لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك... بهذه الكلمات الحبيبة إلى القلب بدأنا رحلة العمرة، ثم بحمد الله تعالى على ما أولاه من تسديد الخطى وإتمام العمرة أنهينا بالأمس هذه الأيام المباركات بين مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصلاة في مسجده وإهدائه السلام في مقامه الطاهر، وبين مكة المباركة وبيت الله العتيق، والصلاة إلى الكعبة المشرفة، ووالله إنها كانت لنا أفضل الأيام في أفضل بقاع الأرض، فالحمد لله الحمد لله الحمد لله.
وقد قضينا يومين في المدينة المنورة، بعد أن اختصرها لنا خطأ لشركة السياحة التي رتبت الرحلة، صلينا وسلمنا وتمتعنا بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأن كنا قريبا من مقامه الشريف، حيث كانت الغرفة تطلّ على الحرم مباشرة، وهى نعمة لا تضاهيها نعمة، ولا يعرف حقّ قدرها إلا من يعيش في بلاد لا يسمع فيها الآذان البتة!
ثم قضينا ستة أيام ولياليها في مكة المكرمة، وصلينا في الحرم ما شاء الله أن نصلى وطفنا بالبيت بعد العمرة ما شاء الله لنا أن نطوف وقرأنا القرآن في ساحة البيت العتيق ما شاء الله لنا أن نرتّل، فله الحمد في الأولى والآخرة.
وقد كان ما رأيت من تغيّر في مشاهد مكة وما حول الحرم أكبر من أن أتخيله بمجرد الوصف، إذ كان آخر عهدى بها في عام 1988، وإذ هي تغيرت وتبدلت في العشرين عاماً المنصرمة إلى شأن آخر، ولكن الأعجب أن مكة لن تلبث أن تبدل حلتها مرة أخرى إذ قد بدأت حول الحرم حركة انشائية هائلة من هدم كافة ما حوله إلى بناء جديد لعمائر شاهقة على أحدث طرز البنيان وأفخم وسائل الراحة والرفاهة. ومثال على ذلك هو تلك الأبراج الهائلة المقابلة لباب الملك عبد العزيز والتى منها برج زمزم الهائل.
ومع التقدير للجهد الهائل الذي يُبذل في سبيل توسعة الحرم وتأمين الإقامة الوادعة المريحة لأكبر عدد ممكن من الحجاج والمعتمرين، ومع أننا نرى أن عجلة التقدم لا يجب أن يقف في سبيلها أحد، إلا أنّ لكل مقام حدّ محفوظ يجب أن يراعى مهما كانت الأسباب الداعية للتطور والتغيير. فإن مما لفت النظر واطمأنت اليه النفس هو تلك المحلات العديدة التي تقع في المركز التجارى في ساحة البرج المذكور، إلا أن ما أزعج النفس بعد هذا الإطمئنان، أن ترى محلات تعرض ملابساً متكشفة تكشفاً يندى له جبين البحّار بالخجل، وهى معروضة على باب المركز أمام ساحة الحرم مباشرة! فالحاج أو المعتمر إذا نظر يمينه رأى هذه الملابس، ثم إذا نظر أمامه رأى الحرم الشريف، وهو لا يبرح مكانه في الحالين!
وما أودّ أن أذكر به القائمين على هذا الجهد أنه رغم التقدير والحاجة إلى التغيير، فإن الحج والعمرة هي شعائر دينية كالصلاة، وكما أنّ الله سبحانه جعل التوجه إلى الصلاة له مقدمات تهيؤ المسلم لهذه العبادة كالطهارة والوضوء ثم صلاة النوافل ثم الإقامة والتكبير، حتى يقف المسلم بين يدى الله سبحانه بعد أن تهيأ لهذه العبادة دون أن يلجها دفعة واحدة، فكذلك الأمر هنالك، فإن المتوجه إلى الحرم للصلاة أو الطواف أو السعي أو الدعاء يجب أن يهيئ النفس لما هي مقدمة عليه من جليل العمل ، فيمر في طريقه إلى الحرم بما يذكّره بالله وما يبعده عن الدنيا ومتاعها وشهواتها كاللباس النسائيّ الذى لا يصلح للعرض إلا في غرفة نوم خاصة!
وقد كانت إحدى ثمرات هذه الأيام المباركات أن التقيت شيخنا الجليل بقية السلف الصالح العلامة محمد قطب في بيته بمكة، وسعدت بساعة من الحديث الطيب المثمر معه، بارك الله في عمره ومدّ له فيه. وقد كانت الإستفادة من هذه السويعات عقلية وروحية ربطت الأمس باليوم والحاضر بالماضى واستحضرت أشجان الأمة الإسلامية وما تمر به من محن لا تكاد تنصرم إحداها حتى تصدمها أخرى بما هو أشدّ وأنكى، ولله الأمر من قبل ومن بعد. وقد أفدت من ملاحظة أبداها بشأن أحداث 11 سبتمبر، سأتحدث عنها في حين آخر إن شاء الله تعالى، إلا أنّ ما سرني هو تطابق رؤيته لما أوردت في حديثى عن هذا الأمر في مقال سابق لي.
ثم كان العود أحمد إلى حيث الأهل والولد، وقد سألنا الله تعالى أن يكتب لنا العودة إلى بيته العتيق مرات لعل الإصرار على ذلك يمحى ما استدبرنا من ذنوب أحصاها الله ونسيناها،إنه غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى.