فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      حماس .. عتاب وتنبيه

      عندما كانت المنافي السياسية هي المغنم، والعيش تحت ظل الاحتلال الصهيوني هو المغرم ، كانت حماس هي المدرسة والجامعة والمستوصف ودار الأيتام والبلدية والقضاء. كانت هي الدولة تشريفاً لا تكليفاً من دون عناوين ومناصب وجاه، في يوم نفض فيه الآخرون أيديهم من الوطن وراحوا ينعمون على رمال البحر المتوسط الناعمة، قبل أن ينكشف لهم كنز سياسي أسمه الانتفاضة الفلسطينية فعادوا يهرعون. اصطف العرب والمسلمون بأموالهم وأنفسهم وأقلامهم وحناجرهم إلى جانب حماس، وهتفوا لكل حجر قذفه أطفال فلسطين على الاحتلال. هذه حقائق نحفرها في الذاكرة وعلى ألواح الحجر، ولكن لنا بموازاتها كلام آخر لحماس وللتاريخ.

      في عام 2001 سقطت أفغانستان تحت الاحتلال الأمريكي بعون من إيران، وفي 2003 سقط العراق تحت الاحتلال المزدوج الأمريكي – الإيراني. مثل سقوط العراق ولادة مدرسة مقاومة ببراعات قتالية أسدلت الستار على مقاومة فيتنام ودخلت المعاهد العسكرية، بل دخلت ورش تصميم السلاح الذي فشل أمام تقنياتها. كانت المقاومة العراقية ضرورة استراتيجية لمنطقة غاب عنها لاعبها الأكبر فترة 13 عاماً وتفردت بها إيران. كانت سني المقاومة الخمسة أكاديمية أحيت معادلات إقليمية تاريخية ثبت أهمية إحيائها، وشهادة جامعية لشعوب المنطقة صوبت مفاهيم فكرية أغفلتها الثقافات الوطنية الحديثة، وكشفت ثغوراً خطيرة في الأمن القومي العربي لاسيما دور الأقليات. اعتبرت الدول الكبرى معركة المقاومة العراقية المعركة التي ستحدد معالم خريطة القرن الواحد والعشرين.

      حملت النتائج المبكرة للمقاومة العراقية بشائر لشعوب المنطقة، ولم يمضِ وقت طويل حتى انطلقت في أفغانستان مقاومة بفنون قتالية وإعلامية لم يكن صعباً التعرف على نسبها الذي لم يتردد قادتها في رده إلى أصله، وتقاطع الخطاب الإعلامي رغم البعد الجغرافي وتباين البيئات والمدارس الفكرية.

      وفي المقابل كان العام الأول من المقاومة العراقية كافياً لملاحظة غياب حماس في ساحة حماس تجاه مقاومة شعب امتزج دمه مع الدم الفلسطيني على ثرى فلسطين، ويرقد شهداؤه إلى جانب الشهداء الفلسطينيين في جنين وغيرها. أدفءٌ من طالبان وفتور من حماس؟ كانت حماس ترتقب البشائر من موضع آخر كان يكفي أن يثور أياماً ـ ويهمد أعواماً ـ لتنتفض حماس وتنتفض شبكتها الإعلامية الفاعلة. كان واضحاً أن حماس قد حطت في مدار سياسي وآيديولوجي آخر قطعت فيه أشواطاً بعيدة.

      أخوة العروبة والإسلام في حماس: لا يهمنا التدخل في شؤونكم، ولكنكم تقولون للإيرانيين شيئاً، وتقولون لرفاقكم الإسلاميين في جلسات خاصة شيئاً مختلفاً، وتقولون على الشاشات شيئاً ثالثاً، والحقيقة هي أنكم متحالفون مع النظام المجوسي الغاصب لبلدنا، بكل ما يحمله هذا التحالف من أذى وتعمية على إدارة معركتنا.

