الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
صَدرت هذه الدراسة منذ عدة سنوات، على صفحات مجاة المنار الجديد، رداّ على مقالين، أولهما، بحث كتبه الأخ كمال حبيب، قصد به عمل مسحٍ لعددٍ من التيارات الإسلامية في الساحة وقتها، ومقال انتقده فيه عصام العريان، قائلاً أنه أغفل ذكر الإخوان عمداً، رغم أنها الجماعة الأم، كما يحلو لهم تسميتها، وأنه ذكر "الإتجاهات الثورية" لا غير. وقد كان هذا غريباً، إذ تناول حبيب، في هذا المقال، السّلفية التي هي أبعد ما تكون عن الثورية!
على كل حال، فقد حَرّرتُ الدراسة من أن تتوجه إلى مناقشة مقالات محددة، وقصدت بإعادة نشرها، لعلاقتها الوثيقة بما يجرى على الساحة السياسية اليوم، ولإعلام الشباب بتاريخٍ قد يغفل عنه بعضهم لصغر السن، أو محدودية القراءة. وليكن واضحاً، لمن ينقد رؤيتنا للإخوان، أننا حين نتعرضُ لتصرفات الإخوان، فإننا نعتمد على نظرٍ مدققٍ في تاريخهم الفكري والحركيّ.
شَاركتُ - وإخوة لي - في الكثير من الأحداث التي عَصفت بالساحة الإسلامية، والساحة المصرية بشكل خاص، منذ مشاركتنا في مظاهرات عام 1968، إلى ما بعد حادثة مقتل السادات، وبداية انغلاق ما يُفترض أنه كان نافذة يتسرب منها نسيم الحرية للعمل الإسلاميّ في خلال فترة السبعينات. وقد كانت مشاركتي بالقلم واللسان، فكتبت عدداً من الكتب التي نُشرت في مصر وخارجها إِبَّان هذه الفترة من الزمان، كما شاركتُ في توجيه عددٍ غير قليل من الشباب الذي كان متشوِّفاً للعلم، مقبلاً على دينه بصفاء ورغبة حقيقية في التغيير.وما أطلت بذكر هذه الخصوصيات إلا ليطمئن القارئ أنني أتحدث من واقع مَن عايش هذه الأحداث، وشارك فيها إلى أعماقها، فشهادتي شَهادة عينٍ، لا شهادة سَماع أو نقل .
السؤال الآن، الذي يطرح نفسه على المتابع للشأن الإسلاميّ: لماذا ازْوَرَّ مَن ازْوَرَّ عن حركة "الإخوان المسلمون" ؟ وما هو الذي أدى إلى أن ينقسم فيهم الناس بين موافق ومخالف ؟
سنحاول - فيما يأتي من قول - أن نتتبَّع ما صَاحَبَ ظهور حركة الإخوان من عوامل، كان لها أثر حاسم في توجيه فكر مؤسسها حسن البنا - رحمة الله عليه - ونبيّن ما تلا ذلك من مَراحل، كان فيها وفاءُ أبناء الجماعة لمؤسسها أعمق من ولائهم للصواب، والبحث عن الحق، فيما تجدد من أمور ووقائع.
كان صدى سقوط الخلافة هائلاً على مستوى الفرد وعلى مستوى الدول التي كانت تشكّل تلك الخلافة العريضة الممتدة إلي عرض قارات ثلاث في البعد المكاني , والي عمق أربعة عشر قرناً في البعد الزماني . وكان ذلك نتيجة عمل دائب متواصل من القوى الصليبية التي اصطنعت الماسونية حيناً واللادينية (العلمانية) حيناً آخر , وأسفرت بوجهها أحياناً ؛ لتصرع قوى الإسـلام المادية بتقسيمه ودحره , وقواه المعنوية ببث السموم في عقائده وثوابته الفكرية , بل وجندت بعض أبنائه ممن انخدعوا ببريق الحضارة الغربية كرفاعة رافع الطهطاوي وخير الدين التونسي .ولم يستسلم العالم الإسـلامي لتلك الكارثة مرة واحدة , بل إن الأقرب أن يقال إنها أصابت منه عصباً أساسياً , ولكن بقيت - مع ذلك - شعلة الحياة متقدة فيه , فقد قام الكثير من أبنائه بالبكاء والنحيب على ما كان , وتمثَّل ذلك في شعر شعرائهم وأدب أدبائهم قُبيل العشرينات وبعدها , يقول أحمد شوقي في مناسبة تنحية السلطان عبد الحميد
سل يلدزاً ذات القصور هل جاءها نبأُ البـدور
