الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
وصلنى أن عدد من الإخوة الذين أتشرّف بإطلاعهم على ما أدوّن، على ضيق باعى وقلة متاعى، قد ساءهم حدة قلمى وقسوة أسلوبي وعنف تعبيراتى، رغم إعجابهم بمحتواه وتقديرهم لمضمونه. بل صرّح أحدهم ممن أثق فيه، أنّ هذا الأسلوب العنيف، على صحة محتواه، يمنع عددا من الناس أن يستفيد مما قد يكون فيه من نفعٍ أو علم.
وقد أحزننى ذلك كل الحزن، خاصة من أولئك الذين لم يتحدثوا بهذا إليّ شخصياً، رغم معرفتنا الوثيقة، ولكنهم داروا يُصرّحون بهذا بين الناس، مما اعتبرته نقضاً لعرى الصداقة، لا لأن النقد يؤذينى، لا والله، بل لأنهم يعرفوننى أكثر مما يعرف الأخ أخاه، وكان من الأوفق والأقوم أن يناقشونى فيما رأوه مخلاً من وجهة نظرهم، بدلا من أن يسعوا بين الناس بهذا من خلف ظهرى. لكن الأيام والأحداث تكشف خبئ الناس.
وقد انقسم المُعترضون إلى فريقين، أولهما وافق على ما أقول جملة وتفصيلاً، ولم يرى في توصيف هؤلاء بما يستحقون عيباً أو افتئاتاً، لكنهم اعتبروا أن ذلك قد يكون مانعاً من أن نتوجه إلى الإخوة ممن لم يتلوثوا بجراثيم الإخوان، وتأويلات السلفية، فيمنعهم رؤية قيادات ومَشايخ تُهدم بهذا العنف أن يتبينوا الحق ويتّبعوه. وهؤلاء على حقٍ فيما يقولون، ولكن، أن يُطْبِق الناس جميعاً على إغفال الإشارة بالبنان إلى هؤلاء العملاء وتسميتهم وفضحهم على الملأ، فهذا لا يجوز شرعاً على وجه اليقين. بل الأصلح أن يقوم أحدٌ من الناس بهذا البيان، ولا يهتمٌ بما يقال ولا بما يرميه الناس به، ثم ليكن ما يكون.
والقِسم الآخر، هم ممن ابتلاهم الله بضعفٍ طبعيّ ولينٍ ذميمٍ، وخوفٍ عن المُواجهة بأي صورة كانت، حتى أن بعضهم ممن هم من أبناء سوريا الحبيبة، لم نر لهم مقالاً واحداً يهاجموا فيه بشاراً، وهو القاتل السفاح النصيريّ، ولم نرى لهم إلى يومنا هذا باعٌ في توجيه الحاضر السوريّ، الذي يتطلب، أكثر ما يتطلب اليوم، أن يتواجدوا على الساحة السياسية السورية، كما نتواجد نحن على الساحة السياسية المصرية، ولا حتى باللين والرفق الذي يزعمون، إذ أمرهم أمر ضعفٍ وخدرٍ لا أمر لين ولا رفق.
على كل حال، عودة إلى هذا القلم العنيف، الذى صاحبنى عنفه وقسوته عقوداً عدة، منذ أن بدأت في صناعة الإنشاء في بداية السبعينيات.
أود أن أشير أولاً، أن الأسلوب قطعة من نفس الكاتب، وجزء من شخصيته. وهو لا يقدر على تغييره أو تبديله، وإلا صار ليس هو من يكتب، وخرج عن حيز الشخصية إلى حيز الإفتعال والتصَنّع. ومن ثم تضعف الفكرة وتنحل عرى الموضوع.
ثم إننى أرى، ولعلى على خطإٍ في هذا، أنّ الساحة الإسلامية قد ماجت بالنقد الهادئ، الذي يصل إلى حد التعتيم على المَثالب والخطايا والبدع. ويتم هذا بإسم الرأفة والبعد عن التعرض للشخص، بل للموضوع، وما إلى ذلك مما ألفناه على مدى أعمارنا.
لكن انظر حولك، يا أيها اللائم اللاحى. ماذا ترى نتيجة هذا التهاون في البيان، والتقصير في الإشارة بالبنان؟ ترى خلطاً عند الشباب، بل وعند الشيوخ، بين الحابل والنابل، وبين الصالح والطالح. ترى نقصاً حاداً في تحقيق المناط، ومن ثم إلقاء اللوم على المَلوم، وفي هذا ما فيه من الإنتقاص من تحصيل قصد المولى سبحانه في طلبه لنا "لتبيننه للناس". هذا الأسلوب، الذي يدور حول صاحب الخطأ ولا يعيِّنه، رغم أنه يفعله علنا، ويدعو له، ويشيعه بين الناس، كما تفعل قيادات الإخوان في قراراتهم المُنحَرفة، ومشايخ السلفية في فتاواهم الخَرِفة، هو أسلوبٌ أعتقد جزماً بأن فيه لمحة من خيانة لله ورسوله.
إن وصف العميل، في موضع عمالته، بأنه عميل، خاصة وعمالته صفة ملازمة له، لا حرج فيه. إنما الحرج في القدح فيما لا علاقة له بموضوع الإنحراف، كأن يتناول القادح أهل الرجل وعرضه، كما يفعل ساسة الغرب، أو صفوية الشرق. وهكذا في سائر ما يظهر جلياً من أفعال الخيانة والتنازل والخذلان.