      أيها الإخوة: إذا كان بلفور قد أهدى بلادكم إلى اليهود، فقد أهدى بوش بلادنا إلى المجوس. وإذا كانت العصابات الصهيونية اقترفت مجزة دير ياسين بثاً للرعب في أوساط المدنيين، فقد أحال المجوس قرى ومدن العراق قاطبة أديرة ياسين يلزم فيها الناس المنازل خشية الخطف والذبح. وإذا بلغ عدد من استشهد في تلك المجزرة 93 شيخ وإمرأة وطفل، فإنه يقتل في كل يوم في العراق ومنذ نيسان 2003 ستة أضعاف شهداء دير ياسين، أي 543 في اليوم الواحد والمجموع مليون. وإذا كانت أخواتنا الفلسطينيات يضعن حملهن على المعابر التي يقفلها الجيش الإسرائلي بين الحين والآخر، فإن العراقيات يحجمن عن الحمل خشية الولادات المشوهة بسبب تلوث اليورانيوم الأبدي. وإذا غرقت غزة في الظلام أسبوعاً و أسبوعين في العام وأوشكت المشافي على التوقف، فإن العراق غارق في الظلمة منذ خمسة سنوات دون انقطاع، ومن دون تدفئة في زمهرير الشتاء أو تبريد في قيض الصيف، ومشافيه جدران وأسقف فقط لا يقصدها الناس خشية الذبح على أيدي المليشيات المجوسية التي تسيطر عليها.

      لسنا سواءا. فحياة فلسطينيي 1948 تحت حكم اليهود المباشر، الذين يذهبون ويجيئون ويعملون ويدرسون أرحم من العيش في بغداد تحت حكم المجوس. ثم ألم يأتي الصهاينة إلى العراق ونبشوا أرض بابل استكمالاً لنبش جبل الهيكل المزعوم؟ هل بات سراً أن تدمير العراق واغتيال عقوله وحرق تراثه كان من أجل الكيان الصهيوني؟ أليست المعركة واحدة إنسانياً وآيديولوجياً؟ لماذا إذاً تخذلون إخوانكم في العراق وقد كانوا لقضيتكم ظهيرا؟

      هل الذي يسري في عروقكم دم والذي يسري في عروقنا ماء؟ بصراحة، لسنا واثقين من الإجابة.

      في قاعة حفلة زفاف كريمة السيد خالد مشعل في دمشق قبل أيام يُمازح السفير الإيراني الضيف بعبارة شيخ الإرهابيين (أي شيخ المقاومين)، ويقلد النظام السوري وسام الصمود والمقاومة. السؤال: فهل من حرمة لمشاعر مئات الألوف من العراقيين على بعد بضعة أميال من القاعة، الذين هجرتهم مليشيات حكومة شيخ الإرهابيين؟ ثم هل من حرمة لأرامل وثكالى العراق حين أقمتم سرادق العزاء لعماد مغنية الذي قاتل العراق من الخندق الإيراني في حرب الثمانية أعوام، والذي هندس الحرب الطائفية وتدمير مساجد بغداد؟ هل الذين قتلهم مغنية ذباب؟ أمِن قسوة في هذه التساؤلات وأنتم الذين ينكأ جرحكم (وجرحنا) وتلتهب مشاعركم ـ حتى هذا اليوم ـ لسماع كلمة مديح تكال لمسؤول في أحداث أيلول الأسود 1970؟

      نريدها صريحة: إذا كان حق للفلسطيني على العراقي (وهو كذلك) أن لا يضع يده في يد صهيوني، وأنه عار وشنار أن تطأ قدمه أرض فلسطين المغتصبة حرمة لأرواح ودماء وأعراض آبائنا وأمهاتنا وأخواتنا، فحق للعراقي على الفلسطيني أن لا يضع يده في يد مجوسي، أو تطأ قدمه أرض تل أبيب الشرق (طهران) فضلاً أن يقبل يد هرتزل ولاية الفقيه ويشهد له بإمامة المسلمين احتراماً لأرواح ودماء العراقيين والأيتام والمشردين.

      كم تندر العرب بمقولة صدام حسين: العراق حارس البوابة الشرقية؟ وها هي المقاومة العراقية تثبت صحة المقولة، وهي بذلك لها فضل على قادة حماس قبل غيرهم الذين ما كانت لتقلهم أرض في الشرق الأوسط الجديد الذي تبخر، ولها عليهم حق بأن لا يكونوا درعاً لإيران يصد عنها نبال الحقيقة، وكم أنصف يساريون وشيوعيون عرب وعجم المقاومة العراقية في مناسبات إعلامية وسط صمت ممثلي حماس أو تلعثمهم بكلمات لرفع العتب.