لو تستطيـع إجابــة لـ بكتك بالدمـع الغزيـــــر
ويقول حافظ - في نفس المناسبة - :
لا رعى الله عهدها من جـدود كيف أمسيت يا ابن عبد المجيد
كنت أبكي بالأمس منك فمـا لي بِتُّ أبـكي عليك عبد الحميد
كان الشعور إذاً يتأجج بحب الإسلام , واحترام الخلافة , وتقدير أهمية دور اجتماع المسلمين , وعلى الرغم من اختلاط ذلك بمفهوم الوطنية عند العديد من الكُتاب والمفكرين - كما يذكر الدكتور محمد محمد حسين (رحمة الله عليه) فقد "كانت العاطفة الدينية إذن غالبة مسيطرة , وكان الدين والوطنية توأمان" (الاتجاهات الوطنية 1/61) وكان إلى جانب هذا التيار وجهتان لا يتعلقان بموضوعنا كبير تعلُّق , وإنما أردنا أن نذكرهما لتتم صورة ما تفاعل في بلادنا في تلك الآونة ؛ لينتج ما نعيشه اليوم من أحداث , هذان الاتجاهان هما : الاتجاه الوطني أو القومي , الذي يدعو إلى الاجتماع على رابطة الوطن أو العرق دون غيرهما , كما دعا إليه أحمد لطفي السيد الذي أطلقوا عليه : "أستاذ الجيل " ! وثانيهما: الاتجاه اللاديني الذي نما وترعرع تحت ظل الاتجاه السابق بما دعا إليه من حرية على النظام الغربي الديموقراطي, والتي إنما عني بها "حرية الهجوم على الدين ونشر الإلحاد"! , وتولى كِبر هذا الاتجاه سلامة موسى بشكل سافر، وطه حسين بشكل مستتر، وغيرهما ممن نحا مَنْحاهما فيما بعد .أمر آخر لا يصح إغفاله في هذا المقام، وهو محاولات عدد من حكام المسلمين وملوكهم أن يدعو إلى إعادة الخلافة وتوليها بأنفسهم، كما فعل الملك فؤاد ملك مصر والسودان بشكل غير مباشر، وما دعا إليه البعض من ترشيح الملك الحسين بن علي , وما كان من أمر مؤتمر الخلافة من قبل مصر والأزهر بشكل خاص، مما جعل أمر سقوط الخلافة يبدو في أذهان الكثيرين وكأنه أمر عارض لن يفتأ أن ينتهي , وأن تعود الأمور إلى نصابها مرة أخرى.كذلك فإن هناك عاملاً آخر لعب دوراً مهماً في تشكيل هذه المرحلة، وهو وجود الاحتلال الأجنبي في بلاد المسلمين بخيله ورَجله، ومحاولاته الدائمة لخلق الشقاق بينهم , وتشتيت شملهم، إما بشكل مباشر أو بتجنيد مَن خلع الربقة منهم ؛ ليكون داعية لهم على أبواب جهنم , يفتن المسلمين , ويغمِّي عليهم أمر دينهم , مما أضاف غمة إلى غمة، واضطراباً إلى اضطراب .
في هذا الخضم - ووسط هذه المعمعة - ظهر الداعية الإمام الشهيد حسـن البنا (رحمة الله عليه) ؛ ليؤسس أول مُّع إسـلاميّ يقصد إلى تكوين جماعة إسـلامية تهدف إلى إحياء الروح الإسـلامية وإعادة توحيد صفوف المسلمين بعد أن رأى الهجمة الغربية العنيفة المتمثلة في دعوة أمثال قاسم أمين وأحمد لطفي السيد وغيرهما من دعاة التغريب والتفرنج .
كانت دعوة البنا سهلة ومباشرة , لا خفاء فيها ولا سرية ؛ إذ لم يكن هناك ما يدعو إلى خفاء أو سرية آنذاك . وكان البنا يرى - كما أمْلت ظروف المرحلة - أنّ البلاد الإسـلامية تمر بأزمة حادة في تطبيق الإسـلام على مستوى الفرد، بما هو مشاهَد من تدهور الخلق العام , والبُعد عن شفافية الإسلام وروحه، وعلى مستوى الدولة بما هو قائم من فساد إداريّ وانتشار الرشوة والمحسوبية , والظلم والفساد في تصرفات الحكام وحاشيتهم وأتباعهم . ولكن توصيفه للواقع لم يتعدَّ إلى أبعد من هذا التوصيف : أمة متدهورة في الخلق , وحاكم ظالم يعين على التدهور، قريباً مما كانت عليه الحال في عهد بعض حكام الأمويين والعباسيين من عربدة الفرد وظلم الحاكم .
