الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
حين وطأت قدماي أرض مصر، بعد غياب سنواتٍ عديدة، تمثل لي قول القائل
فألقت عصاها واستقر بها النوى كما قرّ عينا بالإياب المسافرُ
لكن الفارق هو أنّ عينى لم تقرّ بما رأت في مصر، بأي حالٍ من الأحوال. فإينما وجهت عينيك هناك ترى ما لا يرضيك، بل ولا يرضى أحداً من البشر، ولا أقول لا يرضى ربنا، إذ هي بعيدة كلّ البعد عن هذا الهدف الأجلّ.
البلاد يظلها حالة عجيبة من الفوضى والعشوائية، التي انطبعت على تصرفات أبنائها بلا استثناء، المسلم منهم والمتأسلم. لا يكاد الناس فيها يلتزمون بما يقولون إلا لماماً، واستحياءً. تشعر في ضحكاتهم الهستيريا والحسرة، إذ لم تعد تصدر من القلب كما تعودنا في السبعينيات، زمن الشباب.
رأيت عالمين منفصلين، عالمُ الرحاب، وعالم بقية مصر. عالم الرحاب، نظيفٌ متناسقٌ متكاملٌ، تجد فيه ما يسرّ العين من ماءٍ وخضرة، وفي تلك الفيلات الفاخرة والشقق الواسعة الماتعة. لكن ترى في هذا العالم غضب الله ومقته، متمثلاً في ذلك الشباب الضائع الذى يسير في الطرقات، في الأسواق، يبحث عن معصية يرتكبها، وتلك "الفتيات والسيدات!" اللاتي يُدخّن الشيشة بكل بجاحة واستهتار وعهر، وهن، كلهن، محجبات! أي والله محجبات. وأظنّ أن حجابهم لم يكن لحجب شعورهن، بل لحجب عقولهن، فهن مغيبات لا محجبات. ثم غير ذلك كثير مما هو مستورٌ في البيوتات.
ثم، تخرج خارج أسوار الرحاب، فترى كلّ ما يسئ إلى عينك، ويقض مضجع ضميرك. القذارة والتكسير والتراب، وأكوام الزبالة، وركام الخرسانات وبقايا البناء تسدّ عليك طريقك. ثم تلك المنشئات العجيبة التي يسمونها العشوائيات، يا الله، ما أذل الإنسان في تلك البلد. والله لا يرضى بالعيش فيها إلا من فقد إنسانيته كاملة، وزيادة. ثم الشوارع ومطباتها، والزحام الذي يقتل الأعصاب، إذ تستغرق رحلة الدقائق ساعات والله بلا مبالغة. ثم روائح العادم، ثم غلاء الأسعار الفاحش ..ثم .. ثم..
ولو رحت أعدّد ما في مصر اليوم من بؤسٍ وعذابٍ وبعدٍ عن الإنسانية ما انتهيت. لكن الأمر هو، كيف يصبر هؤلاء على ما هم فيه من بؤسٍ ماديّ، وبعدٍ عن دين الله؟
إن السبب في هذا الوضع المزرى معروف، كشفته ثورة يناير، ألا وهو النظام الكافر الفاسق الظالم، الحاكم في مصر، الذي كان رأسه مبارك وعائلته، وكان، ولا يزال إلى اليوم، لسانه الإعلام الفاجر الكاذب، وعقله ويده الباطشة قادة الجيش، والداخلية، ثم بقية منظومة الفساد المتربعة على رأس كلّ مؤسسة وجامعة وبنك ومحافظة.
لكن ما وجدت من فضلٍ وتحابٍ في الله، وتوادٍ بين إخوة الدين، على هَنّات في ذلك، وما لقيت من ترحابٍ ممن أعرف، وممن عرفت لتوى، جعلنى أرى بصيص النور، متلصّصاً في تلك الظلمات، يدع محلاً لأملٍ وموضعاً لتفاؤل.
لقد كان هذا الأمل منعقداً بالله، ثم بإستمرار الحراك الثوريّ على أرض مصر، إلا أنّ تراجع القوى الثورية، سواءً الإسلامية أو الليبرالية الشبابية، تحت ضغط إجرام العسكر، بجنوده النظاميين، وجيوشه من البلطجية، كما رأينا في مذبحة العباسية، يمثل إنتكاسة وهزيمة لما قدّمه الشعب في ثورة يناير، يكاد يودى بها كلها إلى غياهب النسيان. وهو الأمر الذي، حين تتم خيوطه من قِبَل الخونة من قادة العسكر، سيكون وبالاً على الشعب المصريّ، وعلى قيادات الإسلاميين خاصة، وعلى صفوفهم الثانية والثالثة، التي تبنى لها الآن سجون جديدة تسعُ عشرات الآلاف من المعتقلين.
ولا يجدى نفعا هنا ما قلناه من قبل، وما قالته أصحاب العقول الواعية والضمائر المخلصة، عمن هم السبب وراء الأحداث. إذ العسكر لم يكونوا يقدرون على هذا العمل، أقصد وأد الثورة، إلا بحصان طروادة، الطابور الخامس، من خونة الإخوان، على رأسهم الكتاتني، ومداهنة أدعياء السلفية، أولئاء الشيطان، وأعداء عباد الرحمن، وها هو ذا المدعو محمود حسان، شقيق الدعيّ الأكبر، لواء أمن دولة محمد حسان، الذي دعا الله للجيش حاسرا رأسه، يتمثل بالمرأة التى ضربها زروجها على أمّ رأسها، يقول أخاه الأشقى "أفدى الجيش بروحى"، زهقت روحك وأرواحهم في ليلة واحدة، يا خبيث، آمين!
وهؤلاء الأدعياء، هم صنيعة عصر الفساد، حقيقة لا مجازاً، فهم يدينون بالفضل لما هم فيه من غنى وثروة لعصر مبارك ونظامه، فقد سمح هذا النظام لهؤلاء أن يلعبوا دور العالم الفاهم النحرير، على قنواتهم الفضائية، فيعظ تارة، ويتحدث عن شرع الله تارة، ويُدجّن أتباعه بفكرة طاعة ولي الأمر تارات, فتكدست بين أيديهم أموال وثروات لا حصر لها، وأربع زوجات بقصورهن! فهم في الحقيقة أسوأ أنواع الفلول واخسّ طبقاتهم، إذ يتلبسون مسوح الدين زرواً وبهتاناً.
ولأجل مرحلة الإعداد والبناء هذه، فإننا نقوم بإعداد وثيقة عمل في المرحلة القادة، سنعرضها في اليام التالية إن شاء الله، فور الإنتهاء منها، لترسم لنا طريقاً نرى فيه مخرجاً، عملياً لا كلاميا نظرياً، يمكن أن يتحرك به الناس، ليتم لنا ما أردنا في بلادنا، من استقرار لشرع الله في أرضنا، وما يتبع ذلك من كرامة وحرية واستقلالية قرارٍ وعدلٍ ومساواة، وحسن عيشٍ في الدنيا، ورجاء نجاة في الآخرة.