      ليس العراقيون وحدهم. لقد قابلت الشعوب العربية بصمت دخولكم تحت جناح المعسكر الإيراني الشعوبي المقوض لأمن المنطقة والمشيع للفساد العقائدي والخلقي في مجتمعاتها. صمت السوريون الذين ملأ النظام الطائفي حليفكم وجه بلادهم العربي السني النضر بثوراً مجوسية وأقصاها عن دورها الطبيعي، وصمت أهل السنة في لبنان الذين أمم حليفكم "حزب الله" مقاومتهم ثم عاد وخرب البلاد باسم المقاومة وحولها شوارعها وأسواقها إلى ثكنات، وصمتت أرض الكنانة أمام مشاغبات حليفتكم إيران لإحياء الأمجاد العبيدية و"استعادة" الأزهر الشريف، وصمت أهل السنة في إيران وعرب الأحواز أمام تمزيق الشعوبية الفارسية لكيانهم وطمس عروبتهم. لكنه صمت حياء من الأرض المباركة وأولى القبلتين.

      أيؤبن المرء قاتله؟ أيوادّ المسلم شاتم دينه؟ أيتفرج العربي على الشعوبية تسري في جسده؟ أيتكتم على مصيبة قومه؟ أيقطع المناضل طريق رفاق دربه؟ أيعظم الحر غاصب غيره؟ أيسكت الإنسان على تدمير مدن أخيه بني الإنسان وتحريقه حياً في سجنه؟ لكنها أقساط قرض ربوي يسددها مدين صغير مسكين إلى دائن مرابٍ كبير شرير، أقساط لا توشك أن تنتهي حتى تربو، تستنزفه حتى الإفلاس والعجز عن السداد، حينها يبيعه الدائن إلى دائن جديد، فلا يسترد المسكين يوماً حريته.

      تحوّل قضية الأرض المباركة من قضية مسلمين، إلى قضية عرب، إلى قضية فلسطينيين، ثم إلى قضية حماس وفتح زائداً حصار رسمي عربي، هذا التحول جرد القضية من مقومات وأوراق سياسية أساسية، ونقلها من رؤى واستراتيجيات أمة إلى حسابات أقليات، لتغدو قضية الأرض المباركة التي هان أمامها مال ونفس العربي والمسلم عنواناً بلا مقومات، وتصبح ليس أكثر من تصريف شؤون مأساة إنسانية على الصعيد الاجتماعي، وإدارة لتنافس فلسطيني – فلسطيني على زعامة المفاوضات مع إسرائيل على الصعيد السياسي.

      لم يعد ضمن مساحة ومقومات غزة ورام الله معارك استراتيجية، ولا معارك آيديولوجية، إلا أللهم بين غزة ورام الله، فكل أم فلسطينية أوعى بطبيعة الصراع مع اليهود من أي وزير عربي، وثدياها خير مدرسة آيديولوجية للأجيال، وأرحام الفلسطينيات هو السلاح الذي هزم الوكالة اليهودية العالمية في معركة التغيير السكاني لفلسطين.

      جنرالات المعركة الديموغرافية الذين طردوا الفلسطينيين من أرضهم في 1948 و 1967، وجنرالات المعركة الآيديولوجية الذين سحقوا مخيماتهم في لبنان في السبعينيات والثمانينيات، ثم عادوا وفتنوهم بآيديولوجياتهم في التسعينيات، هؤلاء الجنرالات في موقع آخر اليوم لفصل جديد، يجتثون مجتمعات الفلسطينيين من الجوار الإسرائيلي والجوار الفارسي ويلقون بها ما وراء المحيطات، تلك هي أحياء بغداد الفلسطينية، يلتقي في شوارعها جنود إسرائيليون ومليشيات شيعية طائفية عراقية ولبنانية وإيرانية في عملية ترويع وإبادة تحت شعار "أخرجوا العرب من العراق" خطط لها عماد مغنية، ونفذها جيش المهدي، وتفرجت عليها إيران ومرجعيات النجف، وتكتمت على حقيقتها حماس، بل أبنت مهندسها.

      بموازاة التحول العميق في المسار الفلسطيني، يستمر منحى حماس الباهظ الثمن عربياً، وبات عرب وسوريون يسمعون من نجوم إعلامية "حماسية" في جلسات خاصة مقولات (تعضدها الأفعال) مثل: "أنا مش مهم عندي يتحرر الجولان"، ويظهر المنحى تراجعاً للآيديولوجية الإسلامية إلى ما دون الآيديولوجية القومية، وحلول فكر ونظريات وحسابات ووسائل أقليات، فاسحة الطريق أمام المواطن السوري لطرح سؤال: أحرام على بلابله الدوح حرام على الطير من كل جنس؟ وشعار: أنا كذلك مش مهم عندي تحرر غزة؟ أمام هذا التحول العميق يحل التململ العربي محل "صمت الحياء".

