الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
الدكتور راغب السرجاني مؤرخٌ جيدٌ وداعيةٌ محبّب إلى القلوب لا تكاد تجد فيه هنات كثيرة، إلا إنتسابه إلى الإخوان، التي هي، بعدما تجلت للأعين والقلوب عوراتهم، صارت منقصة حقيقية يجب على من يخشى الله حقاً أن يتملص منها.
لكن الدكتور، مع الأسف، تبنى وجهة نظرٍ في الموقف الراهن تقوم على معطيات لا دخل لها بما يجرى حقيقة على الأرض، سواءً أرض الميدان، أو أرض البرلمان. فكان أن خرج على الناس بتحليل للأحداث في مصر، يتسق مع تحليل الإخوان ونظرتهم، ومع ما يريده العسكر أن يستقر في عقول الناس، من وهم اللهو الخفيّ، الذي هو ليس إلا الداخلية وبلطجيتها، أداة طيعة في يد العسكر.
خرج علينا الدكتور السرجانيّ، في السابع من فبراير، بتسجيلٍ تحدث فيه عن الأحداث في مصر، دارت محاوره على التالي:
- أن المُطالبين بالتغيير الحالّ، والضغط على العسكر ومهاجمة وَكر الداخلية الذين هم مصدر البلطجية، بلطجية، أو يهود وصليبيون!
- أن الوضع الحاليّ يشبه الوضع بين علىّ وعائشة !!! من أن أصحاب الفتنة هم أصحاب عائشة التي أخطأ إجتهادها، وأن علىّ إختار الإنتظار على القتلةـ لحين استقرار الدولة ...عجيب...
- أن الواجب أن ننتظر الإصلاح القادم، متمثلاً في العملية السياسية الحالية، البرلمانية، وأن ونساعده ونعينه.
هذه المحاور، رغم حبكة خيوطها ومتانة تركيبها، حيث استخدم فيها الدكتور معلومات تاريخية صحيحة، أنزلها على مناط لا يليق بها ولا يتسق مع أحداثها، فكان فيها من الخلط، والتخبط، في الأسباب والنتائج، ما يجعلها ملبسة للحق بالباطل، ومعينة على الإضلال، ولنتناولها بالنظر تباعاً.
المحور الأول: أنّ المُطالبين بالتغيير الحالّ، والضغط على العسكر ومهاجمة وَكر الداخلية الذين هم مصدر البلطجية، بلطجية، أو يهود وصليبيين!
وهذا والله ظلمٌ بيّنٌ للكثير من أبناء الشعب، وتكرارٌ ممجوجٌ لتلك الإتهامات الباطلة التي كان، ولا يزال، نظام مبارك يرمى بها العديد من المخلصين، أنهم خونة عملاءٌ لليهود، وأنهم جزءٌ من مخطط خارجيّ لهدم مصر، وأنهم بلطجيةٌ مأجورون.
أنا والله لستُ بلطجياً. وأتباع حازم أبو اسماعيل ليسوا بلطجية، وكثير من السلفيين في مصر، ممن كفر بأقوال مشايخ الفضائيات، ليسوا عملاء مأجورين. بل نحن قومٌ نرى الخيانة التي حدثت من قبل قيادات الإخوان، في صفقتهم الشيطانية مع العسكر، والتي أصبح اليوم لا ينكرها إلا أعمى البصر والبصيرة، ونرى ما يترتب عليها من خداع للشعب الذي وثق في هؤلاء وظن بدينهم الخير، فإذا بهم يتآمرون علىه مع العسكر، ليجعلوا مصر دولة، كما كانت لعقودٍ طويلة، خاضعة للعسكر على الحقيقة، طالما الإخوان قابعين في مجلس الشعب، والكتاتني يصرُخ في وجه نوابه كالنّاظرِ الفاشِل في مَدرسة المُشَاغبين، وخَيرت الشَاطر يعقد الصَفقات لبناء الصَرح الإقتصادي الإخوانيّ، لا المِصريّ. ثم يطوعوا الرياسة والدستور لخدمة أغراض العسكر، بإعطائهم الميزات التي تجعل منهم دولة داخل الدولة..هذا وإلا حلّوا البرلمان، وسحبوا الكراسيّ من تحت مقاعد الإخوان! وسحقاً للشعب ومصالحه.
