فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      مفهوم التجديد .. بين الحق والباطل

      التجديد، كلمة زاهية آملة تبعث فكراً في العقل وانتعاشاً في الروح لما تحمِله من وعود بمستقبل أفضل، وواقع أسْعد. لكن، كما ذكرنا وأكّدنا من قبل، أن الكلمات فضفاضة عادةً، حُبلى بالمعانيّ، تُتْخَذُ عنواناً على مفاهيم قد تختلف وتتضارب إلى حدّ المناقضة التامة. وقد سبق أن ناقشنا كلمة "التوسط"1، وبيّنا أن المفهوم السائد عنه، لدى العامة والخاصة، لا يدل على حقيقته، وبل ويجعله عنواناً على مدلول متناقض لما تعنيه حقيقة .

       وقد نشرت الجزيرة2 في عدد الجمعة 28 شوال 1431، مقالا للكاتب راشد الغنوشيّ، تحت عنوان "هل حقق التجديد الإسلامي أغراضه"، لم يأت فيه بجديد يخرج عن مألوف منظومته الفكرية التي يطرحها في كتاباته، وإن احتفظ فيها بما يراه من زرع مقومات فكرية تؤسس لعلمانية وسطية تحت شعار المواطنة والمساواة وترسيخ مبدأ "الدين لله والوطن للجميع"، الذي وضعته الحفنة العلمانية الوطنية المصرية في أوائل القرن السالف (سعد زغلول، لطفي السيد، مصطفى النحاس ..). وقد ناقشنا عدد من أفكار راشد الغنوشيّ من قبل3 فلا داعي للإعادة.

       والتجديد في اللغة له معنيان، أولهما "الجديد: ما لا عهد لك به" لسان العرب 1-386، وثانيهما "الجِدّْة: نقيض البلى، يقال شئ جديد"، لسان العرب 1-386. والمعنيان يدلان على مفهومين مختلفين، الأول "ما لا عهد لك به" أي هو جديد لم يُعرف من قبل وما ليس له نظير، والثاني "نقيض البلى" أي ما خَلُقَ وبَلِيَ فأُعيد جديدا على ما كان عليه أول مرة. المهم، أنّ مفهوم التجديد، والذي نراه منتشراً في كتابات العديد من "المفكرين الإسلاميين"، يعنى إصطلاحاً "تبديل وتغيير القائم بإعتباره قديماً"، وتقديم ما لم يكن للإسلام به عهد.

      ومن الواضح البيّن أن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "يبعث الله على رأس كل مئة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها" لا يمكن أن يُقصد فيه هذا اللون من التجديد، إذ قد كَمُلَ هذا الدين بقوله تعالى " ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلْإِسْلَـٰمَ دِينًۭا" المائدة 3. فأن يُشاع أنّ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبّـؤ بأنه على رأس كل مائة يبعث الله من يأتي في هذا الدين ما لا عهد له به، تزوير للمعنى وإنحراف بالمفهوم.

       وقد حاول الغنوشيّ في مقاله المذكور أن يُفرّق بين هذا اللون من التجديد، الذي هو الإتيان بما لا عهد به، وبين ما أسماه الحداثة، دون أن يأت بجديد كما نوّهنا. فالأمر ليس أمر كلماتٍ بل أمر معاني تحملها هذه الكلمات. أن يتساوى المسلمون والنصارى، أو الإسلام وبقية "الأديان" حسب تعريف محمد سليم العوا، تحت ميزان القانون، فلا يعلو أحدهما على الآخر، هو أمر لا عهد للإسلام به، ولا يدخل تحت طائل "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" بالتحديد، إذ هم أهل ذمةٍ والمسلمون أهل دارٍ، فلهم ما لنا وعليهم ما علينا إن التزموا بالعهد، رغم معنى المواطنة المحرّف الذي يروج له أصحاب العلمانية الوسطية. وأن يقبل المسلمون بالديموقراطية التي تردّ التشريع إلى الشعب لا إلى الله، والتي تأخذ قول الغالبية، شاملة لأقليات مُشرِكة، على أنه قانون يجب اتباعه وإن عارض مُسلمات الدين وما عُرف منه بالضّرورة، فهذا تجديد لاعهد للإسلام به، ولا يمكن أن يستدل بالسنة على ما ينقضها، هذا خُلْفٌ. فهذا اللون من "التجديد" هو حداثة مستترة تحت غطاء التجديد.

       ولا يختلط هذا اللون من التجديد بمعنى الإجتهاد، إذ الخلط بينهما كارثٌة على الأمة وعلى دينها. فالمُجدّد مُجتهد بالضرورة، أي يمكنه إستنباط فتاوى من الكتاب والسنة، بما يتطابق مع ثوابت العقيدة والأصول والقواعد الكلية في الشريعة، وبما لا يعارض ما ثَبُت من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيستنبط فتاوى تواجه المواقف التي لم يكن للمسلمين بها عهد من قبل، لكن "لا عهد للمسلمين بها من قبل" هنا تختلف عن مقصودها في التجديد، إذ هي هنا تقع على مستويين:

       الأول: ما لا عهد للمسلم به على المستوى الفردى، وهو يتعلق عادة بالمناط الخاص للمسلم، أو أن يستدعى رجوع المجتهد إلى كتاب الله وسنته ليُدخِل هذا المناط تحت حُكم شَرعيّ مّستمد من الكتاب والسنة مباشرة.

