فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      حوار موقع لواء الشريعة مع الدكتور طارق عبد الحليم: الدعوة فنّ يجب أن يتأهل له من يريد ممارسته

      أجرى الحوار: أسامة الهتيمي

      على مدار ما يقرب من أربعين عامًا، ما زال الدكتور طارق عبد الحليم يمارس العمل الدعوي إلى الله عز وجل، بعد أن حسم الصراع داخل نفسه في أعقاب إعدام الشهيد سيد قطب في ستينيات القرن الماضي وخلال الحقبة الناصرية من التاريخ المصري؛ إذ انحاز وقتها إلى هذه الدعوة. وبدأت رحلة الشيخ الدعوية في منتصف الستينيات بنسخ كتب الأستاذ قطب باليد وتوزيعها على طلاب الجامعة، ثم تدرجت الفكرة بعدها، وكما امتدت في الزمان فقد امتدت في المكان بعد أن انتقلت إلى الكثير من الدول العربية والأوروبية، وأخيرًا إلى كندا في أمريكا الشمالية.

      وقد كانت تجربة وخبرة د. طارق عبد الحليم الدعوية كفيلة بأن تدفعنا إلى محاولة التعرف من خلاله على أهم المعوقات التي تواجهها الدعوة الإسلامية في الوقت الراهن، فضلاً عما يمكن أن يقدمه فضيلته من نصائح وإرشادات للدعاة الذين ربما لم تثقلهم التجربة بعد.

      * كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر سببًا مباشرًا، أو ربما مبررًا قويًا للولايات المتحدة؛ لأن تشن حربًا شاملة على الإسلام والمسلمين. ما هي أهم الآثار السلبية التي واجهتها مسيرة الدعوة الإسلامية جراء هذه الأحداث، خاصة وأنكم تقيمون في كندا؟!

      ** لا شك أن أحداث 11 سبتمبر كانت سببًا مباشرًا لما تتعرض له أمتنا الإسلامية من عدوان سافر مفضوح لا يبقي ولا يذر، ولكنها كانت سببًا لهذا ولم تكن علّة له، وأرجو أن يتفهم شبابنا هذه النقطة، فالسبب كما هو معروف في علم الأصول ما يقع عنده الأمر لا ما يكون علة له، ومما لا شك فيه أنّ الصهاينة والصليبيين كانوا يخططون لهذا العدوان الموسّع على الإسلام والمسلمين بعد أن كانت اعتداءاتهم متفرقة محدودة زمانًا ومكانًا. وقد عبرت عن رأيي في أحداث سبتمبر ومن هم من ورائها في مقال طويل منشور. ولا شك أن هذه الأحداث قد أثرت سلبيًا في مسيرة الدعوة؛ إذ إنها أعطت المبرر للعدو الداخلي والخارجي أن يهاجم الدعوة ويشرد أفرادها من ناحية، وأن يصرف أنظار الدعاة إلى ردّ الهجوم، سواء بالكلمة أو بالمشاركة الفعلية في ردّ العدوان بدلاً من صرف الجهد في تربية الجيل وتهيئة المناخ الصالح لممارسة الحياة الإسلامية مرة أخرى في بلادنا.

      كما أثرت هذه الأحداث بطريق خاص على المقيمين في أوروبا وأمريكا الشمالية، فقد ظهرت موجات عداء خاصة من الحكومات الموالية لبوش وأعوانه، ولفقت تهم وألقي أبرياء في السجون, ولا أتحدث عن جوانتانامو, بل عن كثيرين غيرهم لا يعرفهم العامة كضحايا قضية الإرهاب الباطلة في كندا والتي لفقتها المخابرات الكندية لعدد من الشباب المسلم، لا يزال يرزح أغلبهم تحت أغلال القيود في السجون. كلّ هذا ولا شكّ يؤثر سلبًا في جهد الدعوة وتغيير مسارها والانحراف عن أهدافها.

      * أثارت ظاهرة ما يسمى بالدعاة الجدد الكثير من الأغاليط حول الدعوة الإسلامية، حيث اعتبرها بعض المتربصين وسيلة جديدة للمتاجرة والتكسب.. كيف تقيمون هذه الظاهرة؟!