كان البنا يرى الداء بهذا المنظار ؛ إذ لم يكن - في رأينا - ثَم منظار آخر يوضح الصورة التي يقود إليها الوضع القائم في ضوء ما ذكرنا من معطيات الواقع . فعلي مستوى الفرد , يرى البنا أن المسلمين ينقسمون إلى أربعة أصناف : "مسلم بالبِطاقة , ومسلم بالعقيدة لا يهتم بالناس , ومسلم يأتي بإسلام العقيدة مع بعض العمل الصال، ثم المسلم "الكامل" الذي يرى الإسلام ديناً ودنيـا , علماً وعملاً" (حديث الثلاثاء , ص498) . ويرى أن مهمة الإخوان هي "أولاً : إقامة أمة صالحة، وثانياً : إقامة حكومة صالحة" (حديث الثلاثاء , ص357) .والبنا يحشد الإخوان للبيعة للملك فاروق، ويطلب إليه أن يصلح من شأن رعيّته، وأن يقوِّم من اعوجاج حكومته , ووالده الملك فؤاد كان مرشحاً للخلافة , وداعياً إليها ؛ فابنه حريّ - إذن - أن يُخاطَبَ بالإصلاح , لعلّـه يذَّكر أو تنفعه الذكرى ! وكم من ملك ظالم من ملوك المسلمين سمع لعظة الدعاة والعلماء، وانتهى عن ظلمه جزئياً أو كلياً، والخلافة عائدة عن قريب، والاحتلال (الاستعمار) هو المانع الرئيسي في سبيل عدم إقامتها، والحكام مغلوبون على أمرهم ؛ إذ المحتل قابع في ديارهم , فهو حكم اضطرارٍ حقيقي لا متوهَّم , وإرساء أحكام الشريعة قاب قوسين، حين يندحر المحتل (المستعمِر )، وحين يفيق الحاكم، والدور الآن على الدعاة من الإخوان أن يصلحوا أمرهم وأمر الناس، وأن يبنوا النفوس أولاً والحكام تابعون - بل خاضعون - لذلك الإصلاح ولا محالة .
ولم يكن أمر التحاكم إلى الشريعة مطروحاً، ذلك الطرح الذي فرض نفسه بحكم الواقع - قبل أن يفرضها بحكم الفقه - بُعَيد حصول بلاد المسلمين على الاستقلال، وبعد أن انجلت الصورة، وانقشع غمام الاحتلال، وعادت أمور المسلمين إلى أيدي أبناء جلدتهم، ومَن يتحدثون بألسنتهم، وزالت شبهة الاضطرار، وأصبح الحاكم هو الذي يصر على العمل بالقوانين الوضعية وعلى إهمال الشريعة، بل ويعتقل مَن يدعو إلى غير هذا من تحكيم الشريعة والعودة إلى الأصول، واختفى حديث الخلافة، وأصبح لفظ "الخليفة" مما يتندَّر به الناس في جلساتهم كعُنوان على التخلف، والبُعد عن الحضارة الغربية ورموزها.
لم يكن البنا - إذن - في وضع يسمح له بالحديث عمّا يجري على ألسنة الجماعات الإسـلامية "المعاصرة" من "تكفير" و"توقُّف " و"حكم على المعين"، وغير ذلك من القضايا التي أنشأتها معطيات جديدة كل الجدة، سواء أصحت، أم جانبت الصواب، وسواء أوافقت السُّنة، أم خالفتها. فالأمر - في عهد البنا ومنظوره - مختلف كل الاختلاف عما آل إليه أمر المسلمين بعده. ويظلم البنا، ويظلم نفسه، مَن يحاكم أقوال الرجل وتصوراته التي أنشأها واقع الثلاثينات في ضوء معطيات واقع جديد , بدأت تتحدد أبعاده في أوائل الخمسينات، وأُرسيت قواعده، ووَضُحت أبعاده في السبعينات وما بعدها، إلا لمَن فقد الرَّشَد أو السمع والبصر كليهما! وما نراه في هذا الأمر أن المرحلة قد هيأت للبنا - إلى حد ما - أن ينتهج مذهباً " تجميعيّـاً" متهاوناً ، يُبنَى على تجميع فئات الشعب , وترقية خُلقه والتزامه بمفاهيم الإسلام (وإن شابتها الصوفية التي ظهر أثرها جلياً على قيادات الجماعة)، وإعداده لعهد الخلافة المرتقب آنذاك، بدلاً من أن ينتهج منهجاً " انتقائيّـاً"، يقرّب به مَن قال بقوله ، وانتهج نهجـه ؛ ليكوّن مجتمع الصفوة الذي يمكن أن يكون قريباً من ذلك الجيل الفريد الذي أنشأه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذي يمكن به أن تنصلح الأمة اليوم كما انصَلح بمثله أولها . وهذا التصور هو الذي ذهب إليه الشهيد سيد قطب - بعد استشهاد البنا - بسنوات قليلة. وهو منهج يخالف كل المخالفة ما كان عليه البنا جملةً وتفصيلاً . ثم كان ما كان من أحداث قيام انقلاب يوليو عام 1952 في مصر، والضغط على الحركة، فتبدَّلت الأحوال، وتغيَّرت معالم المرحلة تغيّراً تاماً ؛ إذ استقل العسكريون بالحكم، وأُعلنت الأحكام العرفية، واستُبدل الحكم العسكري بالحكم المدنيّ المُمثَّل في ممثّلي الشعب المنتخبين بطريق حرّ، وبدأت مرحلة الصدام بين الدولة وبين مَن نحا منحًى إسلامياً بشكل عام، وبين مَن انتسب للإخوان المسلمين بشكل خاص .أدّى هذا التغيّر إلى ظهور معطيات جديدة على الساحة استتبعت أن يجدد الإسلاميين اجتهاداتهم في رؤية الواقع، وتنزيل الأحكام المناسبة على مناطـاتها الصحيحة، فكان منها ما وافق روح المرحلة، ولاءمت اجتهاداته مناط الواقع، وكان منها اجتهادات لم توفّق في توصيف الواقع بشكل صحيح، فأخطأت في مناطات فتاواها، ومنها ما خرج عن نطاق السنّة، وانحرف في فهم الأحكام الشرعيّة، ومن ثم في استنباط الفتاوى الشرعية الصحيحة التي تُبنى عليها الحركة .
