الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
أزمة أخرى، لعلها أعنف وأقسى من أزمة التكفيريين على مستقبل "الإسلاميون" ، حسب تعريفنا لهم في مقالنا السابق "الإسلاميون .. بين الإسلام والإعلام". تلك هي أزمة الذوبان في حركة الإخوان، والوقوع في الإرجاء المقنّع.
حين ننظر إلى مكوّنات الحركة الإسلامية اليوم، نجِدها تتكون منّ فئاتٍ تنتمى إلى الإسلامية قرباً أو بعداً، ثم فئات أخرى تنتمى إلى الإسلامية وما هم منها، وهم الإخوان والدعوة السلفية والجماعة الإسلامية، كما نبّهنا، من حيثُ استسلموا إلى الدعوة الديموقراطية، بتأويلٍ أو بغير تأويل.
أما أولئك الذين ينتمون إلى الإسلامية الحقّة، قُرباً أو بعداً، فإنك تجد أنّ خريطتهم على السّاحة السياسية اليوم، أكثر اضطراباً وتَشَتّتاً من أولئك المُنتسبين لها تأويلاً أو غَصباً. ومن خلال استقرائي للواقع في مصر، يمكن أن نُصَنّف هؤلاء إلى عدة اتجاهات محددة، لا مجال لتفصيلها هنا، وإن كان ذلك مما يجب في المستقبل القريب.
اعتقدت طوائف من المنتسبين للإسلامية تأويلاً أو غَصباً أنّ طريق الإخوان هو الطريق القويم، فأعرضوا عن لوازم العقيدة ومقتضياتها، والتزموا التأويل والتحوير للأدلة، وقالوا بعكس ما قالوا من قبل، وأنكروا أنفسهم قبل أن ينكرهم الناس، ثم دفعوا ثمن هذا من رصيد كرامتهم واحترامهم واتباعهم. وقد رأينا ذلك بعد أحداث 25 يناير حين خلع السلفيون جِلدهم، وعجزوا عن الوقوف في وجه الموجة الإخوانية، التي ظهرت وقتها وكأن الحل الأمثل في يديها، بممارسة السياسة الديموقراطية "بذكاء وحنكة" كما قالوا! والتي انتهت بهم حنكتهم كطراطير في مجلس الأمة، الذي هو على وشك الحلّ على أية حال!
ويسأل السائل، ولِمَ لمْ تنضم السّلفية إلى الإخوان إذا، بعد أن أصبحوا على نهج واحدٍ، سياسياً وعقدياً، كما رأينا من تقريظ أحد رموز السلفية، محمد عبد المقصود، حين مدح الإخوان، وأشاد بطريقتهم المُثلى، ودعم مرشحهم محمد مرسى؟ نقول إن الأمر، كما هو على الدوام، أمر مصالح شخصية، ونفسيات غير سويّة. فإن نادر بكار لن يتنازل لمحمود غزلان، ولو هُدم صَرح الدين كله. وإن محمد عبد المقصود لن يعطى صفقة يدٍ لمحمد بديع ولو هدمت الكعبة حَجراً حَجراً على رؤوس حُجّاجِها. هذه هي المشكلة، لا علاقة لها بسياسة أو مصلحة أو مفسدة، أو غير ذلك مما يموهون به على العامة. ولو أخلصوا، لإنضموا إلى الإخوان، الأكثر تنظيماً والأعرف بطرق التسلل والتدسس و"التسلبط" والتمييع، من غيرهم.
هذا أمر معروف مشاهد. لكن المشكلة الحالّة، هي أنّ عددا من التجمعات التي يُفترض أنها ضمن الحركات "الإسلامية"، كما عَرَفناها وعَرّفناها، قد بدأت بالتحول كذلك بقوة نحو البناء الإخوانيّ فكراً وعملاً. ومن هؤلاء ذلك التجمع الذي عُرِف بحركة "دعوة أهل السنة والجماعة "، والذي يتخذ الشيخ الفاضل عبد المجيد الشاذليّ رمزاً له.
وقد ظهر هذا التحوّل في توجّهات هذه الحركة، منذ أن تبنّت دعم الإخوان في الإنتخابات البرلمانية، رغم الموقف المُتشدد للشيخ الفاضل من موضوع الدخول في البرلمانات خلال العقود السالفة، ورفضه ذلك رفضاً قاطعاً، بناءً على البعد العقديّ، والذي شاركه فيه كاتب هذه السطور منذ عقود طويلة. ثم، تأكّد ذلك التأثير المَشؤوم حين خرجت الجماعة بتأييد محمد مرسى، على صفحتها، ونشرت ذلك بين مُنتسبيها. والحقّ، إني لا أعرف مدى سيطرة الشيخ عبد المجيد على هذا الإتجاه حالياً. فإن التاريخ القديم والحديث، ينبؤنا كيف أنّ حَركات أيديولوجية تبدأ في التحَلل والبعد عن استراتيجيتها الأصلية، حين تضْعف قبضة مؤسّسها على أمورها، وحين يبدأ بعض منتسبيها في الحركة والفعل باسم هذا الرمز، كأنه أخذ شكاً على بياض. وقد رأيت أموراً أثارت في نفسى شكوكاً، بعد أن طالعت الكتاب الأخير "الحكومة الإسلامية"، مما أدع الحديث عنه في الوقت الراهن. لكن المحصلة، أنه لم يعد هناك ما يظهر من فروق تبرّر الفرقة بين هؤلاء وبين الإخوان.
