فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      خالد صلاح .. ودور العقل في الشريعة

      الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

      في مقال له، على صفحة اليوم السابع، تحدث خالد صلاح عن علاقة الشريعة بالعقل وعن ضرورة إعمال العقل فيما يتطلبه الدين

      والحق أن الرجل، هذه المرة، لم يتعد الحدود في المقال، كما يفعل عادة إبراهام عيسى، الشقيُّ ذو الحمّالات، بل تناول الموضوع بهدوءٍ وبلا عصبية مناوئة للشريعة، وإن كان أخطأ في بعض ما ذكر، وعتّم على الحقيقة في البعض الآخر.

      قال خالد " لم يكن النبى محمد (صلى الله عليه وسلم) يرسل صحابته الكرام إلى البلدان والأمصار إلا برسالة «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، وقتها لم يكن صحيح البخارى قد ظهر بعد، ولم تكن مجلدات «مسلم» و«الترمذى» و«ابن ماجه» قد عرفت طريقها إلى ماكينات الطباعة وأرفف المكتبات، ولم يكن أئمة المذاهب الأربعة قد بدأوا رحلتهم مع فهم هذا الدين وتفسير أحكامه، كان أبوحنيفة والشافعى ومالك وابن حنبل غيبا فى غيب، لا يعرف به صحابة النبى الذين انطلقوا فى المشرق والمغرب، يعلمون الناس هذا الدين، ويحملون رسالة السماء إلى العالمين. وبعد مئات الأعوام من هذا السلف الصالح والرعيل الأول للصحابة والتابعين جاء دور الأئمة والفقهاء الذين اجتهدوا ما استطاعوا ليجمعوا آثار هذه الحقبة الممتدة منذ بعثة النبى وحتى مائتى عام أخرى أو أكثر بعد الهجرة، جاء الفقهاء والمجتهدون ليعيدوا رواية النصوص، ويستبعدوا ما لم يصح من أحاديث النبى بإعمال العقل فى المتن والسند، ثم قام هذا الجيل التالى من العلماء بإعمال العقل مرة أخرى فى مضامين هذه النصوص وأهدافها فاستنبطوا لأبناء عصرهم فقهًا وأحكامًا تحددت بالسياق الزمنى والجغرافى لكل حكم وكل فقه.
      كان العقل سلاحًا فى ثبوت النص أو نفيه، وكان العقل سلاحًا فى استنباط الأحكام الشرعية والقواعد الفقهية، بل كان العقل هو الأساس فى علوم صارت جزءًا من هذا الدين مثل علم مصطلح الحديث، أو أصول الفقه، أو تفسير القرآن بالرجوع إلى النصوص التاريخية الموازية أو البحث فى أسباب النزول.
      العقل هو عنوان هذا الدين، والعقل هو عنوان هذه الشريعة، وكما أنعم الله على الأجيال التى تلت جيل الصحابة بعقول أعادت تفسير هذا الدين وفق الوضع الجغرافى والتاريخى، فإن الله لن يترك هذه الأمة دون جيل يعمل بالعقل، جيل يؤمن بأن الصحابة لم يتعبدوا إلى الله بتفسير ابن حجر العسقلانى، أو بفتاوى ابن تيمية، أو بالفقه المالكى والحنبلى، الإسلام أوسع وأشمل وأصلح لكل العصور، لأنه ببساطة دين يسمح للعقل بأن يكون بطلاً فى التشريع" http://www2.youm7.com/News.asp?NewsID=550996&SecID=12.

      وتعليقي على الكلام، يرتكز على شقين، شق التصحيح، وشق التوضيح.

      أما شق التصحيح، فهو أن دور الإئمة والفقهاء لم يأتِ بعد مئات الأعوام من السلف الصالح، بل إن بعضهم قد عاصر التابعين مثل أبي حنيفة الذى هو من صغار التابعين، ثم مالكاً الذي عاصر أبي حنيفة، والذى ولد بعد خمسين عاماً فقط من استشهاد عليّ رضى الله عنه، ثم الشافعيّ الذي عاصر مالكاً. فلا أدرى من أين جاء الكاتب بهذه المعلومة عن مئات الأعوام! كما أن البخاري ومسلم قد عاصرا الشافعي وأحمد، في المائة التالية لمالك وأبي حنيفة. وهذا  الذي ذكر إما جهل بالتاريخ، أو إغراضٌ في نقله. ولنلجأ إلى التفسير بالجهل، فهو أهون نتيجة.

      كذلك فإن المسلمين لم يتعبدوا الله بفتح البارى لإبن حجر (الذي اسماه تفسير بن حجر، وهو شرح للبخارى إذ ليس لإبن حجر تفسير، وهو دليل على جهل هؤلاء المطلق بالشريعة وعلومها، ثم يتحدثون عن العقل!!)، بل إن كثيراً من علمائهم قد خالفوا بن حجر وعدّلوا عليه، في نطاق التسليم بالأحاديث الصحيحة المقبولة تبعاً لقواعد علم مصطلح الحديث، كما يتّبع أهل كلّ صنعة معايير أئمة هذه الصنعة في مقاييسها ومعاييرها. أما عن الفقه، فقد مُلأت رفوف المكتبة الإسلامية بكتب فقه، فيها ما جرى على نظر الفقهاء الأربعة وفيها ما خالفهم.

