فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      إسلامٌ جَديدٌ ... أم تَجديدٌ في الإسلام؟

      العقيدة، أي عقيدة كانت، هي مجموعة من المفاهيم الأساسية التي تُشَكّل قواعدها الثَابتة التي يُقام عليها هيكلها الأسَاسيّ ويُشيّد من خلالها بناؤها المتكامل. وهذه المفاهيم يتصل بعضها ببعض ويُكْمل بعضها البعض ويتواصل في منظومةٍ واحدةٍ لا تسمح بتبديل أو تغيير. ففي الإسلام نجِدُ أنّ مفهوم الألوهية يستلزم مفهوم الربوبية ويقع منه موقع النتيجة من السبب، فلا يصلُح أحدُهما دون الآخر. وبالمقابل، فموقف التوقفُ في كُفر القَبَط الوثنيين، الذي يعكس، بلا أدنى شبهة، التردد والشك في كفرِهم، يستلزم علاقةً مختلفةً بين الإسلام وبين دين القبط الذي، من هذا المنطلق، ليس بكفرٍ، ولا هو بإسلام (لعلهم من أهل الأعراف إذن!)، وهو ما يؤسّس للمواطنة ويتناسق مع مفهوم تساوى الأديان.

       وقد هالني ترديد النظر في مظاهر التبديل والتحريف الذي تتعرض له المفاهيم الإسلامية الأصلية، فيما تناولت من مقالات في الأيام السابقة، والتي تَعَرّضّتُ فيها لمفاهيم الوسطية والتجديد والمواطنة ، وما عليه صُورة الإسلام الذي يسعى لترسِية مبادئه وترسيخ مفاهيمه "مفكّرون إسلاميون" هم إلى علمانية وسَطِية، تتبنى إسلاماً مُطعّماً بالعلمَانية، أقرب منهم إلى الإسلام الذي أنزل على مُحمدٍ صلى الله عليه وسلم.

       لكن، أود أولاً ان أتلمّس السبب الذي يدعو من عُرف بالإنتساب للإسلام، بل وبالفكر الإسلاميّ، أن يلتوى بمفاهيم الإسلام إلى الدرجة التي سقط فيها محمد سليم العوا بإنكاره تكفير بيشوى القبطيّ! أي لدرجة التوقف في تكفير المثلّثين، الذين يدعون لله ولداً، وهو القول الذي يستتاب قائله، فإن تاب وإلا قتل كفراً ولم يدفن في مقابر المسلمين، ثم ما يَدْعون اليه من مَفهوم المُواطنة، وياللخيبة! لم يرتقوا بإسلامهم إلى حتى ما دَعَت اليه صهاينة إسرائيل من دعوة العالم للإعتراف بيهوديتها كدولة، وفرض قَسَم الولاء لليهودية على أفرادها، في الوقت الذي يسعى فهمى هويدى وسليم العوا وعدد من ناشئي الجيل الإعلامي للمواطنة العلمانية التي تسوي بين الأديان وبين المسلم والكافر، بدلا من إسلامية الدولة!

       أعتقد أن هناك أكثر من سبب وراء ذلك التراجع المَهِين عن الثوابت العقدية من مثل هؤلاء المحسوبين علي الفكر الإسلامي، منها:

        الإنهزام الواضح أمام الهجمة الشرسة على الإسلام سواءاً من الخارج الصليبي الصهيوني، أو من الداخل العلمانيّ المسيطر على الحكم و القبط الموالئ للغرب الصليبيّ. وهو ما أدى بهؤلاء إلى البحث عن وسائل التقارب مع الفكر الغازى وإتخاذ استراتيجية التعايش كوسيلة لنزع فتيل الخوف من المواجهة.