      ** والله لا أدري ما المقصود بتسمية هؤلاء بالدعاة الجدد، فإن كان المقصود بهم هؤلاء المُتَسورين على الدعوة بلا علم ولا هدى ولا كتاب منير، فلا شكّ أنّ هؤلاء خطر ماحق يحوّر الإسلام ويقدم للشباب نسخة محوّرة محرّفة منه، يريد أصحابها أن يصرف أنظار الشباب عن الإسلام المتكامل، فتجد الجهاد قد حُرّف معناه كما حرّفته الصوفية ليكون جهاد النفس، وأصبح الإسلام مجرد نظام أخلاقيّ لا غير، العقيدة فيه خادمة للخلق بزعمهم، فمن تحقق فيه الخلق "الطيب" كان من المارّين على الصراط بل ومن الناجين في الآخرة بغض النظر عن العقيدة، انحراف أيّ انحراف وتحريف أيّ تحريف، وقد انطلى هذا على الكثير من الشباب الذي لم يجد أمامه بابًا مفتوحًا إلا الباب الذي سمحت به السلطات أن ينفتح لمّا علموا بأنه يعمل لصالح باطلهم لا ضدهم، وقد أرسل إليَّ شاب يعلّق على مقالي عن عمرو خالد قال: وأين أنتم يا أصحاب العلم، لماذا لا تنشطون كما نشط عمرو خالد فنستمع إليكم؟! ولم يعلم المسكين ما مرّ به كثير من الدعاة ومنهم شخصي الضعيف من محن متكررة ومواقف من السلطات لا تزال من ورائي إلى الآن، لهذا لم نكن على المسرح كما كان هؤلاء الجدد على المسرح.

      ونتساءل: لماذا نشط هؤلاء بعد أحداث 11 سبتمبر؟! وما نظن إلا أنها حصان طروادة للدعوة الإسلامية؛ إذ يتسرب إلى عقول الشباب من يظنونه على علم وهدى, فيزرع فيها إسلامًا منقوصًا محورًا يحتاج إلى جهد فذ لينزع ما ألقوه فيه، وزرع الفهم الصحيح للإسلام. ولا شك أنها أصبحت وسيلة ساقطة للكسب باسم الدين، وقد سمعت أن منهم من وصل دخله إلى ملايين الدولارات سنويًا، وأتساءل: كم كان دخل ابن تيمية من الدعوة؟! وكم كان دخل ابن الجوزي أو ابن عبد السلام؟!! هذا تخريب للعقول والضمائر، وكأن الدنيا حطّت على هؤلاء، لمّا فشلوا أن يحصّلوا الرزق من أوجهه الصحيحة، فاستغلوا الدين وبئس ما فعلوا.

      ثم أود أن أضيف إلى هذه الطائفة من عُرفوا "بالمفكرين الإسلاميين", ووالله الذي لا إله إلا هو لا هم بمفكرين ولا إسلاميين. وهم أولئك الذين يقدمون العقل على النقل ويحيون مذاهب بدعة الاعتزال, ويقدمون بين يدي الله ورسوله، ثم يوصفون بأنهم "مفكرون" وأولى أن يكونوا "مفككين" يعملون على تفكيك الهوية الإسلامية.

      * يرى الكثيرون أن الدعوة الإسلامية يجب أن لا تكون مقصورة على أناس بعينهم، وأن مجال الدعوة مفتوح للجميع.. ما مدى صحة هذا، وما هي أهم المعايير التي يجب أن تتوفر في الدعاة؟!