ثم نسى الأخ السرجانيّ، أن في مصر ألف شهيدٍ، وستة آلاف جريح، لو خرج لكل واحدٍ من هؤلاء خمسة أفراد من أهله وأقربائه، لكانوا اثني وأربعين ألفاً من البشر..سبحان الله، أهذا الكمّ الهائل وحده لا يكفى أن نحترز من وصف الجموع تلك بالبلطجية؟
نعم هناك فلول في الشوارع، ونعم هم من قاموا بعملية بور سعيد. لكن من سمح لهم بذلك؟ من رفض تطهير الداخلية؟ من ترك حكومة طرة تنعم بكافة ما يمكنها من وسائل تتيح لها الترتيب والتخطيط؟ من ترك الحيزبون سوزان تأتي وتذهب على هواها، ساعية بالخراب إلى ديار مصر؟ من الذي أصر إلى يومنا هذا أن يُكتب الدستور في زمن العسكر وعلى أعينهم؟ من الذي يفرض على الشعب رئيساً "توافقياً" يوفّق بين الإسلام والكفر، بمباركة وتأييد عميان الإخوان؟
أهذا ما تسميه بوادر النهضة يا دكتور سرجانيّ، كما قلت في تسجيلك؟ لا والله ليست هذه نهضةٌ، بل هي كبوة وتقهقر وتراجع، لمن له بصر وبصيرة.
المحور الثاني: الوضع الحاليّ يشبه الوضع بين علىّ رضى الله عنه وعائشة رضى الله عنها !!! من أن أصحاب الفتنة هم أصحاب عائشة رضى الله عنها التي أخطأ إجتهادها، وأن علىّ رضى الله عنه إختار الإنتظار على القتلةـ لحين استقرار الدولة ...عجيب...
هي الطامة الكبرى التي زين بها السرجانيّ حديثه. فصار يطابق في الكلام بين ما حدث في موقعة الجمل الأولى، وما نحن فيه اليوم، ويستعمل مصطلحات اليوم كالبلطجية، يسقطها على أحداث الماضى، ليكون الإسقاط النفسي والمنطقيّ سهل على العاميّ أن يهضمه. ومع الأسف، كنت أنتظر منك يا دكتور سرجانيّ، وأن تكون غواصاً في التحليل، لا أن تعوم على سطح الإحداث بفكرك، فيأتي متهالكاً متهافتاً.
فأين موقعة الجمل وأحداثها مما نحن فيه. أطراف موقعة الجمل إثنين، جعلنا الدكتور السرجاني نتوهمهم ثلاثة، علي رضى الله عنه ، وعائشة رضى الله عنها ثم الطرف الثالث "اللهو الخفيّ"، هم قتلة عثمان وأتباع عبد الله بن أبي بن سلول.
يصدر الدكتور السرجاني في تحليله من إعتبار قتلة عثمان رضى الله عنه وأتباع عبد الله بن أبي بن سلول هم اللهو الخفي اليوم، هم البلطجية، الذين أرادوا أن يوقعوا بين عليّ رضى الله عنه وعائشة رضى الله عنها بالأمس، وهم الذين يريدون اليوم أن يوقعوا بين الخيرين الصالحين العاملين على النهضة، وبين.. بين من يا دكتور سرجانيّ؟ لقد ذكرت أنّ ليس هناك إلا بلطجية خارجين على الشرعية، لكن شرعية من؟ أتكون شرعية المجلس العسكري والداخلية، التي يقف في وجهها الثائرون "البلطجية كما يراهم"؟ يكون إذن قياسنا هنا على أنّ مجلس العسكر هم عليّ رضى الله عنه وأنّ عائشة رضى الله عنها.. ما مقامها هنا في زمننا؟ لا أرى لها مرجعاً حالياً في الصورة التي يرسمها السرجانيّ، فإنه ليس هناك من اجتهد وأخطأ، هناك فقط بلطجية، وداخلية. أم يرى السرجانيّ أن الشرعية التي هي عليّ رضى الله عنه ، هي البرلمان، والبلطجية هم البلطجية، فلا يزال دور عائشة رضى الله عنها في هذا القياس الفاسد غائباً. ثم، ألا ترى يا دكتور أنّ البلطجية اليوم، يريدون أن يسلموا السلطة إلى البرلمان، أي أنّ عبد الله بن أبيّ وقتلة عثمان رضى الله عنه يعملون على تسليم السلطة لعليّ رضى الله عنه ، فهل يستوى هذا القياس لديك؟ هل تنادوا بتسليم الدولة إلى عليّ رضى الله عنه ، أم العكس؟ كيف إذن يقاس هذا على وضع اليوم؟
