فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      بين النقد الهادئ ونقد الطبطبة

      لا أتوجه بحديثي هذا إلى القارئ العادي، رغم أني أرحب بقرائنا الأعزاء ليكونوا شهوداً وحكّاماً على ما أقول، ولكني أتوجه به إلى كلّ ذي قلم سواء من الكتاب أو الباحثين، أو رؤساء تحرير المجلات المطبوعة أو الإلكترونية أو المواقع الإعلامية، فإن هؤلاء حاملوا مسؤولية تكوين عقول الأجيال الحاضرة وتوجيه وعيهم وفتح عيونهم على ما يراد بهم وبدينهم من شرّ.

      وهذا التوجيه والتكوين ينبنيان على أمرين رئيسين لا يقل أحدهما أهمية عن الآخر، أولهما بيان الحقّ وتوضيحه والثاني كشف الباطل وتحليله وتزييفه، وهو المنهج الذي خطّه القرآن وأقام أركانه بما لا يدع مجالاً لمجادل فيه.

      وكما أن بيان الحقّ يجب أن يكون كاملاً قوياً لا تحريف فيه ولا مواربة، وإلا كان تحريفاً له وتبديلا، فإن تزييف الباطل وبيانه ونقده لا يجب أن يكون إلا بوصفه بما هو أهل له ونعته بما يستحق للأسباب التي سنوضحها فيما يأتي.

      وقد لاحظت على مرّ السنوات الماضية التي شاركت فيها بجهد متواضع في كلا الأمرين السابقين، أنّ أمر النقد قد اختلط على الكثير، بل على الغالب من كتابنا وباحثينا ومسؤولي التحرير، فلم يفرق كثير منهم بين النقد الهادئ البناء وبين نقد "الطبطبة" أو النقد "الحنيّن" حسب التعبير المصريّ الدارج!

      وقبل أن أقول في هذا الأمر قولاً، أود أن أقرر أن النقد صورة من صور المقاومة لا يختلف عنها، ويتشكّل، كما تتشكل المقاومة، حسب درجة الهجوم ونوعيته. وقد قال شوقي:

      والشرّ إن تلقَه بالخيرِ ضقتَ بهِ
        ذرعاً وإن تلقه بالشرّ ينحسمِ

      بل إن هذا ما قرره القرآن الكريم في قوله تعالى: "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان" يعنى لزوماً، حسب مفهوم المخالفة، وليس جزاء الإساءة إلا الإساءة.

      فكلّ صورة من صور الهجوم لها ما يناسبها من صور المقاومة، ولا يشك عاقلٌ اليوم أن المجتمع الإسلامي والثقافة الإسلامية بل وكل ما ينتمي للإسلام واقع تحت وطأة هجوم شرس لا يرحم، سواء بالقوى العسكرية أو الإقتصادية أو الفكرية، وهو كذلك أمر ليس فيه مجال لمجادل. ولو أنّ المقاومة العراقية مثلا تبنت كتابة المقال كردٍّ على الإحتلال لكان ذلك ضرباً من ضروب الخبال بلا جدال.

      والأمر أنّ منهج نقد "الطبطبة" قد نشأ نتيجة ضعف الأمة بشكل عام، وضعف أفرادها في مواجهة أي هجوم أو تهجّم من ناحية أخرى، والهجوم المتواصل يليّن من عزم الضحية ويوهن من قدرتها على المقاومة الجديّة الصائبة. ولكنّ الجادين من الدعاة والمسؤلين عن مواردها يجب أن ينتبهوا إلى ما يمكن أن ينشأ من ضرر نتيجة هذا التهادن الخائب في بيان الحق وتعرية الباطل بما يستحق.

      ثم نبيّن ما نقصد بنقد "الطبطبة"، وهو النقد الذي يستخدم فيه صاحبه كلمات لا تعرّى حقيقة المتهجم على دين الله كأن يذكر أنه مبتدع أو مدلّس أو كاذب حاقد مفترى، أو ما شابه من كلمات وُضعت لغة لتبيّن حقيقة المتهجم على ما هو عليه دون استحياء، إذ لم يستحى المتهجم على دين الله، بل دلّس وكذب وافترى وأراد بالإسلام وأهله شراً، فما علينا إن وصفناه بما يستحق، بل إن وصفه بأقل من صفاته هو تدليس في حدّ ذاته لا يصح من داعية أو باحث جادّ.

      وما يجب أن ينتبه اليه الدعاة والباحثون أنّ الأجيال الحاضرة اصبحت تعتمد أكثر ما تعتمد على السمع والرؤية في الأجهزة الإعلامية وشاشات المواقع لا على القراءة أو التحليل، وأصبح من الضروري اللازم أن يصاحبها الكاتب أو الباحث لا في شرح الحقائق وبيانها بل وفي استخلاص النتائج وتحديد الحق من الباطل بكل وضوح وبلا غبش.

      وأن يقوم داعية أو باحث بتناول مقال مضللٍ عادٍ أثيم دون أن يطلق عليه ما يستحق من صفات يوهم القارئ أن الأمر مجرد إختلاف في الرأي وأن كلا الكاتبين له وجهة نظر يعرضها وأنّ كليهما يستحق الإحترام والتقدير، وأنْ ليس للبدعة أو التدليس والكذب وخيانة الله ورسوله محلٌ بينهما، وفي هذا ما فيه من خطأٌ وتزييف. والحق أن يبين الكاتب أو الباحث حقيقة ما عليه المبتدع الضاّل بأن يسميه باسمه، والإسم له نصيب من حقيقة الشخص نفسه وجزء من تكوينه لا يجب أن تُغفل، وتسمية الأشياء بأسمائها شرع يمنع من التضليل والتحريف.

