أو عامياً، أن ينساق وراء مثل تلك التساؤلات، أو أن ينجرف وراء مثل هذا المنطق الأعوج، بأن يضع الواقع قسيماً للحق.