فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      الموت .. الغائبُ القريب

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

      شرعت أكتب هذا المقال منذ أكثر من ستة أشهر، وبالتحديد في مايو من العام المنصرم. وسبحان الله، ما توقعت أن أعودَ اليه بسبب فراق الشيخ رفاعي سرور. لكن الأقدار سابقة، والموت قريبٌ، والوداع قضاءٌ مكتوب.

      خَاللت توديعَ الأصادق للنَّوى             فمتى أودعُ خِليّ التوديعا

      الموت مصيبة بكل مَعايير الحسّ البشرى، سماه الله كذلك "فَأَصَـٰبَتْكُم مُّصِيبَةُ ٱلْمَوْتِ"المائدة106، وأجمع الناس على ذلك، الصديق والعدو، القريب والبعيد. لكنها، أحسب، والله أعلم، مصيبة لمن بقى من الخلف، إن كان المرء من أهل التقوى والصلاح، ومصيبة للميت، إن كان من أهل الفسق والفساد.

      حين يكون المتوَفَّى رجلاً صالحاً عالماً ذاهداً، ينصحُ لنفسه ولأهله وعشيرته، ويدعو إلى الحق، ويحيا عليه، ويعذب في سبيله، كما كان شيخنا رفاعي، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً، فموته مصيبة لمن حوله، لا أقول أهله وأقاربه، فإن ذلك مما جُبلت عليه الفطر، أن تحزن لفراق من تحب من الأهل، ولكن أقول مصيبةٌ عامة لا تختص بأهلٍ أو ولد. هي مصيبة أمة، تَتَيتّم مرة بعد مرة، مع كل عالمٍ مُفارق.

      ذلك أنّ الثابت شَرعاً، والمُشاهد واقعاً أن أهل الفَضل في انحسار دائمٍ وفي اندثار مستمر. فقد ثبُت هذا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"، وهو ظاهرٌ في انقراض الثبات الصالحين، قرناً بعد قرن، زمنا بعد زمن، حقبة بعد حقبة. كما أنّ ذلك مشاهدٌ معروف، إذ أين أمثال محمد شاكر ومحمود شاكر ومحمد محمد حسين وسيد قطب والشنقيطي ومحمد إبراهيم والدوسري والغديان ورفاعي سرور، رحمة الله عليهم جميعاً؟

      ذهبَ الذين يُعاشُ في أكنَافِهمْ               وبَقيتُ في خَلفٍ كجلدِ الأجرَبِ

      المصيبة التي مازالت تصيب الأمة هي التي أشار لها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح عن عمرو بن العاص رضى اله عنه"إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالما ، اتخذ الناس رؤوسا جهالا ، فسئلوا ، فأفتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا" البخاري. هذه هي المصيبة التي تواجه الأمة كل مرة يختار الله سبحانه أحد علمائها لجواره الكريم. السؤال هو أين البديل؟

      لقد ترك لنا الشيخ رفاعي، تركة مثقلة بالهمّ والهُموم، وساحة مُترعَة بالرويبضات، وواقعا فشت فيه الفتاوى "المُعلبة"، علماء بدّلوا وغيّروا، منهم علماء "قطاع عامُ" ومنهم "قطاع خاص"، اشتروا رخيص الدنيا بغالى، وحَمَلوا العِلم كأنه حَملُ البغالِ! فأيّ علم لمن تابع السلطان الكافر الفاسق الظالم، الذي حكم الله فيه من فوق سبع سموات، بما انتزع من حقّ التشريع، فرضوا وتابعوا، رغبةً في المناصب، وهرباً من جهادٍ واصب. أضلوا شباباً كثيراً، وأعموا أعينا غضة عن الحقائق، حِرصاً من هؤلاء اللئام على حُسن عِلاقتهم بالنظام.

      هذا ونحن في وقتٍ عزّ فيه أصحاب الهمم، وتعطشت لوجودهم الدول والأمم، فبنيانُ واحد منهم يقوم بما تُنشأ فرقة من غيرهم. ليس ذلك مقتصرٌ على التحصيل، بل على النظر والتّحليل. إنّ تحليل هؤلاء، وأخصّ منهم شَيخنا رحمه الله، ونظرتهم إلى الواقع تكشف خبيئه، وتفهم ماضيه ونسيئه. وهي قدرة عزيزة لمن فهم ما أعنى.

      ثمّ الأهم، هو الهمة، وهي ما أراها تُفتَقَد في كثير من أبناء الجيل الجديد. الهمة التي تبعث على إدراك أهمية الأمر الذي يقصدونه، ثم التعلم والبحث الحثيث، ثم التحليل والتمحيص، ثم الإنتاج من كتابة أو تدريس، ثم القيام على ذلك دهراً لا ينالهم تعب ولا ملل، فهي خطة حياتهم، لا حياة لهم إلا بالسير على خطاها.

      هل يعي الجيل الجديد ما أمامه من مهام؟ هل هو مستعدٌ لحمل الأمانة، بعدما ظهر أنه قد راح الكثير، وبقي القليل، علما وعزماً. فالجيل الغارب لم يبق منه إلا أقل القليل، منهم المغترب ومنهم العليل، لكن حقّ على الناشئة من الجيل القادم أن يهتبلوا الفُرصة، فلا يضيّعوا لحظة دون الرجوع إلى هؤلاء الأعلام من البقيّة  الصالحة، يأخذون المنهج ويتعلمون تصحيح النظر، وتحقيق المناطات، فهي في أيامنا هذه، مزلة العلماء.

      سبق أن قال القدماء عن الستينيات من العمر "قاصمة الرقاب"، وصدقوا. فها قد ذهب عالِم آخر، وبقي كثير من الجُرْب، يتصايح بالبرلمانات، ويتآمر مع الطغاة. وليس لنا إلا أن نُردّد قول الله تعالى :ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَـٰبَتْهُم مُّصِيبَةٌۭ قَالُوٓا۟ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَ‌ٰجِعُونَ"البقرة 156.