تحصَّل ممّـا تقدم أنّ الصّدْعَ الفكريَّ نشأ في مطلع الخمسينات ؛ إذ إن الصورة بدأت تتبلور، وتتضح معالمها، من خروج سافر على شرع الله - سبحانه - وبدأ الصراع بين المعسكرين - معسكر الإسـلاميين ومعسكر اللادينيين - يتخذ شكلاً علنيّاً سافراً، وبدأت معه مرحلة التخبّط في توصيف الواقع القائم من ناحية، وفي كيفية مواجهته والتعامل معه من ناحية أخرى . واختلفت منظورات التأويل، فاختلفت معها أُطروحات الحلول . ولم يكن الخلاف سهلاً أو سطحيّاً، بل ضرب بجذوره إلى الأعماق في الكثير من الحالات، مما أدّى إلى ظهور اتجاهات جديدة، رفضت ما عَرَضه "الإخوان المسلمون " في مرحلة "ما بعد البنّا"، نتيجة الخلاف على توصيف الواقع، ومن ثمّ ، على وصف طرق التعامل معه. واتسع الخلاف ليشمل المنظومة الفكرية الإسـلامية من طرفها إلى طرفها , من إفراط في الغلو والخروج، إلى تفريط في الالتزام بأوَّليات الشريعة. وحتى ندرك ما واجهته التيارات المختلفة في ذلك الحين، يجب أن نتعرّض للأطروحة التي عرضها "الإخوان المسلمون" عقب استشهاد البنـّا - رحمة الله عليه - ما وافق منها الشرع، ولاءم الواقع، وما تجاوز فيها الحق، وجانب النَّصَفـَة.
ذكرنا فيما سبق أنّ الظروف المحيطة بدعوة البنّـا أملت عليه أمرين رئيسين في دعوته، المنهج التجميعيّ، ومهادنة الحكومات "الإسـلامية"، وذكرنا أنه مُبَـرَرٌ بما أحاط بالدعوة في مبدئها من ظروف. ولكن تلك الظروف قد تبدّلت ؛ فقد خرج المحتل من البلاد، وتولّـى الحكم مَن هُـم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، وساعدت حركة "الإخوان المسلمون "، حكومة انقلاب يوليو عام 1952 وضُبّـاطه على إنجاز المهمة، وهي أمور محلّها التاريخ، وإنّما نحن نثبتها كمسلَّمة؛ لتفي بغرض هذا البحث . وسرعان ما أسفرت اللادينية عن وجهها، وتبدَل الصديق عدواً، وأُودِع الإخوان السجون، بعدما وضعوا ثقتهم في غير محل ثقة. وكان الهضيبي وقتها هو المرشد العام للحركة . وواكب ذلك بزوغ نجم "سـيد قطب" ككاتب ومفكّر وداعية إسـلامي , له منهج متفرّد، بعد أن عُرف أديباً وناقداً في أوساط الأدب لسنين عديدة، مما سيكون له أكبر الأثر في مسيرة الدعوة الإسلامية في هذا العصر .