ويأتي بعض من لم يرى الأمر على حقيقته، كما ورد في تعليقات بعض قرائنا من أتباع الإخوان، يقول "لكن الأصل وصف العمل بالعمالة لا وصف الشخص به"، قلت، هذا خطاٌ فاحشٌ، فإنّ القول في تكفير المعين، وشروطه، رغم أننا لسنا في مقام تكفيرٍ ابتداءً، لا تعنى عدم وصف الشخص بصفته، إن تحققت شروطه، هذه واحدة، والأخرى، أنّ مقام التكفير أمرٌ ومقام التفسيق أو التبديع أمرٌ آخر، ألم ترى أن الله سبحانه وصف من أتي بقولٍ فاسق، بالفسق "إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌۢ بِنَبَإٍۢ فَتَبَيَّنُوٓا۟"الحجرات 6. هذا هو الأصل، وهو ما جرت عليه الصحابة في العديد من المواقف، في عهد النبوة، بل وفي حضور رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد آليتُ على النفس، منذ أن بدأت أحداث الثورة المِصرية تتكشف عن خيانات وصَفقات وعمالة، هَبطت بالتيار الإسلاميّ كله إلى الحضيض، وأضْعفته أمام العلمانيين ممن لا خلق لهم ولا خلاق، آليت أن أعمل على هَدم هذه الرموز التي تصدّرت هذا السُّقوط، بكل ما آتاني الله من قوة بيان، على ضعفه. آليت أن أكشِف انحرافِهم لا تلميحاً، بل تصريحاً، لا مرة، بل في كل مرة يصيبون فيها دين الله بأذى. وقد أدركتُ أن هذا العمل لن يعجب الكثيرين، ولن يرضى عنه الكثيرون، لكننى أدركت كذلك أنه سدّ لثغرة يجب أن يقف عليها من قدر على المواجهة، ورغِب عن الشهرة الزائفة، والجماهيرية الخادعة. فإني والله لا أبغى سمعة ولا أطلب أتباعاً، ولا أريد أن أظهر في فضائية، أو أن يتنادى الناس بإسمي في المؤتمرات، فوالله لا يعنى هذا لي مثقال حبة من خردلٍ، إلا أنْ يَظهر وجه الحق من وجه البَاطل، وأن يتميز الخبيث من الطيب، فرداً فرداً، على التفصيل لا على الإجمال.
والعجب أن بعض من يَنسُب نفسه إلى البحث الإسلاميّ ، يقول أن حديثى متشائماً! ولا أدرى ما صلة التشاؤم والتفاؤل بالحديث عن الواقع ومعطياته ووقائعه وحقائقه؟ كيف يتحدث من ينسب نفسه لعلم وبحث، عن التفاؤل والتشاؤم، وكأننا نتحدث في ضرب الرّمل أو قراءة الفنجان! هناك وقائع وأقوال ثبتت عن هؤلاء الذين نتحدث عنهم، فما هذا الحديث عن تفاؤل وتشاؤم؟ سبحان الله العظيم.
وكما ذكرتُ، فإن هذا التوجه لن يَجلب عليّ إلا النقد ممن يرى خلاف ذلك من منهجٍ للنقد. ولكننى قدرت أنه يجب أن يكون هناك من يقوم بهذا الدور البغيض، دور الإشارة بالبنان إلى صاحب البدعة والعمالة والخيانة. فقمت به وأمرى إلى الله.
وقد أديت دوراً في السنة الأخيرة، التي تحوّلت فيها من كاتبٍ في الأصول والعقيدة، إلى كاتبٍ سياسيّ شديد الوطأة عنيف القلم. وهو، والله الذي لا إله إلا هو، دورٌ لم يكن يوماً قريباً إلى قلبى، لأنه يَطعن في فُؤادى قبل أن أطعَن بقلمي فيمن خَان وخَسر.
وإني قد قدّرت أننى قد بيّنت، في هذا المجال، كل ما يمكن قوله، وأعدتُه مرة ومرات، من شَتّى الزوايا ومُختلف وجهات النظر. ولم يعد لدي ما أقول في الإخوان، وشخصيات الإخوان، وعمالة الإخوان، أو في مشايخ السلفية الفضائية، وبدعة الإرجائية، اسماً اسماً، حتى صَحّ فيهم وفيّ القول "الضَرب في الميّت حرام". وعاد الحديث في هؤلاء مَمقوتاً مَمجوجاً مَكروراً. ومن ثم، فقد قدرت أن السياسة قد أخذت منى أفضل وقتى وأثمن جهدى في السنة الأخيرة كلها. ولم يعد لديّ ما يقال فيها.
هي العودة إذن إلى حديث العقيدة والفرق والإختلاف، وشرح الأصول وتحقيق مناطات الفروع، حسب ما يهيّ لنا الله سبحانه.
ونحن بِصَدد العَمل على تحرير التيّار السُنيّ لإنقاذ مصر، وسيكون لنا حديث عن المنهج، في مقالٍ قادمٍ قريبٍ إن شاء الله، لنبدأ مرحلة البناء بعد أن استنفذنا جهداً في هدم هؤلاء المتعاونين على تخريب دين الله، المتآمرين على نتحية شرعه، بعد أن أتاح الله لهم الفرصة للأخذ بها بقوة، دون عمل منهم ولا جَهد "فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُوا۟ كَفَرُوا۟ بِهِۦ"البقرة 89، كما أشار الشيخ أبو اسماعيل عن فعل هؤلاء.
فإن كنت قد قدمت في الفترة السالفة لما يمكن أن يحمل فائدة لأحدٍ، فبفضل الله وحده، وإن كنت قد جاوزت صواباً، أو تعديت على حقٍ، فما كانت النية متوجهة إلى ذلك يعلم الله..