الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
لا شك أن المَلْمَحَ الرئيسيّ، بل والمَزية التي تتمتع بها الحركية الإخوانية، والتي يجب أن نقر لهم بها، هي القدرة على الإستمرار والتعايش مع كافة الأنظمة، الصديقة والمعادية، والتي يمكن أن يشار اليها بأنها "التغريد داخل السرب". وهو ما جَعلها تستمر في الوجود خلال طيلة العُقود السَبعة السابقة، في المَلكية، ثم الدّكتاتوريات المُتعاقبة، على إختلاف مَلامِحها ووسائلها، بينما اختفت حركات إسلامية كثيرة، إما بتاتاً، أو بتغيير ملامحها ومنهجها، حتى لم يعد لها مما بدأت إلا اسمها.
لكن هذه المَزيّة، طول البقاء على أية حال كان، لم تأتى من فراغ، كما لم تأتى بلا مقابل. هذه المزية، قد جاءت من طبيعة الحَركية الإخوانية، التي تتلون بلون عصرها، مع بقاء مسحة الإسلامية، على مطبوعاتها وشعاراتها أكثر مما هي في قراراتها وتصرّفاتها. وهذه الصفة، قد جعلتها تتشكل لا بشكل الأنظمة نفسها فقط، بل تأخذ السمات الثقافية والفكرية التي تسود بين الناس، فتقبلها على أنها "أفضل المتاح"، ثم تبدأ في جعلها جُزءاً من التراث الفكريّ والثقافي للجماعة. وبكلماتٍ أخر، تتلاحم الجماعة فكريا وثقافيا مع الشعب، على مستوى الشعب، وبطريقته. فهي لا تقفُ على مَسافة منه، توجّهه وتُرشده، بل هي تتحرك من خلاله، بمفاهيمه وقيمه التي تتغير مع تغير الزمان، فلا تكاد يميز الناظر بين أبنائها وبين غيرهم من عامة الناس، إلا في الإنتماء لكوادر تنظيمية محددة.
هذه الأيديولوجية في الحَركة، قد ساعدت على بَقاء الجماعة، في أحشاء الشعب، مُتسترة بردائه، مُتخفية بين أبنائه، فطال بقاؤها وقاومت عوامل التعرية والفناء. إلا إن ذلك كما ذكرنا، جاء بضريبة باهظة، هي الإستغناء عن الثوابت، والبِناء على المُتغيرات، وإعتماد "الواقع" على أنّه "المُمكن"، وتقييد "القدرة" ب"المتاح". وكان لِزاماً لهذا التوَجّه الحَركيّ أن يتبَنى مَذهباً يغض البصر عن الإنحرافات العقدية، ويقلل عدد الثوابت إلى أدنى حدٍ لها، فلا تتعدى أصابع اليد الواحدة كما عبر محمد مرسى، لتصبح في الأخير، هي مجرد التلفظ بالشهادين.
ومن هنا فإن هؤلاء "مُغردون من داخل السّرب"، لا يكاد يتميز تغريدهم عن غيرهم، فلا تكاد تشعر لهم أثراً في الترنيمة الشعبية. ولو نَظرتَ إلى كافة قرارات تلك الحَركة لعرفت أننا قد أصبنا كبد الحقيقة في تحليلنا لمصادر أيديولوجيتهم. بل لو نظرت إلى وجوه قادتهم، ما ميزت بينهم وبين دعاة العلمانية بأي شكل كان. بل وتجدهم أول من يسارع في الموافقة على تلك المفاهيم التي تدمج الحابل بالنابل، والصحيح بالسقيم، والمسلم بالنصراني، كالتوافقية، والمواطنة، والوسطية المحدثة، وما إلى ذلك. فهم فارقوا التميز الإسلاميّ، شكلاً وموضوعاً. وسَاعدوا، بعلمٍ أو بغير علمٍ، على تَراجع الإلتزام الشّعبي بالثوابت، فكانت كَحلقة مفرغة، يتراجعُ الناس، فيتراجعوا، فيتراجع الناس!
أما الآخرون، ممن آثروا التَغريد من خَارج السرب، فقد اختلفت حركتهم عن تلك المنظومة الإخوانية مائة وثمانين درجة. فتراهم يقفون خارج السرب، يحددون إتجاه مساره، وتردّد ترنيماته، ثم يقايسونها بما وجه اليه الإسلام، ظاهراً وباطناً، قولاً وعملاً، فكراً وتطبيقاً. ثم يبدأ تغريدهم بما عليه الدين القيّم، فيسمع لهم من كتب الله، فينحرف عن مسار السرب، ويبدأ في ترديد التغريد على وتيرة الإسلام.
هؤلاء، قد تحمّلوا تبعات هذا الموقف، فوقفوا وحدهم، على مَسافة من النّاس، يدعونهم إلى طريقهم، ولا يسارعون للتحول إلى طريق الناس، على مذهب "حَيْرَانَ لَهُۥٓ أَصْحَـٰبٌۭ يَدْعُونَهُۥٓ إِلَى ٱلْهُدَى ٱئْتِنَا"، ائتنا، فلا يتحولون هم اليه. هكذا كان طريق الأنبياء، وهكذا يكون التغيير، وهكذا تنصلح الأمم.
هؤلاء، لا تجدهم في كراسي الترشيح لأي منصب، بل هم دائماً في صراعٍ مع السلطة الغاشمة، في كل وقت وعلى كلّ حال. فمنهج الثوابت لا يسمح لهم بالتصالح مع هذه القوى، تحت أيّ مُسمى كان. وهم لا يسقطون في حيل فقهية وتأويلات حركية كمن يتعلل بصلح الحديبية، الذي كان فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأقوى والأظهر، فأجّل حقاً لأجلٍ مسمىٍ، ولم يتنازل عنه لأجلٍ غير معلوم، ومن موضع ضَعف وهوان، رغم القدرة على النصر. هؤلاء لا يتلاعبون بالمفاهيم الثابتة، ولا يختبؤن وراء الحيل والتأويلات وإدعاءات المَصالح المُتوهّمة، التي تُخفى الجبن والإستخزاء. إنما تصلح هذه المنهجية لمن أطلق العنان لثوابته، فتركها تسرح مع المتغيرات، وبدّل فيها، وخَرج عن مفهوم قوله تعالى "وَمَا بَدَّلُوا۟ تَبْدِيلًۭا "الأحزاب 32.
من هؤلاء المُغرّدين الأفاضل، المشايخ عبد المجيد الشاذلي ووجدى غنيم، وهاني السِّباعي ومحمد حِجازى وصفوت بركات، ومحمد عباس، ورفاعي سرور رحمه الله، وغيرهم كثيرٌ معروف، سواءً من جيلهم، أو من الجيل الصاعد كخَالد حربي وأقرانه. ولا يعنى هذا أنّ هؤلاء المشايخ الأفاضل لا يُدرِكهم الخَطأ، لا والله، بل كلّ يُخطئ ويُصيب، لكنهم ثبتوا على منهجٍ واحد، حتى إذا انحرَف مرّة، عاد ليُدرك رَكب الثّابتين مرة أخرى.
نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من الثّابتين على منهجِه، القائمين على حقوقه، الرّاعين لشَرعِه وحُرماته، المُغرّدين من خارج السِّرب .. آمين