تابع الإخوان المسلمون التعرض للنكبات، التي تمثّلت في حركات اعتقال واسعة المدى لزعمائهم وأتباعهم على حدّ سواء . ولكن الحركة لم يتهيّأ لها قيادة ملهمة كقيادة البنّـا، تتمكن من إعادة حساباتها، ودراسة واقع المسلمين بعد تغيّر الظروف والمعطيات؛ لتخرج بتوصيف صحيح للواقع، ومن ثم بتنظير ملائم وتخطيط عمليّ لمواجهة ذلك الواقع. فتابع الإخوان المسيرة بنفس التنظير الذي خطّه البنّـا لها منذ منتصف الثلاثينات. وكان ذلك - فيما نرى - نتيجة أمرين، أولهما ما ذكرنا من عدم توفّر مَن يقدر على الرؤية الصحيحة لمسار الأحداث بين رُتب الجماعة العليا وقياداتها، والآخر - وهو لا يقل أهمية عن العامـل الأول - أن البنّـا (رحمة الله عليه) كان له من عمق التأثير وقوته على أتباع الحركة ما أعجزهم عن الخروج عن فلك التنظير الذي قرّره للحركة قبل عقود من الزمان، على الرغم من التغيّر الكلّي في الظروف المحيطة . ونحن - فيما نرى كذلك - نُرجع بعض اللوم في هذا الموقف إلى البنّـا نفسه (رحمة الله عليه) ؛ إذ إنه لم يُنَشِّئ من خلَفه رجالاً يعتمدون على الاستقلال، وينفرون من التقليد، وهو الخطأ الذي لا يزال يقع فيه العديد من قادة الحركات الإسلامية في زماننا هذا (والسلفيون أوضح مثال).
اسـتمر الإخوان - إذاً - في خط البنّـا , وهو خط التهادن مع النظم القائمة، وبُلورت أفكار الإخوان في كتاب "دعاة لا قضاة " المنسوب إلى الهضيبيّ - رحمه الله - والكتاب يعكس فكراً أراد أن يوائم بين الموقف العمليّ الذي انتهجه البنّـا وبين قضايا العقيدة , فكان أن نحا منحًى إرجـائياً ؛ فالإيمان هو التصديق , والعمل إنما يكون في مجال الطاعات وزيادة القربات , وليس من العمل ما يخدش حِمى التوحيد , والمسلم لا يرتدّ بقول أو عملٍ أو اعتقاد إلاّ أن يصرّح بلفظ الردّة، طالما هو يتلفظ بالشهادتين، ومن ثم فالحكم بغير أنزل الله إنما هو من المعاصي، والحاكم بغير ما أنزل الله مسلم، يُلتمس له العذر لعدم القدرة على تطبيق الشريعة؛ نظراً للضغوط العالمية عليه، كما صرّح بذلك العديد من قادة الحركة، الإخوان يعملون "من داخل النظام وفي إطاره الموضوع"! ؛ لنشر الإسـلام، كما أنّهم يرون الاشتراك في التنظيمات السياسية الوضعيّة لمحاولة التغيير من الداخل .
ولسنا هنا بصدد مناقشة صحة هذه الآراء أو تفنيدها , فليس هذا المقال بحثاً في العقيدة، ولكننا نود أن نؤكد أنّ هذا المنحى من الفكر قد نشأ تجاوبـاً مع منهج قائم في الحركة ؛ فالحركة اختارت , أولاً أن تتخـذ سبيل المهادنـة مع النظم التي تحكم بغير ما أنزل الله , ثم ذهب مُنظِّروها - ثانياً - يقيمون الحجج على صحة هذا المذهب من أبحاث العقائد. فالحركة - إذن - في طور ما بعد البنا نشأت سياسية ، ثم كوّنت القاعدة الفكريّة بعد ذلك ، وبناءاً عليه . وقد كتبت مقالاً - منذ أكثر من خمسة عشر عاماً - في العدد الأول من مجلة "البيان" اللندنية، عام 1986، بعنوان "الإرجاء والمرجئة"، تتبعت فيه الفكر الإرجـائيّ الحديث، ذكرت فيه أنّـني "ما فعلت ذلك إلا بعد أن قدّرت مدى الحاجة إلى إظهار عوار تلك الفئة التي ما زالت جرثومتها تسري خافية تارة، وظاهرة تارات بين صفوف المسلمين، بل - وعجباً! - بين صفوف الإسلاميين منهم , فتصيب ذلك الكيان الإسـلامي بالضعـف والوهن وفقدان القدرة على تمييز الخبيث من الطيب , ومعرفة المفسد من المصلح , وبالتالي أثرها البالغ السوء في الواقع الإسـلامي أخلاقياً وسياسيا ً ".