      وأكاد أسمع عدداّ من الكتاب والباحثين ورؤساء التحرير الذين اعتادت أقلامهم الحذف والقصّ إن مرت على وصف ببدعة أو ضلال أو كذب وتدليس، أكاد أسمع قولهم: وما علينا من هذا اللون من الكلام، ونحن نقرر الحق بعينه ونرد على الباطل ونبين زيفه، ما علينا أن نقرر أن صاحب الباطل مُبطلٌ وأن صاحب البدعة مُبتدعٌ وأنّ من دلّس هو مدلّسٌ؟ والحديث الطيب أطيب وأنفذ إلى القلوب من الحديث الفظّ الغليظ، ولا حاجة إلى تنفير القارئ من المقال بمثل هذه الكلمات التي قد يتصورها تعدياً وتجنياً. نعم، هذا مجمل ما يردده أصحاب "الطبطبة" وأهل "النقد الحنيّن" ليصفوا لهم ما أرادوا من منهج.

      وقد يظهر هذا المنهج للوهلة الأولي منهجاً صواباً رقيقاً هيناً ليّناً، ولكن دعونا ننظر فيما وراء هذه الإدعاءات من حق. فإن حذف الحق ومداراته لا تسمى ليناً وهوادة، كما أن بيان حقيقة المخادع وتسميته بما هو عليه ليس غلظة وشدّة، هذا من سبيل تحريف الكلم عن مواضعه، هذه واحدة، ثم الأخرى أنّ الغلظة والشدة مطلوبان كما أنّ اللين والهوادة مطلوبان كلّ في مجاله ومناطه، وأن نَخلُف الأمر ونقلبه على عقبه بأن نستخدم اللين والهوادة محلّ الغلظة والشدة هو خطأ شرعيّ يحاسب عليه فاعله، فإن الله سبحانه حين وصف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن وبيّن طريقة تعاملهم مع الغير من صنفيّ الناس قال: "أشداء على الكفار رحماء بينهم"، فالشدة تكون على من خرج على دين الله ونافق وابتدع، واللين يكون منهجاً سوياً حين يتناول من أخطأ أو اختلف في الرأي ممن يحب الله ورسوله من أصحاب المذهب السويّ، وهو مقتضى قوله تعالى: "رحماء بينهم" وأهل البدعة والنفاق والكفر ليسوا ممن يقال عنهم "بينهم" بأي شكل من الأشكال. كما قال تعالى: "جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم" فالغلظة منهج له محلّه حين يكون الخصم متعدياً على دين الله قاصدٌ لهدمه، وقل لي بالله عليك: ماذا ترى في مثل "جمال البنا" الذي حرّف ودلّس وبدّل وأنكر معلوماً من الدين بالضرورة وأنكر الحدود وغيّر الشرع، أيصلح له أن يردّ عليه رادّ أو ينقده ناقد دون أن يبين للقارئ أن هذا الزنديق المتعالم كافر مشرك منكر لحدود الله ومبدّل لدينه؟ أيصلح أن يكتب كاتب عن زندقته التي ينشرها على الناس دون أن يبين لهم حقيقته واضحة صريحة أن ينعته بصفاته التي سيلقى الله عليها؟ هذا وإلا ظهر وكأن الأمر أمر اختلاف في الرأي وتباين في وجهات النظر لا غير! والكلام الطيب أوقع وأنفذ للقلوب لا جدال في ذلك، ولكن، ألا ترى أن صرخات هؤلاء المهووسين من أعداء دين الله وسنة نبيه يجب أن تعلو عليها أصوات الحق وأن قعقعة السيوف إن علت دلّت على شدة المقاومة وشراستها.

      وفارق بين ما نقرر هنا وبين ما ابتدعه المدخليّ وأتباعه من أدعياء السلفية ومزيفيها، الذين يتهجمون على علماء الأمة الأبرار بلسان مقذع كاذب، إذ إننا نتحدّث عن أمثال طه جابر علواني وجمال البنا ومن هم على شاكلتهم من أهل البدعة والضلال.

      بالله عليكم، كفى هذه الأمة ضعفاً وهواناً، كفى هذه الأمة انحناءاً و"طبطبةً" وحناناً على من لا يستحق الحنان، ورحم الله شيخنا وشيخ العربية العلامة الإمام "محمود شاكر" فقد كان علماً على أسلوب النقد الجادّ فيما كتب عن الخبيث الخسيس شرلتان زمانه "لويس عوض"[1].

      وحتى نتبع القول بالعمل والتلميح بالتصريح نعرض قطعة لإمامنا محمود شاكر في حديثه عن رجل ممن باع ذمته للإنجليز في قضية فصل مصر عن السودان، واسمه يعقوب عثمان، حيث كنى عنه بالببغاء ونعته بما فيه من كذب وجرأة على الحق وبيع للذمة والعمالة، ولا نملك إلا أن نتحسر على ما بقي فينا من رجولة جريئة تعرف مواضع النقد الهادئ ومواطن "الطبطبة"

      يقول شيخنا " فهذه الببغاء تجمع إلى نقيصة الترديد والتقليد نقائص كلّ واحجة منها شرّ من الأخرى هي الجهل بمعنى ما يقول، والكذب على أهل السودان، والجرأة في التهجم على الناس، بما ليس بعلم، والتدليس في التاريخ، والعبث بمصير أمته المصرية السودانية، وشرّهن جميعاً ما يلوح في خبئ كلامه من العداوة والبغيضة التي يؤرثها هو والمستأجرون من أمثاله بين مصر والسودان" الرسالة سنة 14 العدد 704 ص1435.

       

      [1] انظر "أباطيل وأسمار"