      ** قولة حقّ أريد بها باطل، الأمر يا أخي ليس أن البعض يرى أن الدعوة لا يجب أن تقتصر على أناس بعينهم، ولكن الأمر أمر تحصيل وتأهيل. أمر علم ودراية لا هوى وغواية. الدعوة فنّ من فنون العلم الشرعيّ يجب أن يتأهل له من يريد ممارسته، كما يتأهل الطبيب الممارس والمهندس والصيدليّ، هل يرضى هؤلاء أن يعرض ابنه على مدّع للطب لم ينهِ تعليمه بل اعتمد على قراءة بعض مراجعات عن الطب في صفحة ""خمسة لصحتك"؟ هذا هراء وبطلان، صحيح أن مجال الدعوة مفتوح للجميع، ولكنهم "جميع" من الجميع، أي هو عام أريد به الخصوص كما في الأصول، "جميعٌ" تأهل بالعلم الصحيح من صلب العلم، وقد قسّم الشاطبيّ العلوم التي يطلبها طالب العلم ثلاثة، أصول العلم, ومُلَح العلم، ثم ما هو ليس من أصوله ولا من ملحه، فما هو من أصول العلم كالعلم بالقرآن (التفسير سواء بالمأثور أو تفسير القرآن كما في أضواء البيان للعلامة الشنقيطيّ، وأسباب النزول والناسخ والمنسوخ وغيرها)، أو علوم الحديث ومصطلحه وأصول الفقه والشريعة ثم اللغة، وهذه العلوم هي التي يجب أن يحصلها طالب العلم، ومُلح العلم مثل تتبع عالي السند في الحديث أو الإغراب فيه، أما عما ليس من ملحه ولا صلبه فهو من مثل ما يتحدث به القصاصون من قرّاء "عيون الأخبار" أو "الأغاني" أو "عرائس المجالس للثعالبيّ".

      أما أن يتهجم على الدعوة متهجّم لم يأت من صلب العلوم ولا حتى من ملحها، فيظهر على الناس بوجه الداعية العليم ويتدثر بثوبيّ الزور كما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يوجه الناس إلى الإسلام الأمريكيّ الصهيونيّ بخرافات التقارب بين الأديان، وأن أصحاب "الأديان" كلهم ناجون! فهو ما لا يصح السكوت عنه بحال، من هنا يجب أنّ يحوز الداعية على ما هو من أساسيات صلب العلم حتى يدعو إلى الله على بينة، وقد قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108], فالبصيرة بَصَرٌَ بالحق فيعرفه وبَصَرٌ بالباطل فيجتنبه، ولا سبيل إليها إلا بالعلم، هذا من ناحية العلم، ومن ناحية التقوى والصلاح والإخبات لله فهو أمرٌ يجب أن يتحقق في الداعية إلى الله، وهو ما يظهر على وجهه وفي تصرفاته ولباسه ومسكنه وعياله، أما أن يكون الداعية "مودرن" "حليق" لا يتحدث العربية ولا يعرف لسان القرآن، فهذا أمر لم نعرفه من قبل, وهي خطة صليبية صهيونية مدعومة لتشويه وتشويش عقل الجيل المسلم.

      * أقحم العديد من الدعاة أنفسهم في الفتوى, في حين هم من غير الدارسين لأصول وقواعد العلم والفقه, وهو ما أسفر عن حالة من التضارب في الفتوى.. ما هي نصيحتكم لهؤلاء وكيف يمكن حلها؟!

      ** كما ذكرت آنفًا فإن الفتوى نتاج العلم، والعلم يحمله العالم، لا المتعالم، والمفتي قائم مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وموقّع عن ربّ العالمين، فلا ينبغي لأحد لا يزال يحمل في قلبه ذرة خوف من الله سبحانه، أن يقدم على الفتوى بغير علم، وقد أنكر ذلك سلفنا الصالح وعرفت عنهم الكثير من الأقوال في هذا الباب، والمشكل الأساس لا يكمن فيما يجب على هؤلاء أن يقولوا إن سُئلوا، ولكن كيف وصل أحدهم إلى أن يقف موقفًًا يراه فيه الناس أهلاً للفتوى؟! يجب من كانت هذه حاله أن يبتعد عن مواقف العلماء أو الأئمة، وأن يقفوا مواقف المتعلمين حتى يرفعهم الله بالعلم درجات، فإن أراد الله سبحانه أن يقف أحدهم موقف العالم ويتعرض للسؤال، فما عليه إلا أن يحيل السائل على من يثق في دينه وعلمه، وليعلم أنّ فتواه بغير علم هي قطعة من النار وتضليل وإضلال، فليتقّ الله ربه في نفسه وفي غيره.

      * انتشرت في السنوات الأخيرة الفضائيات الإسلامية التي احتوت على العديد من البرامج الدينية التي يقدمها الكثير من الدعاة أو ممن عدّوا أنفسهم دعاة.. هل يعكس إقبال الناس على مشاهدة هذه القنوات حالة حقيقية من التدين؟! وهل تشكل فعلاً الموضوعات التي يتناولونها في برامجهم أولويات لتحقيق النهضة الإسلامية؟!

