الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول الله تعالى "وَٱلْعَصْرِ﴿1﴾ إِنَّ ٱلْإِنسَـٰنَ لَفِى خُسْرٍ﴿2﴾ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَتَوَاصَوْا۟ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْا۟ بِٱلصَّبْرِ﴿3﴾"
المُتواصون بالحق، هم القلة الصابرة عليه. هم الذين عرفوه إبتداءً، فلما عرفوه، لم يكن لهم أن يتركوه لسواه، أو أن يشروا به الباطل، أو أن يداهنوا فيه، ويماحكوا به، ويساوموا عليه.
وهؤلاء الذين لم يعرفوا الحق إبتداءً هم من فعلوا تلك المماحكة والمداهنة والمساومة. هم من خشوا الناس خشيةً أشد مما خشوا الله. خشوا غضبة العسكر عليهم، فراحوا يميّعون في الحق، ويتواطئون على تحريف معناه، وعلى تعديل مبناه، ليوائم ما هم فيه من إنحراف عنه.
أصحاب الحق يتواصون به، وأصحاب الباطل يتنصلون منه.
أصحاب الحق، رأوا كيف يعمل الباطل، وكيف يُزيّن الشيطان سُبله للضعفاء من أصحابه، فرَكنوا إلى الذين ظلموا.
أصحاب الباطل، ليسوا بالضرورة هم الذين ظلموا. أصحاب الباطل ليسوا بالضرورة هم الباطل وأهله، إنما هم من يصاحبون أهله، ويسيرون في طريقهم، خوفاً وطمعاً، كما يعبد أصحابُ الحق اللهَ سبحانه خوفاً وطمعاً.
ليس من أصحاب الحق من دَعَم الباطل، ووقف في صَفّه، ودعا له في عرفات، أو طالب بحمايته ومساندته، ولو مرة واحدة. أولئك لم يعرفوا الحق، لا إبتداءً ولا إنتهاءً. أولئك ضَلوا وأضَلوا. أولئك ضَعفوا واستكانوا، وارتموا في أحضان الباطل، فسَحَبهم وراءهم إلى أسفل سافلينن عالمين أو متأولين أو مبتدعين.
أسمعت عن ذلك الرجل من أصحاب الباطل حين أراد أن يبيعَ باطِله للنّاس، ويدفعهم إلى الإستسلام للظلم، فتحدث فيهم بالقدر، وأشاع بينهم جهمية فاسدة، فقال إن كان الله قد أراد للمسلمين أن ينتصروا لانتصروا، ولكنه إن أراد أن يأتى عليهم بالفلول، أو يستعيد الظلم دولته كاملة، فهي إرادته، يجب أن نستسلم لها ونرضى بها. كلا والله بل خسئت وخسرت، يا ربيب أمن الدولة. إنّ هذا الدعيّ يروّج بين الناس ما تستلزمه الإرادة الكونية، التي يخضع لها كلّ عابدٍ وكافر، ولا يرجع بالمسلمين إلى إتباع إرادة الله الشرعية، التي تجلّي محبته وتستدعى رضاه ورحمته، وتحفظ من عذابه وعقابه. يريد هذا الأفاك أن يجعل الناس كالبهائم، يسيرون كما يسيرهم القدر، دون إرادة منهم، ودون مراعاة لمقتضى الأمر والنهي، الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. والأدهى أنّ هذا الدعيّ ينتسب للسلفية! ووالله لا يعدو ما يقول إلا صوفيةٍ منكرة ظاهرة. ما أقرب الباطل من الباطل.
أصحاب الحق، يعملون وفق الإرادة الشرعية، ووفق أوامر الله ونواهيه، التي تدفع المسلم إلى مقاومة الظلم، ودفع الأذى والفساد، وأن يأتى بكل الأسباب التى تعين على تحقيق ذلك، ثم بعدها، يرضى بالنتيجة، إذ ليس عليه من تحقيقها شئ. وشتان بين الموقفين.
وفي عملهم هذا، وفي سعيهم هذا، يصبر أصحاب الحق على ما يبتليهم به الله في طريقه. فالمؤمن مُبتَلى. والبلاء زكاة الإيمان، لا يكمل بدونه. فهم في هذا ليسوا كمن جزع من الباطل، فحاباه، والتمس له الأعذار، والتأويل، وداهنه، وسايره، وبرّر له. وقد رأينا كيف أنّ ما في التكليف بإزالة الظلم ودفع الجور من مشقّات، هي مما يعتبرها الشارع مشقات عادية، ممكنة التحمل، وليست مما يطلب الشارع رفعها أو تجنبها، إذ هي ليست من باب مشقات دخول الصحراء بغير ماءٍ كما يفعل دراويش الصوفية، وليست من إلقاء اليد إلى التهلكة كما يفعل أدعياء السلفية، بتركهم الوقوف في وجه الظلم والكفر الذي مؤداه كافة المشقات والمصائب في حياة الناس.
فالتواصى بالصبر على هذه المشقات، هو مما تواصى به أصحاب الحق، لا الهروب منها، وإدعاء إنها مما يجب تجنّبه من ألوان المشقة. هؤلاء لا علم لهم ولا دين. وقد قال تعالى "وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ فَإِذَآ أُوذِىَ فِى ٱللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ ٱلنَّاسِ كَعَذَابِ ٱللَّهِ" العنكبوت 10، تحذيراً لمن يسوى بين الفتنتين، وبين المَشقّتين.
يقول الشاطبيّ في بيان هذا المعنى "وإلى هذا المعنى أشار القرآن بقوله تعالى {ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله} بعد قوله {ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} إلى آخرها وقوله {وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا} ثم مدح الله من صبر على ذلك وصدق في وعده بقوله {رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} الآية وقصة كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم في تخلفهم عن غزوة تبوك ومنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكالمتهم وإرجاء أمرهم {حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم } وكذلك ما جاء فى نكاح الإماء عند خشية العنت ثم قال {وأن تصبروا خير لكم} إلى أشباه ذلك مما يدل على أن المشقة قد تبلغ فى الأعمال المعتادة ما يظن أنه غير معتاد ولكنه فى الحقيقة معتاد". موافقات ج2ص المسألة الحادية عشرة ص157.
ووالله ما دفعنى إلى إطالة النقل هنا إلا إنّ من هؤلاء من يدّعى علماً، ويجادل في القول بغير الحقّ، بخطابةٍ وتشدّقٍ، لا بعلمٍ وتحقّق. فهاكم ما يؤيد ما ذهبنا اليه، من أنّ صَبر أهل الحقّ على حقّهم، هو مما تطلُبه الشريعة، ولا يتركه المسلم بتوهّمِ مصالحٍ أو تخوّفِ مفاسد، فإن ذلك هو قول الجاهلين، وترديد المتخاذلين. فأما أهل الحق فهم يتواصون به، بعد أن عرفوا وجوبه، وكرِهوا التراجع عنه أوالتلوّن فيه أو الإزوِرار عنه.
لكن، إلى متى يَصبِر أصحاب الحقِّ عن حَقهم؟ ألِصَبرِهم حُدود؟ هذا ما يجب أن يتعارف عليه أصحاب الحق، أصحاب الصبر عليه، فيما بينهم...
اللهم اجعلنا منهم، يا رب العالمين....