لم يكن - إذن - هذا الموقف العقَديّ هو الخطأ الوحيد الذي انزلقت فيه حركة " الإخوان المسلمون"، حين تبنّت اتجاهـاً ارجائيّاً ، بل إن المنزلقات الحركية التي واكبت ذلك المنهاج الفكريّ كانت من أكثر العوامل التي ساعدت على بقاء الحركة محدودة الأثر بعد أكثر من ستين عاماً على نشأتها ؛ فهي لم تفرز دولة، ولم تنشئ حزباً سياسياً مقبولاً لدى حكومة من الحكومات التي تعمل في إطارها ومن خلال نظامها. وقد كان من جرّاء تبني الإخوان لهذا الموقف العقدي أن اصطبغت مواقفهم "بالاعتدال" كما يسميه أتباعهم , و"بالتجاوز والتفريط " كما يراه مَن خالفهم في منحاهم ؛ فالإصلاح يأتي من "داخل النظام" لا بالخروج عليه كما عبر عن ذلك مرشدهم السابق، عمر التلمسانيّ - رحمة الله عليه - وهو ما اتبعه الإخوان في أنحاء العالم العربيّ كافة محاولين دون جدوى - لسنين تربو على الأربعين سنة (أصبحت خمسين سنة الآن) - أن يكون لهم أثر ولو أقلّه في الحياة السياسية في بلادهم، فدخلوا انتخابات، وحازوا على مقاعد في مجالس نيابية، ثم ألغيت تلك المجالس بخطة قلم، وأُهين ممثلوهم في مواقف عديدة، واستُغل وجودهم في مقاعد المجالس النيابية لإضفاء الشرعية الإسلامية على هذه التنظيمات (كتب هذا البحث قبل انتخابات 2005 التي حازوا فيها على 88 مقعدا لم يجلب على مصر أي خير في أي اتجاه)، واضطروا إلى عقد تحالفات عليها العديد من التساؤلات والمحاذير من الناحية الشرعية . ولسنا هنا بصدد تصحيح هذا الاتجاه أو تخطئته , وإنما نحن واصفون للأحداث التي أدت إلى بزوغ الجماعات الإسلامية من خارج إطار الإخوان .إلا أن الإخوان قد عانوا كذلك - ومن جرّاء تبني ذلك الاتجاه العقديّ مقروناً بالموقف العملي "التجميعيّ" الذي تكلمنا عليه آنفاً - من عدم القدرة على تكوين قاعدة فكرية قوية ، تحمل الدعوة بشكل صحيح , ويتولاها منهم مَن تحقق بالعلم ؛ إذ أدى اتساع القاعدة الجماهيرية التي داروا في فلكها إلى أن أمَّروا من الشباب مَن لم يتحلَّ بعلم أو خلق ، وصار أمر الدعوة يوكل إلى كل مَن رضي "بالبنّـا" إماماً ، والأصول الخمسة كتاباً ، وإن لم يقرأه, بَلَهْ أن يقرأ غيره ، فكان أن انحطَّ مستوى الدعاة، وانحط معه مستوى المدعوّين. وضاعت معالم السُّنة في هذا الخضم ضياعاً شديداً، وعُمّيَ وجه الحق على الناس في العديد من الأمور.
إذن ؛ فخط الإخوان كان ولا يزال خط التجميع العام الذي لا يفرّق كثيراً بين سنة قائمة أو بدعة شائعة ! والذي لا يجعل لمذهب أهل السنة والجماعة فضلاً على غيره من المذاهب البدعية طالما أن الكل يشهد الشهادتين لفظاً، وإن خالفهما عملاً، والعامة بخير طالما انتسبوا للإخوان , والتشدد لا محل له , والهدى الظاهر، كاللحية والاختلاط واستماع الأغاني والموسيقى - ليست من أصول الدين، بل هي مباحات لا غضاضة فيه. ويشهد الله - سبحانه - أنها من دين الله الواجب. ثم الواجب أن يهتم الدعاة بجذب العوام إلى الانتماء للإخوان، على ما هم فيه من مخالفات شرعية. فالحركة - إذن - بين الناس هدف في حد ذاته ،واتباع السنة ليس غرضاً أساساً في تنظيم الإخوان، وإن ذكروا ذلك لفظاً. وهذا المنحى يتمشى مع ما سبق أن قررناه عن طبيعة الحركة من كونها حركـة سياسية في طبيعتها قبل أن تكون حركة دينية متكاملة، تشمل الحياة بأبعادها السياسية والعبادية جميعاً في منظومة واحدة كما أرادها الله سبحانه .