      ** أولاً فإنه لا شكّ أن الجيل المسلم متعطش للعلم مريد للتدين، والأمر أنّ السلطات الطاغية قد منعت أهل العلم المتحققين فيه من الحديث، فلم يعد إلا الهواة من المتصنّعين بالدعوة تلقفتهم هذه الفضائيات التي لا تهتم إلا بعدد المشاهدين حتى تحقق أرباحًا أعلى من الإعلانات بغض النظر عن الحقّ والباطل، فهذا الإقبال يعكس رغبة في التدين ولا شكّ، ولكنها رغبة لم تجد ما يرويها من نبع النقل الصحيح والعقل الصريح إلا هؤلاء الدعاة الجدد أصحاب الوجوه اللامعة المتلمّعة إن صحت الكلمة. وهذه البرامج تتناول موضوعات وإن مسّت بعض حاجات المجتمع إلا أنها – كأصحابها – عالات على المشكلات الحقيقية للمجتمع المسلم، وشروط النهضة موضوع شائك يحتاج إلى عقول جهابذة متحققين بالعلم ليضعوا المناهج ويبينوا المشاكل ويرفعوا العوائق ويضعوا الحلول. أما ما نراه فهو من السطحية بما يجعله كحبة إسبرين يعرضها حلاق صحة على مريض بالسرطان.

      * يخوض الكثير من الدعاة في موضوعات توصف بالشائكة, ما يثير الكثير من البلبلة في أوساط الناس.. ما رأيكم في ذلك وما هو الطريق الأمثل الذي يجب أن يسلكه هؤلاء الدعاة إزاء هذه الموضوعات؟!

      ** من المعلوم أنّ الفقيه الرباني يربي الناس بصغار المسائل قبل كبارها, أي بواضحها قبل مبهمها وجزئياتها قبل كلياتها، فلا يتعرض لما يفتن الناس، والعلم الشرعيّ عميق بحوره عاتية أمواجه لا يتصدى للإبحار فيه إلا عارف بمسالكه ومساربه. وروى البخاري عن عليّ: حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذّب الله ورسوله؟! وفي البخاري عن ابن مسعود: ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة. فمثل هذه الموضوعات التي يراد بالخوض فيها التعالم على الناس لا خير فيها، خاصة إن كانت مما هو في حقيقته مخالف للهدي النبوي، فتجد من يستخرج حديثًا ضعيفًا أو متروكًا يستظهر به على الاختلاط أو يريد به ردّ الحجاب أو إثبات نجاة أهل الكتاب... وغير ذلك مما هو مجمع عليه. هذه موضوعات وإن كانت شائكة بمعنى أن الخوض فيها يسبب بلبلة وفتن للقائل والسامع، إلا أن حكمها واضح معروف, وإن خشي بعض العلماء أن يصدع فيها بالحق، وفتوى العالم الشيخ البراك في حق المرتدين مما يجب أن تكون نبراسًا لدعاة اليوم أن يصدعوا بالحق حين يطل الباطل برأسه متحديًا، ويجب أن تكون كلمة الحق هي العليا وكفانا مجاملة و"طبطبة" على الأكتاف, فوالله ما سهّل على أعدائنا غزونا وإرهابنا إلا بإمساك علمائنا عن قولة الحق وتبنيهم مواقف سياسية خائبة تعلو فيها مصالح متوهمة على المصلحة الشرعية الحقيقية.

      * بما أنكم تمارسون الدعوة الإسلامية منذ عقود مضت.. هل لكم أن توضحوا لنا الفروق بين معوقات الدعوة في الوقت الحالي وتلك التي كانت في بداية عملكم بالدعوة؟!