      أما شق التوضيح، فهو أنّ تلك الكلمة التي أرسل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته ينشرونها في الأمصار، كانت هي المجلد الأكبر الذي يستوعب كافة ما استخرجته عقول البشر من بعد، في مجال العقيدة والشريعة. إذ حملت هذه الكلمة معنى واحداً، أنه لا مطاع إلا الله، لا العقل البشري ولا الحاكم الديكتاتوري ولا النفس ولا الهوى، بل الله سبحانه، هو الحقيق بالطاعة. ومظهر من مظاهر هذه الطاعة هو إقامة الشعائر، وجزء منها إقامة الشرائع، يستويان قدراً، فمن أطاع في الشعائر ورَغِب عن الشرائع فقد مرق من الدين، ومن أقام الشعائر ورفض الشرائع فقد مرق من الدين. وإن ظن خالد صلاح، ومن ساروا سيره أن تلك الكلمة التي هزت عروشٌ وقلبت موازين الدنيا، لم تكن تحمل هذا الكنز من المعاني، فقد حجّر واسعاً واتهم عقله وعقول الناس.

      خالد صلاح، يعتبر أنّ البخارى كان عدواً للسنة، ومناوئا للعقل! والحق أن البخارى قام بجمع المادة التي نشأ منها الفقه، وهي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي هو بيان للقرآن. لكن المشكلة تكمن في أنّ خالد صالح والعلمانيين عامة، يعتبرون الدين هو التلفظ بالشهادتين، ثم يقولون، عندنا عقولنا نفعل في دنيانا ما نشاء. ونحن نقول أنّ العقل ليس مجرداً ولم يكن مجردا في يوم من الأيام، بل هو مرتبط بالجمجمة التي تحتويه، بعدد سكان الأرض جميعاً. أما الوحى فواحدُ لا تعدد فيه، فيصح فيه معنى المرجعية.

      العقل، حين يستخدمه أهل السنة، فإنهم يستخدمونه في حدود الوحى، ولا يضربون في مناحي الحياة عابثين متنافرين، كلّ يدعى عقلاً. ولا أدرى أعقل خالد صالح أحق بالإتباع من عقل إبراهام عيسى؟ فهل يسلم خالد صالح أمره لإجتهاد إبراهام عيسى؟ أم البرادعي أحقّ بالإتباع من كِليْهما لأنه أرجَح من كليهما عقلاً؟ أم أن الطنطاوى أرجح الأربعة عقلاً فيجب السير خلف إجتهاده بالبقاء في الحكم؟ هذا النوع من الخلط والتدليس في استعمال لفظ العقل هو ما يموّه به هؤلاء العلمانيون على العوام، وكأنّ لهم"عقل" موحدٌ محفوظٌ في معملٍ ما، متصل بشبكة من الكابلات إلى جهازٍ الكترونيّ، يعمل بالنيابة عنهم، ويخرج لهم من الآراء الصائبة والفتاوى الصحيحة ما لا يقدر عليه علماء أهل السنة!

      ومن هنا يأتي خطله في أقوالٍ مثل أن العقل سلاحٌ في ثبوت النص ونفيه. فإن هناك قواعد ثابتة في نقد المتن، لكن ليس منها الهوى وعدم الإعجاب بالنص، أو حضاريته بالنسبة للناظر كما يريد أمثال خالد صالح، وإنما تتعلق بالمنهج النبوى ومسايرة الحديث لهذا النهج، معنى وبياناً، ومدى تعارضه مع غيره مما هو أثبت سنداً، إن تعذر الجمع. وقد فرع العلماء على مرّ أربعة عشر قرناً من هذا الأمر، إلا ما كان من حديث هنا أو آخر هناك. هذا من جهة النص، أما من جهة الفتوى المبنية على النصّ، وتحديد مناط الواقع الذي ينطبق عليه نصّ بعينه، فهو ما تتصارع فيه الأنظار ويعمل فيه العقل السنيّ، بمعنى إنزال نص على الواقع، أو بالأحرى إدخاله تحت نص آخر، أو قاعدة أخرى، تتكون من مجموعة نصوص متآلفة متعاضدة على معنى واحد، كما هو معلوم في الأصول.

      ولعل كثرة ذكر كَلمة العقل في حديث العلمانيين يجعله موهمٌ لكثير من العوام، لكن أنصح هؤلاء بمطالعة بعض علوم الشريعة حتى لا يقعوا في تلك الأخطاء الفادحة والتي تجعلهم "صفراً على الشمال" بين العامة، بله عند الله سبحانه.