وأقص قصة وقعت لي قبل عشرين عاماً أو يزيد (هي الآن تزيد على ثلاثين عاماً)، فقد قدّر الله - سبحانه - أن يكون هناك لقاء مع أحد كبار دعاة الإخوان في بيته بمصر للحديث - بشكل عام - عن أوضاع المسلمين ، وما يعتور الساحة الإسلامية من أحداث ، "ولاحظت عند دخولي منزل الأخ أنه ملئ بالتماثيل، وصور الأحياء على الحوائط ، وبعد أن استقر بنا المقام ، وأزال التعارف حواجز الوحشة ، قلت له : أخي ، لعلك تعرف حرمة اقتناء التماثيل ، وصور الأحياء في المنزل ، فقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه تمثال أو صورة ، كما في أحاديث الترمذيّ وأبي داود وأحمد في المسند ، وقد أطنب علماء السنة المقال في هذا المقام ، فما بالك تفعل خلافه ، وأنت من كبار الدعاة المنظور إليهم من العامة ، أفلا نكون مثلاً لهم يُحتذَى في هذه السنة المهجورة؟! قال الأخ - وأحسبه صدَق في قوله - : أَوَ ذلك صحيح ثابتٌ؟! لم أكن أدري هذا الأمر من قبل ، وسأرفع ما تيسر من هذه الأشياء إن شاء الله .. ثم تطرق الأمر إلى الحديث عن بعض أصول الإيمان وأحكام الشرع ، ومنها أحكام ردّة المسلم بارتكاب قول أو فعل يُخرج من حظيرة الإسلام. وكان أن عبّر الأخ عن عظيم دهشته من أن المُسلم قد يقع في فعل من أفعال الكفر بأيّ صورة من الصور، فيكفر به، وكذلك عبّرت زوجه - التي كانت تشارك في الحديث من آن لآخر - عن دهشتها لإمكانية أن يخلع المسلم الربقة لأيّ قول أو فعل، طالما نطق بالشهادتين في يوم من أيام حياته، أو طالما وُلد لأبوين مسلمين. وبعد أن بيّنت لهما أن الأمر مخالف لذلك، وأنه مع شدة التحفّظ في الحكم على فرد من الأفراد بخلع الربقة والخروج من الإسلام، فإنه لا يجب أن يُعمَّم القول باستحالة أن يكفر المسلم ؛ فإن ذلك يناقض مفهوم قول الله تعالى "يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِۦ فَسَوْفَ يَأْتِى ٱللَّهُ بِقَوْمٍۢ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُۥٓ" المائدة 54 ، وقوله سبحانه " وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِۦ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌۭ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـٰلُهُمْ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلْاخِرَةِ " البقرة 214، واستحالة ذلك الاحتمال إبطال للآية، التي لا محلّ لإبطالها، وإنما الواجب أن يتثبَّت الناس فيما يرمون به مَن ظهر منه قول أو فعل ذكر فيه العلماء أنه مُخرج من الملّة، وألا يتعرض عوامّهم لإيقاع مثل ذلك الحكم ؛ إذ إن ذلك لا بد أن يكون ببرهان من الله ساطع،ومَن تعدى حدود ذلك فهو من الغلاة المُفْرِطِين، ولكن - وبنفس النسبة - فإن مَن جعل الشهادتين حِرزاً يستتر من ورائه العابثون بالشريعة، ويستخفّون عقول المسلمين لنشر لادينيتهم وإلحادهم - فهو من المرجئة المفَرّطين في دين الله" انتهت القصة .
والشواهد التي تدل عليها هذه القصة كثيرة : منها أن منهج الإخوان لا يُلقي كثير بالٍ لاتِّباع السنة، وإنما الدعوة والحركة هما هدفه الأساسيّ، وأن اهتمامهم بالعلم الشرعي لم يكن على المستوى الائق بنشر الشريعة بين العوام توطئة للرجوع إليهم كجهة فاصلة في كسب التأييد لتشكيل الحكومة المسلمة، وأن ادعاء الحذر في فهم الواقع والتمذهب بالإرجاء - وإن لم ينتحلوه بلسانهم - هو من جرّاء عدم القدرة على فهم الواقع، فهو مذهب السلامة المعتمد من الحكّام على مر الزمان .ولا يظنَّنَّ ظانّ أننا إذ ننقض هذا الموقف بالكلّية، فإننا - بالضرورة - ننصر القول بتكفير الناس، حاشا لله، فوالله إن ذلك ليس من عقيدة كاتب هذه السطور، ولا مما شهدت به أصول الشرع وفروعه، وإنما سيكون لنا كرّة على مذهب أولئك الذين يقعون على طرف النقيض من الإخوان، فيُكفّرون الناس بغرض التكفير، وعلى مذهب مَن ينتحلون الجهاد مبرراً لقتل الأبرياء دون مبرر، فنبيّن عوار مذاهبهم، وضحـالة علمهم، ولكننا أردنا أن نبين أن حركة الإخوان قد وقعت في تفريط عقديّ، وفوضى عملية من جرّاء جمود اجتهاداتها بعد مرحلة البنا خلال الخمسين عاماً السالفة .
