الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
أودّ أولا أن أوضح أنّ الحديث عن شباب التيار الإسلاميّ هنا في مقالنا هذا، لا يعنى إلا الشباب الذي "التزم" بإتجاه معين، سواء كان الإخوان أو السلفيين أو غير ذلك من الإتجاهات الثانوية المطروحة على الساحة الإسلامية المصرية. وهذا التّخصيص، يجعلنا نتوجه إلى الأقل من الشباب المسلم في أرض مصر، إذ القاعدة المسلمة من الشباب تعنى أكثر كثيراً من هؤلاء الذين رأوا أنّ في الإلتزام فائدة ما بناءً على تخريجات شَرعية معينة.
والحقّ أنّ هذا الشّباب "المُلتزم"، يعاني من مَشاكل مُزمِنة، صَاحبت تكوين الجَماعات ذاتها التي ينتمون اليها، سواءً عقدياً أو عَملياً. فالباحث في أمر هؤلاء الشّباب، المُهتم بهذا القطاع منهم، يجب أن يكون على بينة من الخلفية التي تكونوا عليها عقدياً وعملياً، ليمكنه أولاً، تقييم دورهم في المرحلة القادمة، وثانياً، إمكانية تصحيح هذه التوجهات، ومدى الحَاجة إلى هذه التصحيح.
ثم، يجب أن نُفرّق في هذا الموضع، بين أمرين هامين، هما من سِمات التَجمّعات الإجتماعية عَامة، والسّياسية أو الدّينية منها خاصة، والتي أشرنا اليها من قبل، وهو ضرورة التمييز بين مستويين من التوجيه داخا هذه التجمعات، التوجيه القاعدي، والتوجيه القياديّ. وقد أسمينا الأول منهما "التعاليم" والثاني "التعليمات". والفارق بينهما جدّ هائلٍ ومخيف.
التعاليم التي يتربى عليها عضو الجماعة، بصفة عامة، هي تعاليم ترتفع بها النفس مُحلّقة في أجواء الكَمال، وتتجه إلى أعلى مقامات التدَين وتواكِب معاني الوحي، لكنها خالية، بطبيعتها، من أيّ بُعدٍ عمليّ أو مَناطات واقعية مُحدّدة. وهذه الطبيعة تشتَرك فيها كافة التّعاليم التي بُنيت عليها جماعات من أيّ اتجاه. فإنّه ليس من طبائع الأمور أن يَجتذب تجمّع ما عضوية الناس دون أن يدعو إلى أمر حسنٍ محمودٍ يناسب الفطرة وينزِع إلى الصَالح.
والشاهد على الفارق بين الدرجتين هو من منهج الإسلام ذاته، إذ إن الله سبحانه أرسل القرآن، يحوى أفضل التعاليم، ويُغذّى أرفع التوجهات الإنسانية، لكنْ كان من مقتضى حكمته سبحانه أنْ يَجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم هادياً ومرشداً ومعلماً، وموجهاً مبيناً للتعليمات التي بُنيت، في مَنهجه، على هذه التعاليم، كما في قول عائشة رضى الله عنها "كان خُلقه القرآن"الشيخان. كذلك فإن "تعاليم القرآن" ذاته، تجدها دائماً مصحوبة بتعليماتٍ (او تكاليف بالتنعبير الشرعيّ) مُحددةٍ مبنية على مناطاتٍ واقعية، تعطى المِثال، وتؤسس مبادئ النظر، وترسم طريق الإنتقال من مستوى التعاليم إلى مستوى التعليمات.
فالتعاليم التي ترَبّى عليها الإخوان (مع تحفظى الشديد على وصف الإخوان بأنها جماعة إسلامية كما ذكرت سابقاً، إنما هي جماعة وطنية سياسية ليبرالية) تغاير مغايرة شَديدة لما تربّى عليه السّلفيون. فالإخوان لهم منهج محدّد مُعسْكرٌ محصورٌ في صبّ أبنائه قالباً واحداً، مرتكزين في هذا على رسائل البنا، بشكلٍ شبه تام، ثم يخلو بعد ذلك منهجهم من أيّ توجيه علميّ موحدٍ، بل ينشغل أبناؤهم بالحَركة والتجميع والنشط الإجتماعية، دون الإلتفات إلى الناحية العلمية. أما السلفيون فتقوم تعاليمهم على أسس التوحيد وإتباع السنة، بطريقة تنحو إلمنحى الظاهريّ بدرجات تتفاوت، لكنها تتواجد بشكل دائمٍ على اي مستوٍ من مستوياتهم، ثم اعتادوا قبل أن يفرج عنهم ثوار 25 يناير أن ينأوا بأنفسهم عن الخلطة "بالجهلة العاصين" من الخلق، رغم إجماع مشايخهم على ضرورة السَمع والطّاعة لمن غلب.