      ** حين بدأنا طريق الدعوة في بداية السبعينيات، كانت الظروف جدّ مختلفة عما هي عليه الآن، الناس غير الناس، والدعاة غير الدعاة والتحديات غير التحديات، لا أقول: إنها كانت فترة رخاء إسلاميّ ولكن كانت ولا شكّ فترة حضور دعويّ قوي، كان من الممكن استغلاله أفضل مما كان، والأمر لله من قبل ومن بعد. وقد أعاننا على هذا الأمر في زماننا أنّ القيادة السياسية كانت لها مصلحة في أن تترك حبل الدعوة مرخيًا لحين، أما اليوم فالقيادات السياسية بل والسياسة العالمية كلها أصبحت ظهيرًا على الإسلام والمسلمين. كذلك فإن الإشكالات المطروحة في هذا العصر من دعاوى العقلانية والعقلانيين، والإصلاحية والإصلاحيين، والدعاة الجدد "المودرن" وقصصهم، ثم العلمانية الصريحة التي لم تعد تتخفى كما كانت في عصر السبعينيات، أضف إلى ذلك زيادة الانحلال المعروض على شاشات التلفاز بما لا يمكن وصفه، وضعف اللسان العربي بل وفقده كلية، وإحلال اللغة الإنجليزية محلّ العربية حتى في لافتات الشوارع وأسماء المحلات التجارية! وعملية تبديل المناهج وحذف معالم كاملة للإسلام، وضعف الرغبة في قراءة الكتب والتحصيل لصالح الأشرطة المسموعة، كلّ هذا جعل مهمة الداعية أصعب وأشق؛ إذ هو لا يغالب جهلاً فرديًا أو هوى شخصيًا ولكن يغالب قوى جاهلية عارمة في المجتمع كله تعمل ضده، فقوة الدفع الآن سالبة محضة والدعوة تسبح عكس التيار, بينما في السبعينيات كانت هناك عوامل إيجابية تعمل لصالح الدعوة.

      * نلحظ كما يلحظ الجميع حالة من الفصام فيما بين الدعاة الذين حققوا نجاحًا كبيرًا على الساحة الدعوية والمؤسسات الدينية الرسمية.. ما تفسير ذلك؟!

      ** لا شك أن المؤسسات الدينية الرسمية قد فقدت مكانتها في الدعوة وفي تخريج الدعاة بعد أن حولتها السلطة إلى أجهزة دعاية لا دعوة وأبواق تنشر ما يوافق هواها ويروج باطلها، فلا جرم أن يتقلص دورها إلى أقل من القليل, وأن ينظر إليها الشباب المسلم على أنها من الجهات العميلة أكثر من أن تكون من الجهات الأمينة، ومن هنا فإن الدعاة الذين حققوا نجاحًا خارج نطاقها قد حققوه ليس لقوة دعوتهم وزخمها بقدر ما هو من ضعف هذه الجهات وعدم جدواها. وما أحسب أن هذه المؤسسات الدعوية ستعود لها مكانتها في القريب العاجل، قبل أن تتحرر من ربقة السلطة ويقوم عليها من لا يخشى في الله لومة لائم، ثم أمر آخر هو أن كثيرًا من هؤلاء الدعاة لم يحرصوا على تحصيل العلم من مظانّه كما قدمنا، وكانت شهرتهم شهرة جماهيرية نجومية أكثر منها شهرة علمية فقهية. فما لهؤلاء وللمؤسسات العلمية كالأزهر مثلاً، وإن تقلص دوره فهو لا يزال يحافظ على قدر من صلب العلم المنهجيّ لا حاجة لنجوم الدعوة فيه، فهذا كذلك من أسباب الفصام.

      * هل يمكن أن تحددوا لنا أولويات الأجندة الدعوية التي يجب أن يلتزم بها الدعاة في الوقت الراهن؟!