        الخلفية الإسلامية المغلوطة التي امتزجت بالفلسفة والإعتزال، وبموروثات الفكر الغربيّ الحديث

      • فإذا نظرنا في سيرة أحد رؤوس العلمانية الوسطية في مصر، محمد سليم العوا، لوجدنا، حشداً هائلا من الخبرات والأنشطة العلمية والمقالات المنشورة وعدداً من الكتب المطبوعة. إلا أنّ هذا الحَشْد يتمخّض عن غالبية في مجال القانون الوضعي البحت، أو في مجال التجارة والأعمال، وليس منها ما يتمحض للإسلام إلا عدد من الكتب التي يبحث أكثرها في موضوع " تجديد الإسلام، والفقه الإسلاميّ "، ومحاولة الدفاع عن قضايا الفقه التي لا تروق للغربيين، مثل رأيه في تساوى دية المرأة بدية الرجل، وهو ما شارك فيه الشيخ القرضاوى من أن فقهاء الإسلام على مرّ العصور لم يدركوا أن ديّة المرأة مثل ديّة الرجل لعدم الحاجَة للبحث فيها كلّ هذه القرون! حتى أتي الشيخ القرضاوى وسليم العوا، فاستخرجا كنزهما واكتشفا الحكم الشرعيّ الصحيح، استشهاداً بمتشابهات من الآيات كقوله تعالى: " وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍۢ ۚ يَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ"، والتي لا يثبت بها التساوى في الديّة! بل تأمر بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصلاة والزكاة خاصة، ثم بطاعة الله ورسوله عامة، ومن مفردات الطاعة هي أن تكون دية المرأة نصف دية الرجل، فخالفا سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنة الصحابة وإجماع علماء العصور التي نقلها بن عبد البر وبن المنذر، والذي لم يُعرف له مخالف إلا بن علية والأصم كما نقل بن قدامة في المغنى، قال:"وهو قول شاذ يخالف إجماع الصحابة، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم" المغنى ج7ص535. ولا يسعنا هنا في هذه العجالة إلا أن نُذَكّر أنّ ميراث الرجل ضعف ميراث المرأة، ومن ثمّ إن قُتلت المرأة فإن مقتضى العدل والمصلحة والعقل أن يدفع فيها العَاقِلة نصف ديّة الرجل إذ لم يكن لها نصيب من ميراث إلا النصف، وهو مقتضى العدل. هذا حتى إن إعتمدنا نظر العوا والقرضاوى في أن المصلحة تعلو على النص إن تعارضا. ثم علينا أن نصدق عجباً أن مثل هذا التخريج المخالف للسنة والإجماع ليس له أي دخل بالضعف والهزيمة أمام مشكلة المرأة التي اختلقها الغرب ونقلها إلى أرض الإسلام!

      • ولولا عدم مناسبة المحلّ لتوسعنا في مناقشة مثل هذه الشذوذات الفقهية ولكن لنا اليها عودة في كتاب موسّع إن شاء الله تعالى. ولكنّا أردنا هنا أن نبين أنّ هذه الشذوذات الفقهية التي يسمونها تجديداً ليست إلا من قبيل الإنهزام أولا، والفكر المخلّط ثانياً.

        تقديم الهوى على الأدلة الشرعية، واصطناع ما أسموه بالتجديد ليكون سِتراً نفسياً وأكاديمياً لتبديل ما ثبت من معطيات الإسلام، والتي لا تتمشى مع تيار الفكر الحَداثيّ المدعُوم بالعلمانية الحاكمة. وليس هناك أفضل من الإلتواء بالأدلة، وأقرب من العبث بالثوابت الفقهية للتمويه على العامة، وإيقاعهم في وهم التجديد، ومن ثمّ أن تتخذهم العامة رؤوساً وأئمة، وتنسب إليهم كلّ صفات العلم والحكمة!