ويتّحد الإخوان والسلفيون في أمر واحدٍ، وهو طبيعة التربية التي تقوم على إتباع التعليمات الصادرة من أعلى، مع الإختلاف في تأويل هذا الإتباع. ففي تنظيم الإخوان، يكون أمر الإتباع شرطاً في العضوية اصلاً، ثم يكون خاضعاً للتدرّج البيروقراطيّ الهيكليّ، مع مسحة من الإلتزام ببيعة على إتباع المرشد. أما السلفيون، فالأمر بالنسبة اليهم أقوى صلة بالنظرة الصوفية للولي، الذي هو الشيخ بالنسبة للسلفيّ، مع دعم نصوصيّ مما ورد عن ضرورة اتباع العلماء، وخطر مخالفتهم، وكل ما هو من هذا القبيل.
ولاشك أن الكثير من المصلحين من أهل السنة العادلة، حاولوا أن يتناولوا هذا الأمر من ناحية الإجتهاد والتقليد، وأن يشرحوا معنى التقليد، وحدوده وضوابطه، وعدم جدواه في كثير من المسائل المتعلقة بالعقائد خاصة. لكنى، في هذا المقال أنحو منحى آخر في تقعيد هذه المسألة، وهو النظر اليها من ناحية مبدأ الولاء والبراء، إذ إن هذه الزاوية منها هي أشد خطراً وأبعد اثراً من مجرد إرجاعها إلى التقليد المذموم، خاصة وقد يرجع البعض على المعترض بأن غالب هؤلاء هم حقيقة من المقلدة، ممن لا يمكن لهم الإستقلال بالنظر. وهذا الأخير توجيه خاطئ للمسألة كذلك، لكننا سنضرب عنه الذكر صفحا في مقالنا هذا.
إن قاعدة الولاء والراء في الإسلام، هي مركبٌ من مركبات التوحيد، سواءً عند من اعتبرها ركناً فيه أو عند من إعتبرها شرطاً لصحته. والولاء يعنى الإلتزام بالنصرة والعون، والبراء يعنى الإلتزام بالمفارقة والصدّ. وهذه القاعدة الركينة في الإسلام قد دلت عليها العديد من النصوص القرآنية والوقائع النبوية، بما يجعلها متواترة ثابتة نصاً وإجماعاً.
هذا الولاء والبراء، ليس ولاءاً لأي أحدٍ أو على أيّ تواثق أو توافقن بل هو على ما ثبت صحته في الإسلام، سواءً بنصٍ أو إجتهاد مجتهد، بشروطه. لذلك تجد أن صفة الإيمان قد صاحبت كافة الآيات الذي ذكر فيها الولاء، كما في قوله تعالى"الله ولى الذين آمنوا"، "إنما وليكم الله والذين آمنوا"، "المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض"، كما ذكرت بنزع الإيمان في حالة الحديث عن البراء "إذ قالوا لقومهم إنّا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله"، "لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله"، ومثل هذا كثيرٌ منتشرٌ معروف. إذن فالولاء والبراء يكون على أساس من صحة العقيدة. والعقيدة الصحيحة يتبعها عمل صحيح خاصة في الأمورالتي لها صلة مباشرة بقضية التشريع وحقيقة السمع والطاعة لله وحده. هذه القضية الأخيرة لا يثبت دونها ولاء ولا بيعة ولا سمع لمرشد أو لشيخ كائناً من كان.
من هنا، فإن تلك التربية التي أشرنا عليها، في تلك الجماعات، والتي تقوم على الولاء للجماعة، حتى فيما يمس العقيدة، تخدش مقام التوحيد، في رتبة الولاء والبراء، عند أتباعها دون أن يعيروا لذلك بالاً. فبينما يجب عليهم أن يتبعوا من يأمر بالطاعة ويحض على إتباع الشريعة، تجدهم، ولاءً للجماعة، أو طاعة عمياء للشيخ، يسيرون وراء تعليمات، تناقض في حقيقتها جوهر التعاليم التي يفترض أنها مرعية محفوظة الجانب. وليس أدل على ذلك في واقعنا المعاصر من قضية إنتخاب الرئيس المقبل. فبينما تجد أن الوحيد الذي أثبت ضرورة إتباع الحلال والحرام، وضرورة إقرار مبدأ السمع والطاعة لله، هو حازم أبو اسماعيل، تجد أن تعليمات الإخوان قد صدرت بإنتخاب من ليس له خلفية إسلامية، أي، بالتعبير الشرعيّ، إعطاء الولاء والنصرة لمن ليس لديه إتجاه إسلاميّ، هكذا قال مرشد الإخوان إلى الخراب والزلل المشير محمد بديع. وفي هذا تتمحص قضية الولاء والبراء، ويظهر خراب التربية الإخوانية التي نزعت من معنى الولاء أخص صفاته، وهي الولاء للحق وللداعي اليه، ليس لما يراه مرشدهم وإن كان خطؤه لا يحتاج إلى دليل
وليس يَصحّ في الأذهانِ شئٌ إذا احتاجَ النهارُ إلى دليلِ
والسلفيون يسيرون بنفس المنطلق، من طريقٍ آخر، وهو الولاء للشيخ، ولفتاوى الشيخ، ولجلال الشيخ، ولعظمة الشيخ، ولعلم الشيخ، حتى ولو لم يكن للشيخ كتاب واحد يدلّ على قدرة في البحث وتوغل فيالعلم، واللواء محمد حسان خير مثال على هذا الأمر! هذا الموضوع، ليس فقط موضوع تقليد مذموم، بل هو موضوع ولاءٍ يريده الله في ناحية، ويريده محمد حسان في ناحية أخرى، كما في حالة الشيخ حازم أبواسماعيل.
