الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
للثورات أسبابٌ ومنطلقاتٌ، تتعددُ وتتغيرُ وتتبدلُ، لكنها كلها تصبّ كلها في صورة واحدة، هي رفض النظام القائم جملة وتفصيلاً، والدعوة إلى تبديله لا تعديله، وإزالته لا إصلاحه.
وأسباب الثورات أو منطلقاتها، قريبة المأخذ من بعضها، وإن ظهر تباينها وتعددها، إذ أكبر أسبابها ومنطلقاتها هو الظلم الذي يستتبع الفساد بلا تخلف. الظلم عامل مشترك بين كافة الثورات التي أخذت مكاناً لها في ذاكرة التاريخ الإنسانيّ، سواءً العقدية أو اللادينية، ومن ثم، الفساد في الأرض.
خروج اليهود من مصر وراء موسى عليه السلام، كان لظلم فرعون وقومه وعلوه على الناس "إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِى ٱلْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًۭا يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةًۭ مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْىِۦ نِسَآءَهُمْ ۚ إِنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ"القصص 4.
نبوة لوطٍ عليه السلام كانت للفساد والطغيان الذي أشاعته قوم لوط في ديارها. نبوة شعيب عليه السلام كانت لمُحاربة الظّلم والفَساد في التجارة، التي تُشيع الفَوضى والطّبقية.
رسالة محمد صلى الله عليه وسلم كانت لرفع الظلم الأكبر الذي هو ظلم الشرك بالله "إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌۭ"لقمان 13. وهذا اللون من الظلم هو الأسوأ والأخطر، إذ هو يستدعى كل سيئة مكروهة وكل شر وفساد في الأرض، إذ لا رقيب عندها على أفعال المرء إلا ما يدفعه اليه شيطانه.
حتى الثورات اللادينية التي حدثت على مرّ التاريخ، تجد أغلبها، إلا ما كان منها منحرفاً عن الجادة، مصدره الظلم، كثورة العبيد في القرن الأول قبل الميلاد، المعروفة بثورة سبارتاكوس، والثورة الفرنسية على ظلم الحكم الملكيّ، والثورة الأمريكية على ظلم الإمبراطورية البريطانية، والثورة المكسيكية في أوائل القرن العشرين.
الثورة هي تعبير ذاتيّ جماعي عن رفض الأسلوب القائم، لظلمه وبشاعته، وتخطيه لحدود الله التي ارتضاها لعباده. وهذا قدر مشتركٌ بين بنى آدم، مؤمنهم وكافرهم، هو من قضاء الله الكونيّ، وإرادته الكونية.
فإذا رجعنا إلى واقعنا المصريّ، بعد تلك الإنتفاضة التي هي "إرهاصة ثورة" على أقصى تقدير، فإننا نجد أنّ أدوات الظلم لم تسقط في مصر، بل نحسبها أصبحت أكثر قوة وأنفذ وسيلة، إذ هى اليوم تعمل من خلال مؤسسة الجيش مباشرة، مستعينة بقوات أمن (إرهاب) عتيدة، لم تتزحزح عن مكانها ولم تتبدل أدواتها، بما فيها أمن الدولة الخبيث، بعد أن كانت تعمل من وراء ستار الرئاسة الفاسدة. كل ما تبدّل اليوم هو أنّ هذه القوى الظالمة، التي تحمى الظلم ومرتكبيه، تخطط لتعمل من وراء ستار شرعية برلمانية مزيفة، وتمسك بكافة خيوط القوة، وتترك الفتات، يعبث فيه نواب البرلمان من الإتجاهات الثلاثة المتناحرة، إخوان وسلفيون وعلمانيون، بدلا من إتجاه الحزب الوطنيّ الواحد.
هذا الواقع الحال، سبب كافٍ، شرعاً ووضعاً، لثورة متجددة، ثورة باسم الله، لنصرة دين الله. ثورة ترفع الظلم عن البلاد والعباد، لا أن تستبدل شرعية فاسدة بشرعية متواطئة. فإن رفع هذا الظلم، وإقرار العدل والحرية وإنفاذ شرع الإسلام كله، لا بعض مبادئه، هو مقصود الشارع، فإن لم يكن هذا سببا كافيا للثورة، فماذا عساه أن يكون، يا أولى الألباب؟
إننا، نحن المسلمون، قد عَقَدنا مع الله سبحانه عقداً هو أن "لا إله إلاالله"، وقد قال تعالى "يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ أَوْفُوا۟ بِٱلْعُقُودِ"المائدة 1، عليها عاهَدناه، فمن أوفَى بعهده مع الله، أوفى له الله بعَهدِه "وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَـٰهَدَ عَلَيْهُ ٱللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًۭا "الفتح 10.
لا تنصيف ولا مساومة ولا مُماحكة ولا مُداهنة في هذا العَقد والعَهد، فإن تلك المُخدرات السّياسية التي يراد لنا أن ندمنها، بأن يجعلوا في دستورهم مادة (الثانية الشهيرة)، تردّ الناس إلى كل شَرعٍ مع شرع الله تعالى، ولا تجعله وحده مصدرها، إنما هي عدولٌ عن عقد الله سبحانه وخيانة لعهده، لا يرضاها إلا ضالٌ منافقٌ دعيّ لا يدرى عن الإسلام شيئاً، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، ثم نثر بضع شعيرات على صفحات وجهه!
كلّ هذا الحديث عن المراحل والتدرج والتوافق والمشاركة، لا محل له في قاموس الشرع، حين يكون الحديث عن إعلاء "لا إله إلا الله"، في شعب غالبيته مسلم أولاً، راض بالإسلام، مختاراً لمن اعتقد فيهم أنهم ناصروه وناصروا دينه، في غفلة عن حقيقة ما يدعون اليه.
لن يقبل المسلمون بهذا التحوير والتزييف. لن يقبل المسلمون بهذا التواطؤ والتخاذل. لن يقبل المسلمون بهذه الشركية المبطنة بشعيرات اللحى المنسقة.
هذه هي شرعية الثورة. شرعية الإسلام. شرعية الخروج في 25 يناير.