فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      ما فعله حازم أبو اسماعيل دون قصد

      المشهد المهيب الذي استرعى انتباه كل المراقبين للشأن السياسي في مصر، والذي توجه فيه سيل بشري عارم يتقدمه الشيخ حازم أبو اسماعيل لتسليم توكيلات الترشح للرئاسة، وما تخلل هذا المشهد من رايات سود وهتافات «الشعب يريد تطبيق شرع الله» ،  هذا المشهد يمكن تناوله من حيث ما يدل عليه من اكتساح متوقع للشيخ حازم في الانتخابات القادمة لو سارت الأمور على ما يرام، لكن ليس هذا ما أود الحديث عنه، إنما أود الحديث عن دلالة هذا المشهد على التغير الحادث داخل التيار الإسلامي، وعلى مبشرات خاصة بوجهة ذلك التيار في المستقبل.

      لقد أحدث حازم أبو اسماعيل، دون أن يقصد، قطيعة بين روح الحركة الإسلامية وبين أنماطها القديمة المريضة التي كانت تمثل تكيفا غير سوي مع واقع ما قبل الثورة، وهو واقع كانت أزمة الحركة الإسلامية فيه هي أزمة « الاغتراب عن الواقع »،

      النمط الأخواني في تلك الأزمة كان محاولة للتخلص من ألم الاغتراب عن الواقع بالمبالغة في تمثله ومحاكاته، وما تبع ذلك من إعادة إخراج الإسلام بطريقة لا تسبب له إزعاجا، أما النمط السلفي فكان أيضا محاولة للتخلص من ألم الاغتراب عن الواقع ولكن عن طريق الهروب من المجتمع زمانيا بمعايشة خيالية لعصر بني أمية واستعارة مفرداته، وأهم مفردات ذلك العصر كان عدم الخروج على بني أمية درءا للفتن وحقنا للدماء، ولقد كان خيارا (سياسيا) مقبولا في سياقه التاريخي، إلا أن النمط السلفي قد استعاره وعاشه في حالة هي أشبه ما تكون بمعايشة النائم لحلمه اللذيذ الذي يحميه من مثيرات الواقع فيحفظ له نومه.

      وهذا هو سر موضوع «ولي الأمر» الذي حير العقول في أمر هذا الكيان المسمى بـ «الدعوة السلفية» ، إنه استعارة خيالية لموقف السلف من مظالم بني أمية، إنهم يرفضون الخروج على «الوالي» بما تحمله الكلمة من بعد زمني.

      وكل تصرفاتهم لا يمكن تفسيرها إلا في ضوء فكرة «الهروب من الواقع بمعايشة واقع آخر خيالي واستحضار جميع مفرداته»، انظر مثلا إلى الـ «غُطرة» الخليجية التي يلبسونها، وإلى القميص الأبيض وتلك المفارقة بين وضعه الضخم في واقع النمط السلفي وبين قيمته المحدودة في الوصايا النبوية. إنه أداة من أدوات الهروب من الواقع مثلما أن فكرة «ولي الأمر» كانت كذلك، ومثلما كان «الجهل الاستراتيجي» بمفردات الواقع كذلك، كلها «أدوات هروبية».  

      لقد كان متوقعا أن تنهار الأنماط القديمة المريضة بانهيار واقع ما قبل الثورة الذي ظهرت هي كنوع من التكيف معه، غير أن انهيار نمطي السلفية والإخوان، رغم مظاهره قد بدأت بالفعل، إلا أنه ليس بالسرعة الملائمة لسرعة انهيار ذلك الواقع، والحقيقة أننا لن نفهم بطئ النسبي لانهيار نمطي السلفية والإخوان إلا بعد أن نفهم طبيعتهما التي تكونت أساسا بحيث تكون متقوقعة دون رؤية الواقع، ومتحوصلة دون الإحساس به، إذ أن أصل علاقتها بالواقع هو التقليل من إزعاجه لها بالانفصال عنه، وإذا كان الأمر كذلك، فالتباطؤ في إدراكها لحقيقة انهيار الواقع، بل وحنينها إلى ذلك الواقع، هو أمر متوقع بلا شك.

      وثم سبب ثالث يفسر تباطؤ الأنماط القديمة في إدراك الواقع الجديد، يضاف إلى سبب الحنين إلى الواقع القديم وإلى سبب ضعف إدراك التغير في الواقع أصلا، وهو سبب يتعلق بتكوين الجماعات عموما، فالجماعات هي أقل عقلا من أفرادها، وأقل حرية منهم، وهي أشبه ما تكون بالجمادات التي تتحرك بالقصور الذاتي، تعتاد على أمر ما فتظل عليه دون النظر لأي اعتبار آخر سوى أن تظل عليه.

      لا تحسنوا الظن بالنمط السلفي ولا بالنمط الإخواني مهما أظهر كل منهما من تنكّر، المؤيدون لحازم أبو اسماعيل مؤخرا هم إما أنهم لا يمثلون النمط السلفي بالقدر الكافي، وإما أنهم مخادعون مطعون في مقاصدهم.

      من أراد أن يزن الأمور بشكل صحيح، فيضمن لنفسه مسلكا قويما، ويتصرف بثقة وبشكل لائق، فإنني أهمس له في أذنه: حاخام السلفية الأكبر «ياسر برهامي» هو السلفي حقا، أكثر إخلاصا من «الخائنين» للنمط السلفي أمثال «حسين يعقوب» و «محمد حسان» والذين تركوه وركبوا موجة المتحررين من الأنماط، كما أنه أكثر سلفية من المحتررين من النمط السلفي بقدر أو بآخر مثل الشيخ«أحمد السيسي»  بل وإليك سرا خطيرا آخر: «طلعت زهران » و «محمد سعيد رسلان» هما أكثر سلفية من «ياسر برهامي» ، لأن بؤرة هذا النمط هو الهروب لعصر بني أمية، وأولى دلائل هذا الهروب هو عقدة «ولي الأمر»، و الأَخَوان: «زهران» و «رسلان» هما الأكثر تمثيلا لهذه العقدة. تماما كما أن «عبد المنعم أبو الفتوح» هو الأكثر «إخوانية» من الشيخ «وجدي غنيم» لأنه أكثر منه تنازلا عن ثوابته.

      ما الذي نستفيده من هذا الترتيب للشخصيات ومن هذا التقسيم للنمط إلى بؤرة وهامش؟ الذي نستفيده هو التأكيد على خطأ التسامح مع الأنماط القديمة بدعوى أن حسنات النمط تشفع لسيئاته، بؤرة النمط نفسها هي مصدر سيئاته، ولا يمكن عزل النمط عما ينتجه من سيئات، أنت سلفي بمقدار ما أنت مصاب بعقدة « ولي الأمر » ، وأنت إخواني بمقدار ما أنت مصاب بعقدة «محاكاة المجتمع»، وأي تحرر من هاتين العقدتين يعني أنك بعيد عن بؤرة النمط، ولا يعني أن النمط قد يأتي بخير.

      لا خلاص لنا من هذه الدوافع الشريرة إلا بالهجوم على بؤرة النمط نفسها، الهجوم على ذلك الكيان الاعتباري المسمى بالدعوة السلفية، أو المسمى بجماعة الإخوان، وما تفرخ عنها من أحزاب.

      الهجوم على النمط نفسه، لا فرزه وتطهيره وإصلاحه.