فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      التهدئة والمفاوضة والمصالحة ...في الواقع الفلسطينيّ

      يتحدث كثير من كتابنا و"مفكّرينا" عن ضرورة الإرتفاع فوق الخلافات الشخصية وفوق جراح الماضي بين الإخوة الفلسطينيين، حتى يمكن أن تعود المياه إلى مجاريها ويقف الفلسطينيون يداً واحدة ضد العدو الصهيونيّ.

      حديث تتقبله النفس ويدغدغ العاطفة ولكنه لا يرقي إلى مستوى العقل ولا يلامس أرض الواقع بحال من الأحوال. والسبب في هذا أن كتابنا و "مفكّرينا”، الذين يتحدثون هذا الحديث، إما إنهم لا يعرفون طبيعة الخلاف بين سلطة رام الله العباسية، وبين حكومة غزة الحماسية، أو يتجاهلون طبيعة هذا الخلاف لأمر في نفس يعقوب (مع الإعتذار لنبي الله يعقوب).

      وحتى أُقرب الأمور للقارئ العزيز، فإنني أقرر بادءاً ذي بدأ بأن الخلاف في الساحة الفلسطينية-الإسرائيلية هو خلاف بين ثلاثة جبهات، الجبهة الإسرائيلية اليهودية، والجبهة الفلسطينية العلمانية اللادينية، والجبهة الفلسطينية الإسلامية.

      فالجبهة الإسرائيلية اليهودية تتحدث عن "تهدئة" مع "الجبهة الفلسطينية الإسلامية" بقيادة حماس، وتتحدث عن "مفاوضات" مع "الجبهة الفلسطينية العلمانية اللادينية" بقيادة فتح العباسية، وهذه الأخيرة تتحدث عن "مصالحة" مع "الجبهة الفلسطينية الإسلامية" بقيادة حماس!

      ثم أقرر كذلك أنّ الخلاف بين هذه الجبهات الثلاث متساو في عمقه واتساعه وأبعاده الأيديولوجية. "فالمصالحة" بين الجبهة اللادينية الفلسطينية وبين الجبهة الفلسطينية الإسلامية ليس باقرب تحققاً على أرض الواقع من "التهدئة" بين الكيان الإسرائيلي وبين هذه الجبهة الأخيرة. بل أزعم أن تلك التهدئة هي أقرب للواقع من تلك المصالحة الحالمة، وهو ما ظهر إبان العدوان على غزة المسلمة من تعاون القوى اللادينية في كافة أنحاء بلاد المسلمين وعلى رأسها الجبهة الفلسطينية اللادينية ضد غزة.

      ذلك أنّ الكيان الصهيونيّ – رغم جبنه وخداعه – إلا أنه كيان قائم فرض نفسه بالقوة، وعليه أن يراعي مصالح شعبه، فلا باس عليه أن يبرم تهدئة مع المقاومة الفلسطينية الإسلامية، لكن الجبهة الفلسطينية العلمانية اللادينية هي بطبيعتها وجود ضعيف يحاول أن يجد لنفسه مكاناً على الساحة الحاكمة، بمساعدة النسبة التي تناصره من الفلسطينيين الذين اتخذوا العلمانية سبيلا. وبنفس المنطق، فإن "المفاوضات" بين اللادينيين الفلسطينيين وبين اليهود الصهاينة أقرب للواقع وأسهل تحققا من "المصالحة" بين الإسلاميين وبين اللادينيين. والحق أن الجبهة اللادينية الفلسطينية لا طلبات لها من العدو الفلسطينيّ أكثر من كلمات تحفظ بها ماء وجهها أمام بعض من ظل يحسب أن لها كرامة ووطنية من أتباعها من الفلسطينيين ممن تخلوا عن الإسلام ورضوا بالوطنية اللادينية بديلا، وهو ما يفسر خروج عباس يوم أمس بإشتراط وقف الإستيطان لبدء "المفاوضات"! حركة سياسية يُراد بها إثبات أن هذه الجبهة اللادينية لا تزال على قيد الحياة، وأن "المفاوضة" حقيقة واقعة كما أن "التهدئة" حقيقة واقعة.

      كلّ من يعرف الفارق بين الأيديولوجية اللادينية التي تسعى لبناء حكومة عميلة أخرى على نهج الحكومات الخاسرة العميلة التي تعج بها المنطقة العربية، وبين الأيديولوجية الإسلامية التي تتبع نهج الله ورسوله، وتحاول أن تبني شعباً ودولة ذات قوة وكرامة يعلم أن ليس هناك أي قدر مشترك بين الجبهتين، لا مصالحة، ولا قواسم مشتركة، ولا رتق للإنقسام، فالأمر أكبر من ذلك. الأمر أن لا مرجع مشترك بينهما، جبهة لادينية مرجعها هو المصلحة الشخصية وعالمها هو الدنيا وهدفها هو السلطة والبقاء على سدة الحكم، وجبهة مرجها هو شرع الله ورسوله، وعالمها يشمل الدنيا كطريق للآخرة، وهدفها سيادة دين الله في الأرض وصالح أبنائها من المسلمين.

      هذا الفارق الهائل – لمن لم يلحظ من مفكرينا وكتابنا – هو ذات الفارق الذي تعاني منه الدول الإسلامية الأخرى التي لا يزال كثير من أبنائها على ولائه وحبه للإسلام، وإن عزف الكثير عن الإسلام الذي يحكم الحياة ورضوا بالحياة الدنيا من الآخرة، وكانوا – من حيث يعلمون أو لا يعلمون – اليد الباطشة للجبهة اللادينية الأوسع في أنحاء العالم الإسلاميّ.