      ** أولاً أحب أن أفرق بين الداعية والعالم، فليس كلّ عالم داعية وليس كلّ داعية عالمًا، والعالم أجلّ مكاناً وأعلى قدراً، ومن أهم الأمور هو ضبط هذه المصطلحات حتى يعامل كلّ بما يستحق، فمثلاً لا يصح لداعية أن يفتي, فهذا حقّ العالم الفقيه، ومن العلماء من هم دعاة أفذاذ كابن الجوزي، ولكن هذا يندر بل قل: لا يقع في زماننا. والعالم تعرفه بآثاره من كتب علمية متخصصة كما تعرف الأستاذ الجامعيّ بما كتب وحقق ونشر من مؤلفات تضيف إلى العلم أو تشرح خبيئة أو تبين غامضة. أما الداعية فمهمته الأولى أن ينقل للناس علم هؤلاء العلماء بشكل بسيط قريب المتناول سهل المأخذ، وأن يثير فيهم الحاسة التي تقربهم إلى الله وترغبهم في العلم. ومن هنا يمكن لنا أن نحدد أوليات الداعية التي يجب أن يلتزم بها، فعليه أولاً أن يحصّل من صلب العلم بالشريعة بشكل ما يمكنه قبل أن يرفع صوتاً بالدعوة، حتى يتحدث بعلم وعدل. ثم عليه أن يتعرف على مشكلات الواقع وأن يرتبها ترتيبًا تنازليًا, فيبدأ بالحديث عن أهمها وأولاها بالتقدمة, ويؤخر منها ما لا عجلة في الحديث عنه، فالحديث عن توحيد الربوبية والعبادة مقدم على الحديث عن ضرورة وحدة الصف؛ إذ إن وحدة الصف لا تعتبر إلا إن كانت وحدة على الحق لا على البدعة والباطل، وهكذا هو فقه الأولويات على حقيقته، كما يجب أن يلتزم الدعاة بالتحقق من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلقد فشا في هذا العصر الاستدلال بما هو من الضعيف والمتروك بل والموضوع، دون أن يهتم الداعية لما لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من حرمة. ثم على الداعية أن يحدد فيأخذ السامع خطوة خطوة إلى بناء مفهوم صحيح متكامل، لا أن يضرب في مناحي الفقه مرة ثم في الأخلاق أخرى ثم في التربية مرة وهكذا, بل الأفضل أن يستقصى موضوعًا حتى يتمّه, ورحم الله الشيخ محمد الغزاليّ فقد كان إماماً في الدعوة وكم له من مؤلفات تتناول موضوعات متكاملة.

      ثم على الدعاة أن لا يهابوا إظهار الحق والسنة والضرب على البدعة وإظهار عوار أهلها فإن هذا من أغراض القرآن، قال تعالى: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55]، وقال: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال: 37]، فتمييز الخبيث والتعريف به غرض قرآني لا يجوز أن يعرض عنه الداعية بأية حجة. كذلك فإن الحديث عن الواجبات الشرعية أولى من الحديث عن المندوبات والمستحبات، فليس من المعقول أن يتحدث الداعية عن محبة الجار أو حضور الجنائز وعيادة المرضى في جمع من السيدات السافرات، بل الحديث عن اتباع أمر الله سبحانه ووجوب طاعته وعدم الخروج على أوامره ومنها الحجاب أولى وأحق. وهو أمر يحتاج إلى بسط موسّع لعل الله سبحانه أن يتيح الوقت والعمر لأن نكتب فيه ما تيسر.

      * عانت الصحوة الإسلامية وما زالت من حالة صراع فيما بين الحركات الإسلامية نتيجة الاختلاف في فهم النصوص أو تنزيل هذه النصوص على الواقع.. كيف يمكن أن تتلاشى حركة الدعوة الإسلامية هذه الخلافات؟!

      ** سؤالك هذا فيه لبّ الحديث عن نشأة الفرق والأهواء، فإنها ما ظهرت إلا للاختلاف في فهم النصوص، فقوم فهموا النصوص على ظاهرها بإطلاق وأغمضوا عمّا تحمل من معنى، وهم الظاهرية ومن تبعهم، وقوم ردّوا ظواهر النصوص بإطلاق ولجئوا إلى ما عدوه معاني باطنة وهم الرافضة والمعتزلة والصوفية، ثم كانت هناك فرق بين هذين الحدين. وكان أهل السنة ولا يزالون هم أصحاب الوسط الأعدل في فهم النصوص وتنزيلها على مناطاتها. وعصرنا كأي عصر تمثلت فيه الفرق القديمة كالمرجئة والخوارج والمعتزلة تحت أسماء جديدة وكما ذكرت في مقدمة كتابنا "المعتزلة بين القديم والحديث" فإن الأفكار لا تموت, بل تبقي سارية بين الناس وإن حملت أسماءً مختلفة أو تخفت تحت شعارات زائفة، هذه واحدة، والأخرى أن الحق في العقائد واحد لا يتعدد، والكثير من الناس لا يفرق بين الفرق وبين المذاهب الفقهية، أو بين الخلاف في العقائد والخلاف في المسائل الفقهية. فضابط الفرق هو أنها ضلّت في العقائد, ويجب أن لا يغيب هذا المعنى من ذهن شبابنا، والواجب أن يراجع شباب هذه الجماعات أصولهم التي يتبنونها فإن كانت أصول السنة والجماعة التي اجتمع عليها أئمة أهل السنة، فبها ونعمت, وإلا فيجب مراجعة هذه الأصول والرجوع إلى ما استقر عليه أهل السنة بلا مجادلة أو مماحلة، ولا يصح أن يكون بين الجماعات الإسلامية خلاف في هذه الأصول فقد قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].