أمر آخر اتسمت به حركة الإخوان - وكان من تداعيات ما اتصفت به الحركة من صفات مرَرنا بها في السطور السابقة - وهو اعتماد مذهب "الولاء قبل الكفاءة" . فإنه كان من جرّاء التوسع في قبول المنضمين إلى حركة " الإخوان" دون قيد أو شـرط أن احتاجت القيادات إلى توفير عدد أكـبر من الموجـهين للأعضاء الجدد. إلا أن ذلك كان مصحوباً بما هو أعمق أثراً في اعتماد هذا المبدأ، وهو نظرة الإخوان إلى عدم أهمية العلـم الشرعيّ لدى أفراد التنظيم عامة - كما ألمحنا آنفاً - وعدم قدرتهم على التمييز بين العضو العادي والعضو العامل والعضو المُوجّه . كذلك فإن التوجه السياسي للحركة أملَى أن يكون لها قاعدة عريضة من "المشجعين "، تعتمد عليهم في صراعها على السلطة من خلال مبدأ الأغلبية. والإخوان لا يعتمدون - في دوائرهم - مَن لا يبايع على العمل ؛ فالبيعة هي مفتاح الدخول إلى دائرة العمل في الجماعة بغضّ النظر عن القدرة العلمية . ولا شك أن اعتماد هذا المذهب يناقض المبادئ الإسـلامية بشكل عام، ويناقض مبادئ العمل الجماعيّ في صورته الاجتماعية العامة بشكل خاص؛ فالأصل أن يولَّى من المسلمين أفضل مَن يصلح للعمل من حيث العلم الشرعيّ والقدرة على أداء المُهمة الخاصة المنوطة به، و"ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم" كما في البخاريّ، كتاب الفرائض , ولكن لكي لا نظلم تنظيم الإخوان , فإن هذا المبدأ قد اعتمدته غالب الاتجاهات الإسلامية الأخرى , حتى مَن انتسب منها إلى أهل السنة والجماعة , وأعلن تبرُّؤَه من ذلك المبدأ قولاً . ويظهر أن ذلك إنما صَاحَبَ اعتماد السرية في العمل ؛ نظراً للواقع المحيط، فكان أن لجأت القيادات إلى استخدام مَن التزم البيعة حرصاً على سرية العمل . كذلك فإن ضعف القيادات وحب السيطرة والنفوذ قد ألجأ بعضها إلى تقريب مَن أعلن خضوعه لأشخاصهم , بغض النظر عن التزام الجماعة، فاتخذوهم معاونين ومساعدين، وجعلوهم مسؤولى كذا وكذا في التنظيم، وهو ما أدى إلى ضعف الأداء في كثير من الأحيان، وإلى توليد مشاعر القيادة والعلو في نفوس ممن لا يملك القدرة ولا الأدوات اللازمة للقيادة .حركة "الإخوان" إذن - كما يراها مَن لم يرتضِ خطهم السياسي والعقائديّ - هي حركة سياسية , اعتمدت خطّاً عقائدياً , اختلطت فيه شُبَه الإرجاء , وتُرَّهات الصوفية بعقائد السنة! وارتضت العمل من خلال النظم السياسية القائمة، والدخول في الانتخابات لمحاولة الوصول إلى الحكم، وقضية اعتماد العمل من خلال النظم القائمة - والدخول في الانتخابات - هي من أعقد القضايا التي نَعَت الاتجاهات الإسلامية الأخرى على الإخوان اعتمادها بحق أو بباطل , وهو ما لا محل للخوض في تفصيلاته، والفصل فيه في هذا المقام. يتضح مما سبق أن الأمر ليس أمر تجنٍّ أو تعصب ضد جماعة بذاتها، وإنما هي حركة التاريخ، فرضت نفسها على الحركة الإسلامية في قاعدتها العريضة الممثلة في الإخوان آنذاك، فاستُبدلت - جزئياً - تلك الحركة التي لم يواكب فكرها الحركي معطيات الواقع الحال، ولم يتطابق فكرها العقائدي ما كانت عليه عقيدة الإسلام في صفائها الأول دون شغب الإرجاء وتسيبه، بما ظهر من حركات جديدة، صحيحها وسقيمها، وكان أن تشكلت تلك الجماعات الإسلامية التي عاصرنا صعودها في السبعينيات، والتي وردت موارد فكرية وحركية ليست من موارد الإخوان في شئ .
ثم هناك كلمة أخيرة , أود أن أتجه بها إلى المتحاورين في هذا الأمر، أن اتقوا الله -سبحانه - واطلبوا الحق، وانشدوا النُصفة، ولا تجعلوا الانتماء لجماعة أو مذهب، أو التقدير لشخص من الأشخاص، مهما علا قدره، أو ما تلونت به التجربة الشخصية التي قد تُعجز المرء عن إدراك الصحة في قول المخالف، أقول : لا تدعوا هذه الأمور حائلاً بينكم وبين البحث عن الحق بلا هوى أو تعصب ؛ فإن أحدهما - وإن إنفرد - هو الحالقة التي تحلق الإنصاف , وتشوه الحقائق . والله - سبحانه - المستعان.
ثم ماذا عن اليوم؟
اليوم، وبعد عشرة سنواتٍ من تدوين هذه الرؤية، نرى الإخوان، كما هم، طُرقهم، تَصرّفاتهم، تسلّلاتهم السياسية، تَسيّباتهم العقدية، تخَاذلهم عن المواجهة، العَمل من داخل أي نظامٍ، ومحاولة التغلغل فيه من خلال ما يضعه النظام نفسه من قواعد، وهو دورانٌ مستحيل التحقق. فهل تغير شئ يا أولوا الألباب؟ وهل هناك داعٍ حقيقةً أن يضع المرء ثقته في هؤلاء، وأن يدعو إلى اتّبَاعهم؟