      أيها الإخوة: بين حلفائكم (إيران، سوريا، حزب الله) قاسم مشترك أعظم هو الولوغ في دماء أهل السنة، ودولة بحجم إيران لا تنتظر من حركة بحجم وإمكانيات حماس أكثر من بطاقة تزكية عند المعابر الأخلاقية على مسرح عملياتها في المحيط العربي، ثم ينفد مفعول البطاقة، ومن أراد التحقق فليراجع حال النفر من أهل السنة في العراق الذين قبلوا الدخول في عملية سياسية وصاروا بطاقة النظام الأمرو- صهيو- مجوسي لاجتياز معابر الدستور وقانون النفط وتقسيم البلاد. المشكلة هي أنهم بطاقة عبور محلية وأنتم بطاقة عبور إقليمية إلى جوف المجتمعات العربية والفساد أعم وأطم، وقد وطأت المجوسية أرض فلسطين. وبعد تسوية الخلافات بين شريكي الشرق الأوسط الجديد أمريكا وإيران فلن تساوي غزة عند الأخيرة أكثر من مخيم تل الزعتر الذي دمره النظام السوري.

      تحالفكم مع الثالوث كارثي النتائج. فهل عرف العالم كتلة سياسية بحجم الوطن العربي يدار مشهدها السياسي والأمني والإعلامي من شريط حدودي؟ حتى لو كان هذا الشريط دولة مستقلة ذات سيادة مثل لوكسمبرغ أو حتى بلجيكا اللتان تشكلان امتداداً للنسيج الأوربي، فكيف بشريط تحركه آيديولوجية أقلية تختلف مع نسيج محيطها بالتاريخ والجغرافيا والدين والحضارة، وآخر مشتق من النسيج محاصر ويتنفس برئة الأول، والنتيجة هي حكم الأقلية بتزكية الأكثرية، ولا عجب إن رمى حزب الله من شريطه ألعاباً نارية على شريط شمال (إسرائيل) نسيى الإعلام العربي شيئاً اسمه احتلالاً أمريكياً ومقاومة عراقية، وصواباً قال كاتب لبناني مسيحي في هذا المعنى: أهل السنة قاريون والشيعة قرويون. الكارثة أعظم عندما يتبع القاري القروي أو يصبح قروياً.

      نحن المسلمون أمميون، صراعنا آيديولوجي لا عنوان جغرافي له، والنصر إن لم يتحقق على الأرض المباركة فعلى ثرى العراق، وإن لم تشأ الأقدار فبلاد الشام أو غيرها، ولكن من أبجديات الصراع حضور المناورة السياسية والعسكرية، وغزة بهذا المفهوم ليست أهم من العراق. بهذا المفهوم نحن لا نتحدث بالنيابة عن العرب أو السوريين بشكل خاص، ولكن العراقيين الذين لم يتبقَ لهم على أرضهم مواطئ أقدام كثيرة، لا يمكنهم التفريط بامتداهم الاستراتيجي والعبث بنسيجه السياسي والمذهبي وسط معركة مسخ الهوية الإقليمية الجارية في المنطقة، والقبول بضياعه في مقايضات مجحفة. هذا الامتداد هو بلاد الشام.

      لو نجح الاحتلال الأمريكي - الإيراني في جعل الفلوجة والأعظمية والموصل وسامراء جيوب معزولة كما هو حال غزة، والتفت إلى مصر لتفتيتها، فمن حق المصريين أن يقولوا للعراقيين الذين كانت بلادهم في الأمس القريب زعيمة المنطقة بدون منازع وقبل أن يسمع العالم بزعامة تركيا وإيران، وكانت الأكثر تكاملاً بين الدول العربية، وجيشها السادس في العالم، والتي وصلت الفضاء، من حق المصريين أن يقولوا: كانت بلادكم مركزاً للصراع وقد انتقل إلى مكان آخر. لا تكن قلة حيلتكم معبراً للمفسدين إلى مجتمعات جواركم. الحذر من تحالفات مع قوى تبدو صديقة وتضمر أجندات مختلفة. إياكم من شعارات تربك أجواء المعركة الحقيقية. لا تتصدوا لقضايا أمة بمقومات كانتونات فتخسرون وتخسر معكم الأمة، وهم في ذلك محقون.

      عن جريدة  المصريون عدد أبريل 25، 2008