والحق، إننى أرى أنّ هناك إنفصال بين ما يحدُث على أرض الواقع، وما يُنقل للشيخ الفاضل الشاذليّ، فإنه التفسيرالوحيد لذلك التناقض والتضارب العجيب بين ما يقوله عن تصريحات محمد مرسى، وبين ما هو ثابتٌ مُسجّل من تصريحات الرجل. ولنضرب مثالاً على ذلك، ما قاله الشيخ الشَّاذليّ في تسجيل للشيخ من أنه يرى محمد مرسى الأصلح إذ قال في الدقيقة 4:27 من تسجيله (انظر الوصلة أسفل المقال): "أنه (أي مرسى) أعلنها عالية مدوية إنه مع تطبيق الشريعة أحكاما لا مبادئاً..لم يتلون ولم يتغير"! وهذا عجيب غريب مقلق! والظاهر أنّ الشيخ الشّاذلي قد أُخْفِى عنه ما قاله محمد مرسى عالياً مدوياً على التلفاز الحيّ أمام الملايين من المشاهدين، في فيديو نُشر تحت عنوان "رئيس حزب الحريه والعداله قطع يدى السارق ليس من الشريعه الاسلاميه وإنما هو حكم فقهى ولا مانع من رئيس دوله نصرانى"(انظر الوصلة أسفل المقال)، قال فيه في الدقيقة 2:10، الثانية وعشر ثوان، بالحرف الواحد "المذيعة: هل ستطبقون الشريعة، يعنى أحكامها، قطع يد السارق ..؟ قاطعها مرسى: لا لا لا ، الحاجات دى مش الشريعة، هذه أحكام فقه، .. المادة الثانية موجودة في الدستور، وغالباً هاتكون في الدستور الجديد لأنها المزاج العام للشعب المصرى! .. موجود فيها أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسى للتشريع وليس الوحيد، ومبادئ الشريعة الإسلامية ليس معناها الأحكام الفقهية، ده معناها الإطار العام، يعنى الثوابت التي لا تتغير.. مبادئ الشريعة مش كثيرة ولا حاجة، الثوابت في الشريعة قليلة جداً، ...قليلة جداً بجد..."اهـ. فأين في هذا مما قاله فضيلة الشيخ عبد المجيد عن أن هذا الرجل مع تطبيق الشريعة أحكاماً لا مبادئاً؟ وأنه لا يتلون ولا يتغير؟!! هناك أمرٌ غير مفهوم، إما أن المعلومات التي تصل إلى شيخنا غير منضبطة، أو إن شيخَنا لا يزال متأثراً بما كانت عليه أعضاء الإخوان في الستينيات، كما لاحظت من حوارى معه، ومع بعض المشايخ المجاهدين من زُمرته، ولا يعرف الكثير عن حال جماعة الإخوان اليوم، التي هي جماعة سياسية ليبرالية وطنية، لا إسلامية لها على وجه الإطلاق.
ولو أنّ الأمر وقف عند هذا الحدّ، لهانَ الخطب. ولكن قد وصلنى (والعهدة على الراوى)، أن الأمر تطوّر إلى أنّ من هؤلاء المنتسبين التابعين، من أخذ على عاتقه الحديث بإسم هذا التجمع كله، ورمى غيره ممن لا يزال مُخلصاً للمبدأ الأصلي، ولم يقتنع بغيره من أدلة متهافتة قدمها له البعض على أنها رأي العلماء، مروّجاً أن هؤلاء المُعترضين مقلدون، لا عقل لهم، وأنهم يجب عليهم السمع والطاعة، لا المحاورة والفهم (نفس النهج الإخوانيّ)! بل حين استشهد هؤلاء، جاءوا بما قال أعلام من الإخوان، مثل راغب السرجانيّ وغيره، دليل على حِلّ الممارسة الديموقراطية! وكانت النتيجة أن أصاب الكثير من أتباع هذا التوجّه إحباط كبير، ظهر من تلك المهاتفات التي تلقيتها من عدد منهم، عرفوا أنّ علاقتى بأخي الشيخ الحبيب عبد المجيد الشاذليّ تسمح لي بتدارس هذا الأمر معه. لكن، مع الأسف، لم تكن الحالة الصحية التي رأيته عليها آخر لقاءٍ، تسمح بمناقشة مثل هذه الأمور، عافاه الله تعالى.
ومع حُبى لأبناء هذا التيار، وإجلالي لشيخه المُجاهد، إلا إن الشّاهد هنا، هو أن هذا التّجمع، كمثالٍ آخر خِلاف أدعياء السّلفية، قد سار سيرهم في طريق الإخوان، وما أظنّه إلا في طريق الذوبان في تلك الجَماعة "الأم!"، أسرع مما قد يتصوّر بعض القائمين عليه. وما تماسُكه اليوم، كتيارٍ منفرد، إلا ببَركة وجود الشيخ الشاذليّ. لكن، الأقدار جارية، وغداً يكون أمر آخر.
إنه لمن المُحزن أن يضْمحل عدد أولئك الذين ثبُتوا في وقت المِحنة، وصابروا في وقت الشّدة، وتيّقنوا في وقت البلبلة والضّبابية. ولكن هذا قدر الله تعالى. ولعل أبناء مثل هذه الحركات السّلفية أو غيرها، الذين نَقموا على مثل هذه التحولات المنهجية العقدية والحركية غير المُبرّرة، أن يجِدوا موئلاً لهم فيما يدعو اليه التيار السنيّ لإنقاذ مصر.
http://www.youtube.com/watch?v=owfsVXHEZoo&feature=g-all-u تسجيل الشيخ عبد المجيد الشاذلي
http://www.youtube.com/watch?v=8liu9o2jktQ تسجيل محمد مرسى