الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
لعلى انحرف بالقارئ اليوم عن الساسة والسياسة، فقد مللتها وملّتنى، واستنفذتها واستنفَذَتنى، فلعل البعد يوماً عنها يدعو إلى القرب منها مرة أخرى!
وما أود أن أحدثكم فيه اليوم، هو تلك العلاقة الحسّاسة بين المرء وزوجه. علاقة تقوم بين رجلٍ إختار أن يقضى سنيّ عمره مع إمرأة، رآى فيها ما جعله يؤمن، ساعتها، أنها أنسب الناس ليكون منها كالثوب من الجسد، وبين إمرأة رأت فيه، ساعتها، ما حرّك فيها مشاعر الدفئ والحنان والأمان، فأجابت بنعم.
وما دفعنى إلى هذا الحديث إلا تلك الوتيرة التي باتت تتصاعد بها حالات الشقاق، وتتراكم بها سُحُب الشّقاوة والتَعاسة على بيوتات، كان أصحابها، وأهليهم، يرجون أن تكون محاضن للسعادة ومراتع للأمل.
كثيرةٌ هي الأسباب التي تؤدى ببيوت الزّوجية، في بلادنا، إلى مثل هذا الوضع، منها ماديّ ومنها إجتماعيّ، ومنها ثقافيّ، وكثير منها خليط بين الكلّ. لكنى أريد أن أمسّ سبباً منها أحسبه واحدا من الأسباب التي تخفى حتى على أصحابها، ثم يكون لنا عودة إلى سواه من أسباب.
حين ننظر إلى كلمة عقد "القران"، نجدها تدل على المقارنة والقرين، بمعنى المثيل والشريك. وهو المعنى الذي تبنيه اللغة العربية في قاموسها لتدل بها على تلك العلاقة بين المرء وزوجه، في أحسن احوالها. والرجل والمرأة، بعد قرانهما، يعيشان معا، في بيت واحد، يشتركان في مأكل واحدٍ، ومشربٍ واحدٍ ومخدعٍ واحدٍ، بل يكونان من بعضهما البعض كأنهما جسدٌ واحد، له روحان، كما قال تعالى "وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍۢ" النساء 21.
أو كما قال الشاعر
أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحنُ روحانٍ حَلَلنا جَسدا
هذا القرب الذي لا يكون إلا بين المرء وزوجه، يستلزم أن يكونا كتاب مفتوح، لا يخفى على صاحبه منه شئ، إلا أن يكون حقاً لآخرين، فتعرف الزوجة من زوجها لحظات سعادته، ولمحات حزنه، ويعرف منها وقت الضيق والكرب، ووقت الأنس والحب.
الداء هنا، هو ما يحدث لذلك الكتاب المفتوح، فإذا به تنطوى ورقاته، وتتشابك كلماته، وتتعرج صفحاته، فلا يصبح مقروءاً لصاحبه، او لصاحبته. وهو ما يكون مقدمة لإنفصال نفسيّ متدرج، يبعد بأحدهما عن الآخر، ويلقى بكلٍ منهما في زاوية من زوايا البيت الواحد، وكأنه في وادٍ وصاحبه في وادٍ آخر.
وحتى أكون مُنصفاً، فإن هذا الداء، عادة ما يصيبنا، نحن الرجال، فيبعد بالواحد منا عن قرينته، ويتركها وكأنها في وادٍ غير الواد، ويترك رونق وجهها، الذى شدّه اليها يوماً، وكأنه وهجٌ تحت رماد. وغالبا ما تكون الصفحات التي يغلقها الرجل هي ما يتعلق بما مَنّ الله عليه من فضلٍ في الناحية المادية، وما يتركها منشورة بينة هي ما يتعلق بمتاعب العمل ومصائب الحياة.
هذا النوع من الإغلاق، هو واحد من أهم أسباب التنافر بين الزوجين، فيكون الإنفصال الماديّ، بعد أن يتم الإنفصال الروحيّ، سواءً بقيا تحت سقف واحد أم لا. فإن من الطلاق ما يكون واقعاً بالفعل، وإن لم يحدث على الورق.
الإنفتاح، والحديث المتواصل، والإهتمام المتبادل، وتداول الرأي والمشورة، وحسن الإستماع، هي كلها مفاتيحٌ للتوافق النفسيّ بين كائنين يعيشان في حيزٍ واحدٍ محدود، مهما اتّسع، ويشتركان في كلً صغيرة أوكبيرة، شقية أوسعيدة.
ولا شك أن الرجل، أو المرأة، قد يحتاج أحدهما بعض المساحة الشخصية التي يتحرك فيها بمفرده، أو بمفردها، فللرجل اهتماماته الخاصة، التي قد لا تشاركه فيها امرأته، كقراءة الشِعر عامة، أو الإهتمام بالإلكترونيات، أو ما شابه، وللمرأة كذلك مجالاتها، كأشغال اليد، أو فنون الطّبخ. لكن من الجميل أن يتشارك الشريكان، ولو للحظاتٍ في هذه الإهتمامات الخاصة على إختلاف طبائعهما، لما ينشأ عن ذلك من تقارب، ولو لدقائق.
لم أر فيما رأيت، وكم هو ما رأيت، أفضل من أن يكون الرجل لإمرأته كتاباً مفتوحاً، سهلا قراءته، ممتعة سطوره، لا إغلاق فيه ولا تصنع. فإن لقلب المرأة باب واحدٌ، هو الإحساس بالأمان والطمأنينة، التي لا تتوفر إلا بهذا الوضوح وهذه الشفافية.