الخطورة إذن، تكمن هنا في مبدإ تزييف الولاء والبراء، وفي توجيهه وجهة تخرج به، تطبيقاً، عن مراد الشرع منه، وهذا بدوره تهديد خطير للثابت العقديّ عند أبناء هذه الجماعات، وإن غفلت عنه الشباب لخلطهم في التفرقة بين التعاليم العالية الصافية التي يدرسونها، وبين التعليمات التي تَصدُر اليهم من قياداتٍ تلوّثت بالقُرب من القمة، فإنه يجب أن نفرّق بين من هو قريبٌ من القَاعدة الشّعبية، ومن هو قريبٌ من هَرَم السّلطة. هذا القُرب من السّلطة، وهو قريبٌ من مفهوم الدخول على السلاطين الذي اسهب فيه السلف بياناً، وحذّروا منه على أي مُستوى كان، خاصة لمن لم يتحرر قصده وتخلص نيته، وتلاعب بالمفاهيم وتزاحم في فكره وفعله الحق والباطل.
وأمر هذه التعليمات، لا يخضع حقيقة لعلم مُكتَسبٍ، قدرَ ما يخضعُ لفطرةٍ سَليمة، لكنّ ذلك الخَلط الذي ذَكرنا قد أوقع أبناء هذه التجمعات في إتباع المحظور، والإضطراب في تمحيص الولاء وتحديد بوصلته.
(2)
الأمر الذي نخرج به من هذا النظر والتحليل، يقودنا إلى ما نريده من توجيه وترشيدٍ لشباب الدعوة على منهج السنة العادلة، بل ويدعونا إلى إشراك قيادات هذا التيار في نظرتنا هذه التي ترى أنه من إهدار الجهد أن يصرف شباب الدعوة وقتهم في حوارات وجدل عقيم مع "الملتزمين" من هذه الجماعات، أمكثر مما يقضون في الدعوة بين صفوف الأغلبية المسلمة التي لم تتشوه عندها عقيدة الولاء والبراء، بتخليطات البيعة، وقواعد الجماعة والإنبهار بالمشايخ، إنبهاراً كإنبهار الوعل في مواجهة أضواء السيارة المقبلة، تحمل له الموت، ويجمد في مكانه حتى تصدمه!
وإذا رَجِعنا إلى ما قرّر العلماء في هذا الباب، نجد أن أقرب ما يمكن الرجوع اليه فيه هو ما ذكر الشاطبيّ رحمه الله في الإعتصام عن درجات المبتدعة. فعلى رأسهم صاحب البدعة ومنظّرها الداعي اليها، ثم يتبعه مقلده، الذي يعلم من مفرداتها ما يؤهله للحجاج عنها جملة لا تفصيلاً، ثم الثالث الذي يتبع هذين الإثنين، إنبهاراً وإعجاباً دون أي دليل على صحة ما يقال. فالأول والثاني هما من أهل البدعة ممن يقع عليهم عِقاب أهل الأهواء بدرَجاته المُختلفة من الهجر إلى التعزير. أما الطبقة الثالثة، فهي بين العذر والإدانة، لكنها، في غالب أمرها، لنْ تتخلى عنْ ولائها، إلا إذا انبهرت بمن هم أقوى من الأولين، إذ هي لا تتبع دليلاً أصلاً، بل دليلها هو "ألا ترى علم الشيخ؟" "ألا تسمع حديث الشيخ؟" ومثل ذلك من نتائج الإنبهار، الذي لا يجدى معه دليل أو إعذار.
الذي أنصح به أبناء التيار الإسلامي السّنيّ، بكّافة طوائفه، أن تتوجه جهودهم إلى ذلك الكمّ الهائل من الشباب المسلم الصادق الصافي النقيّ، إذ هم الأكثرية ولا شك. والعلم الزائف اشد خطراً على صاحبه من قِلة العِلم، التي صاحِبُها كصفحة بيضاء، يكتب عليها المرء، بدلا من أن ينصرف لمسح ما عليها من تخليط و"شخبطة" باطلة، ثم يثبت فيها الحق بعد لأيٍ ونَصب.
وقد يبدو هذا الطريق أصعب من غيره لبادئ الرأي، لكنه في الحقيقة أجدى نفعاً وألصق بالسنة من غيره. كما لا يصح عموماً أن يكون الطريق الأسهل هو ما يلجأُ اليه الداعية، بل الطريق الأصوب هو ما يجب علي الدعاة سلوكه وتحمل مشاقه.