       الثاني: ما لا عهد للمسلمين به على المستوى الجَمْعيِّ، وهو يتعلق عادة بكلياتٍ وقواعدٍ تتحكم في معاملاتهم وشؤونهم الحياتية. ونضرب مثالا لذلك من نشأة النظام البنكيّ، فالمجتهد له دوران، الأول أن يفتى في الأشكال القائمة منه بالفعل فيما هو منها حلال أو حرام، وهو دور ثانوي، والثاني أن يؤسس مبادئ لنظم إسلامية موازية تحتفظ فيها الجماعة الإسلامية بمبدأ منع الربا شكلا وموضوعاً، وهو دور رئيس. لكن أن يأتي "مجدد" أو "مجتهد" فيقرر أنّ الشكل الحاليّ للمعاملات البنكية مقبول، طالما أنه ما إرتأته القوانين المستقرة والدستور الموضوع، فهذا ليس إجتهاداً ولا تجديداً، بل عبثٌ بالشريعة. كذلك، إن أفتى "مجدد" أو "مجتهد" بأنّ الشكل الدستورى الحاليّ يُجرّم من يرفض دفع فوائد ربوية أو أن يخضع لتقنين وضعيّ، وأنه يجب على المسلم الخضوع لهذه الأحكام، لأن في عدم ذلك "فوضى"، فإن هذا ليس إجتهاداً ولا تجديداً، والفوضى التي يثيرها مثل هذا الخلل هي فوضى يسببها النظام المُتحكّم المُنحرِف عن دين الله أصلاً، بما سنّه من قوانين مخالفة للشرع، يدافع عنها ويقتصّ من مخالفها، ولا يلوى إلا على تثبيتها وتأكيدها.

       ومن هنا نجد أنّ دُعاة التجديد الحداثي لجئوا ضرورةً الى الدعوة إلى الإجتهاد في الأصول قبل الفروع، إذ واجهتهم المفاهيم التي أسلفنا في معنى الإجتهاد والتجديد، ولم يجدوا عنها مِحولا إلا بتغيير الأصول والثوابت ذاتها، كي يفلتوا من الشَرَكْ (بفتح الشين) الذي وضعوا أنفسهم فيه.

       المقصود بالتجديد في الحديث الشريف إذن يجب أن يكون في دائرة المعنى الثاني للجديد، وهو أنه "نقيض البلى". وهذا يعنى، في ضوء حديث المعصوم صلوات الله وسلامه عليه، أنه في كلّ مائة عام يأتي من يرى ما انحرف به الناس عن الإسلام الصحيح، عقيدة وشريعة، وما أحدثوا و"جددّوا" مما لا يساير دين الله ولا يتوافق مع ثوابته وأصوله، فيجدد لهم الدين، أي يعيد الناس إلى ما كان عليه الدين حين بُعِث به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كانت عليه الصحابة رضوان الله عليهم، دون تحريف أو تجديد زائف مبتدع. وهو ما رأيناه من مجددى العهود الإسلامية، كمحمد بن عبد الوهاب، والشاطبيّ والشوكانيّ. ومن ثمّ لا يدخل في مفهوم التجديد أمثال الأفغانيّ ومحمد عبده، إذ جاء هؤلاء بما لا عهد للإسلام به وبما لا يُساير ما جاء به الإسلام في مفهوم العقيدة على فهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن اشاع أنصار التجديد "الحداثيّ" غير ذلك، وليرجع من شاء إلى كتابات العالِم المُبدع د. محمد محمد حسين رحمة الله عليه، ليعرف حقيقة ما أتي به هؤلاء وما يريد أن يجرّنا اليه أنصار التجديد "الحداثيّ".

       إذن مفهوم التجديد السنيّ الوارد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أن يعيد المجدد للإسلام جِدَتُه وأصالتُه التي كان عليها، فيقتل البدع ويحيي السنن، ويردّ المفاهيم المختلطة التي تتراكم عبر عقود وقرون، خلاف التجديد الحَداثيّ بالمعنى الذي بيّناه والذي يتعدى على ثوابت الدين بدعوى الإجتهاد أو التجديد.

       ولا بأس من أن نؤكد ما سبق بما جاء في فتوى اللجنة الدائمة للفتوى والإرشاد بالسعودية، تشرح معنى الحديث الشريف، جاء فيها :" معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "يجدد لها دينها" أنه كلما انحرف الكثير من الناس عن جادة الدين الذي أكمله الله لعباده وأتم عليهم نعمته ورضيه لهم ديناً، بعث إليهم علماء أو عالماً بصيراً بالإسلام، وداعيةً رشيداً يبصر الناس بكتاب الله وسنة رسوله الثابتة، ويجنبهم البدع ويحذرهم محدثات الأمور ويردهم عن انحرافهم إلى الصراط المستقيم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فسمى ذلك: تجديداً بالنسبة للأمة، بالنسبة للدين الذي شرعه الله وأكمله، فإن التغير والضعف والانحراف إنما يطرأ مرة بعد مرة على الأمة، أما الإسلام نفسه فمحفوظ بحفظ كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم المبينة له، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]. فتاوى اللجنة الدائمة بالسعودية"

       فليكن المسلمون على حذر من دعاوى التجديد الحداثيّ فإنّ خطره على الدين لا يقل عن خطر التهديد الصليبيّ الصهيونيّ، ولا عن خطر التمدد الرافضيّ، الذي، بمناسبة القول، هو مقبول عند كلّ من هم من دعاة هذا التجديد الحداثيّ، ذلك لأن هذا التفسير يأتى من حيث لا يتوقعه المسلم، بل وممن تلبّس بلباس العلم والفكر، وتخفى وراء قبول الإختلاف في الدين. وكفى بهذا دليلاً عند من يميز الخبيث من الطيب.

      www.tariqabdelhaleem.com

       

       

       

        1. http://www.tariqabdelhaleem.com/details.php?id=440 

       

      2  . http://www.aljazeera.net/NR/exeres/0F10562C-23F4-42F5-8E04-9559D309858.htm?GoogleStatID=1 

       

        3. http://www.tariqabdelhaleem.com/details.php?id=388