      ثم إن السؤال يتحدث عن تنزيل النصوص على مناطاتها، وأعتقد أن سبب الخلاف في أغلبه راجع إلى الخلاف في الأصول لا في تحقيق المناط بتعبير الأصوليين. فمثلاً الخلاف على حكم تحكيم الأحكام الوضعية في حياة الناس بدلاً من أحكام الله الشرعية ينشأ عنه التكييف الشرعي للحاكم ونظام الحكم، وينشأ عن هذا التكييف منهج التعامل وتحديد الأولويات. ومن هنا ينشأ الخلاف بين الجماعات الإسلامية ويرمي بعضها البعض بأوصاف تتراوح بين الخوارج المفرِطين والمرجئة المفرّطين. والحلّ هو تحكيم الدليل الشرعيّ الصحيح والبعد عن مجرد التقليد الأعمى دون الدراسة والعودة إلى الأصول.

      *هل لنا أن نتعرف في إيجاز على تجربتكم ورحلتكم الدعوية حتى يمكن أن تستفيد منها الأجيال الجديدة؟!

      ** الحمد لله تعالى، فقد بدأت هذه الرحلة منذ خمسة وثلاثين عامًا، مع إخوة لي, ثم تفرقت بنا السبل وذهب كلّ في طريق، المهم كانت القراءة المتصلة لكافة ما يمكن أن يُقرأ هي عملنا اليومي الدائم، وقد كنت على صلة بعدد من شيوخ الدعوة وعلمائها في هذا الحين، وقد استفدت الكثير من علمهم، ثم التحقت بمعهد الدراسات الإسلامية في القاهرة عام 1972، وأحب أن أوجه النظر إلى أن هذه القراءة المتصلة العامة قد تحولت إلى قراءة منهجية منظمة لأصول الدين والحديث والتفسير والعقائد ثم أصول الفقه والعربية، وقد كان ولعي شديدًا بالشعر العربي وآداب العرب عامة، وأحسب أن ذلك وراثة عن جدي الشيع عبد العزيز البشري وعن أبيه الشيخ سليم البشري، وقد انصب اهتمامي في منتصف السبعينيات على العقائد والفرق ثم على أصول الفقه الذي أخذت التخصص فيه إلى ما قدرني عليه ربّي، وقد أصْدرت مؤخراً كتاب "مفتاح الدخول إلى علم الأصول" بالعربية فضلاً من الله ونعمة. كما أصدرت مجلة "أمة الإسلام" بالعربية والإنجليزية في تورونتو، وأنشأت معهد دار الأرقم الذي كنت أدّرس فيه علوم الشريعة بالتعاون مع الجامعة الأمريكية المفتوحة، وقد عكفت على الدراسة طوال سنيّ عمري, كما أصدرت عددًا من الكتب في الفِرَق وفي الإيمان وفي الأصول، منها بالعربية ومنها بالإنجليزية ومنها ما ترجم إلى الأردية. وأنصح الشباب أنْ يجعل همه القراءة فبدونها لا يمكن تمييز الحق من الباطل، وليس من المصادفة أن الله سبحانه افتتح وحيه بقول "اقرأ". وعليكم بالدليل من الكتاب ومن السنة الصحيحة الثابتة، وعليكم بالرجوع إلى العلماء الإثبات من أهل السنة من هم على قيد الحياة أو من لقي ربه، وهم كثير والحمد لله. وعليكم أن لا تنخدعوا بالأقوال المزوقة أو ما يسمونه بالحداثة أو التجديد أو العصرانية أو ما ماثل هذا من مصطلحات لا تحمل عند الميزان وزنًا. ثم التقوى وحب الخير للناس, ثم كراهة الكفر والبدعة والوقوف بالمرصاد لأهلهما، والله وحده الموفق لما فيه الخير.