      ما لم يدركه هؤلاء من أئمة العِلمانية الوسَطية وحُكماء التَجديد الزائِف، أو ما أدركوه ورضُوا بنتيجته إختياراّ وطواعية، أن البناء الإسلامي الذي يشيّدونه على أنقاض الثوابت والمفاهيم الإسلامية الأصيلة لا يمتُّ للبناء الإسلاميّ الذي أراده الله سبحانه للناس، والذي شيد قواعده واقام جُدُرَه محمد صلى الله عليه وسلم. فالعبث بالقواعد والمفاهيم لابد من أن ينشأ عنه هيكل وبناء مختلف عن الأصل، وهي حقيقة لا يجادل فيها إلا مُمْتَرٍ أثيم. الإسلام الذي يريد هؤلاء إقامة بنيانه وتشييد هيكله من خلال هذا التجديد وهذه الوسطية، هو أقرب ما يكون إلى النسخة الأمريكية للإسلام التي يتبناها للمسلمين أوباما وشيعته من الصليبيين، ويؤمن بها مشعوذى الصوفية، ويروّج لها أمثالُ عمرو خالد وطبقته من "دعاة" المسلمين، الذين يلقبونهم بالدعاة الجدد، نسبةً إلى "التجديد" المُحرّف!

      نعم، يتمَتعُ هؤلاء بالشهرة ويتَلقّون الأوسِمة والجَوائِز، ويُدْعَون للحديث في كلِّ منتدى، وتحتفل بهم العامة في كلّ مناسَبة، ولكن هذا أمرٌ لا يَدلُ على صوابٍ في الفكر أو إعتدالٍ في الرأي، بل العكس، فما سمعنا أنّ بن تيمية قد تلقى جوائز وأوسمة، بل عانى السجن والنفي، مثله مثل أحمد بن حنبل وغيرهم ممن قاوم موجات التجديد الزائف على مرّ العصور.

      القَصْد، أنّ واجِبَ العلماء من أهل السنة والجماعة، من القادرين على تفنيد هذه الدعاوى، الوقوف في وجه العبث بثوابتِ الإسلام، وأن يُزيّفوا هذا التوجّه وأن لا يُقدّموا المجاملات الشخصية والعلاقات الفردية على ما ألزَمهم الله به حيث قال:"وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَـٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُوا۟ ٱلْكِتَـٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُۥ"، ولا يكونوا كمن قال تعالى فيهم "فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ وَٱشْتَرَوْا۟ بِهِۦ ثَمَنًۭا قَلِيلًۭا ۖ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ" آل عمران 187، وأن لا يتركوا أصحاب الصحافة والإعلام طليقي اليد في إزهاق الحق وإحقاق الباطل، أو في إعلاء قدر الصغير ووضع قدر الكبير، إذ ليس هذا دور الصحافيين، بل دور العلماء المجيدين المخلصين ممن لا ينتسبون إلى المؤسسات السلطانية كالأزهر ودار الإفتاء وغيرهما، ممن باعوا دينهم بثمن جدّ بخس. وقد رأينا الفاضلة الدكتورة زينب عبد العزيز تقفُ بالمرصاد لإفتراءات القبط الوثنيين بما تكتب، وتفضح الأزهر ودورُه العميل، فلعلنا نرى من أهل العلم من يقف مثل هذا الموقف من هؤلاء الدعاةِ إلى الإسلام الجديد.

      ثم، أخيراً وليس آخرا، أود أن أذكّر بأن الكارثة التي تواجه المسلمين اليوم في بنائهم العقدي وثوابتهم التشريعية، بل ووجودهم كله، لم تعد تحتمل المواربة والمجاملة و"الطبطبة"، بل هي مرحلة الصَدع بالحق والإعلان عن الزيف والباطل، بكل أشكاله، وبكافة إتجاهاته. وكلّ ما يأتي به أصحاب المُواربة والمُجاملة و"الطَبطَبة" من منطقِ يدعم توجّه المهادنة والطبطبة ليس فيه خير، لا شرعاً ولا عقلاً، وهو خطأ في مناط التحلّى بالرقة والهوادة، وما أسهل أن يقع كثيرٌ ممن يَخوضُ في شؤون المسلمين اليوم، ممن لا علم له، في مثل هذا الوَهم.

      والله الهادى للسبيل.

      www.tariq abdelhaleem.com