ثم إن عليّ رضى الله عنه خرج لقتال الخارجين عن شرعية الدولة، فأين هو ممن يريد أن يركن إلى الخارجين الحقيقيين عن شرعية الدولة المسلمة في مصر، بتأويلات خائبة، وصفقاتٍ خاسرة؟ كيف يتأتى لك يا دكتور سرجانيّ أن تقع في هذا الخلط المعيب، وإن كان ظاهره صحيحٌ لطالب علمٍ غير محقق؟
الأمر كله تيه في تيه، وخطأ على خطأٍ، فليس هناك مقارنةٌ بين ما نحن فيه إلا عن طريق قياس شبه مضلل ليس فيه حكم أصلٍ تجمعه بحكم فرعه، علة جامعة، على وجه اليقين.
ثم أسأل الدكتور، هل قاتل علي رضى الله عنه عائشة رضى الله عنها ، ليعود إلى ثكناته، ثم يفاوض من خرج على شرعيته، وينشأ برلماناً، أم إنه خرج بعدها لحرب من انتزع السلطة من وليها الشرعيّ، ووقف في وجه غاصبيها، بقوة السيف، لا بميكروفونات البرلمان، "هيصة" الكتاتنيّ؟
قياسٌ فاسد، وتنافرٌ بين الأحداث، لا يصح أن يؤخذ هكذا على عِلاته، فربّ مظهر من النظر وصورة من البحث خداعة لا تمت للنظر أو البحث بصلة.
المحور الثالث: أنّ الواجب أن ننتظر الإصلاح القادم، متمثلاً في العملية السياسية الحالية، البرلمانية، وأن ونساعده ونعينه.
وأسأل الدكتور السِرجانيّ، أين الإصلاح القادم؟ أنغُشّ أنفسنا، أم نَمْكُر بتفكيرنا، أم نستهزؤ بعقولنا، أم نستهين باستدلالنا ومنطقنا؟ من هم ولاة الإصلاح هنا في يومنا هذا؟ البرلمان المُكبل، المنزوع المخالب، المهيض الجناح، برضا غالبية أعضائه وتواطئهم على صفقة "كامب سليمان"؟ أم هم العسكر الذين أجهضوا كلّ محاولة إصلاح، بكل وسيلة خبيثة ممكنة، خلال السنة الماضية؟ أهم من سيكتب دستوراً توافقياً (يوفّق بين الكفر والإسلام) تحت سمع العسكر وبصرهم، وعلى أعينهم، يحتفظ لهم بنصيب الأسد من حكم الدولة وإقتصادها؟ أهم من يفرض على الشعب رئيساً توافقياً، متوافقاً بين العلمانية والإسلام؟
لقد خلطت يا دكتور بين انتخاب الشعب لممثلي الإخوان، وبين موافقته على العمالة الواضحة لقياداتهم ... فقد خان الإخوان ثقة الشعب، وصفقته مع العسكر واضحة .. والشعوب عقلها في أذنيها، تسمع ما يقال، لا تحلله، إلى أن يصل الأمر إلى درجة الوعي الجماعيّ، وحينها سيقذف الشعب بحركة الإخوان في مزبلة التاريخ.
أين هم أهل الإصلاح يا دكتور سرجانيّ؟ ألك أن تخرج على الناس فتيبن موقفك من هؤلاء الفرقاء، بدلاً من هذه الأقيسة الفارغة المحتوى. أخرج علينا بتقييمك لكل الأطراف المعنية، ولا تتحرج ولا تخشى في اللعه قولة حق. حينها يمكن أن يعرف الناس موقعك من إعراب جملة الثورة.