فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      حديثُ العقلِ والقلبِ .. مع الشَيخ عبد المجيد الشاذليّ

      الحمد لله والصّلاة والسّلام على رَسول الله صلى الله عليه وسلم

      لا يَخفى على من تردّد على موقعنا هذا، ومن عرف بعضاً من تاريخِنا المتواضع في الدعوة خلال الأربعين عاماً السالفة، ما بيني وبين الشيخ الفاضل العالم العامل عبد المجيد الشاذلي، حفظه الله. كلُّ الودّ وكل الحبّ وكل الإحترام والتقدير. والشيخ، بارك الله في عمره، غَنيّ عن أن أعرّف به، فقدره معلوم، تقبل الله منا ومنه، فهو وليّ ذلك والقادرُ عليه.

      وقد حَدَثت، في الأيام الأخيرة في مصر من الحادثات ما طاشت بها عقول، وتلوّنت بها جلود، ونضحت بما فيها نفوس، فسبحان مقلب القلوب. وكانت الصفة الثابتة في هذه الأحداث هي الضّبابية والتغير الدائم المستمر، الذي يستدعى فطنة ليست كَكُل فطنة، ووَعياً ليس ككّل وعي، وحِرصاً على المبادئ والثوابت ليس كَكّل حرص، إذ المنزلق خطير، والطرق متشعبة، والمُنجِّى هو الله سبحانه، وإتباع منهجه، لا غيره.

      وقد وقعت أحداث 25 يناير، والتي استبشرنا بها خيراً، ورأينا بدايات تحولٍ، اجتهدنا فيها، وقتها، أنه يصِحّ أن يدخل المسلمون ساعتها في معترك صراع الصناديق، بشروطها، وأنه لا يحل أن يُترك المجالُ مفتوحاً أمام العلمانيين والمتآمرين والفسدة الضالين، أن يتحكموا في البلاد، من باب أن التغيير السلميّ، إن قدرنا عليه، أولى من الحرب، وأنّ تجنب الهلاك وقتل الأنفس وإضاعة الثمر غرضٌ أصيلٌ في الشريعة، لا يصح العدول عنه إلا في حال العجز. كما بيّت أننى أتحدث أصالة عن الإستفتاء، لا عن المشاركة النيابية، قلت "فأن يشاع أن الإستفتاء السَالف الذكر هو شِركٌ لا يجب الدخول فيه، هو قول يدلّ على سَطحية في النظر نخشى على قائليها ومروّجيها من التطرّف المُردى، وإتباع النظر القاصر، والسَير وراء مظهر التشدّد الذي عادة ما يناسبُ الروح الشبابية." "مقال مقاصد الشريعة ...والتجديد السني المعاصر- 2" . وكان مما رأيته شخصياً وقتها أن نتريّث في مسألة التحليل والتحريم بشأن الإنتخابات، لضبابية الموقف، قلت ما نصه "أما عن تأييدى للدخول في البرلمان الجديد، فهذا يتوقفُ على ما سيكون عليه الوضع التشريعي وقتها، ولكل حادث حديث" مقال "مقاصد الشريعة ...والتجديد السني المعاصر- 4" ، المنشور في 24 مارس 2011 .

      على هذا نَصَحنا الشباب، بأن المناط ساعتها ليس مناط قبل 25 يناير، وإن خالفنا في ذلك فضلاءٌ من باب الإجتهاد والنظر.

      ثم، مرّت شهورٌ كأنها دهور، وظهر من العسكر ما كان خافياً عن عيون من لم يسترشد بالهَدْى النبوي، وحَلّ الإفصاح محل الإضمار، وبدت نياتهم أوضح من الشمس في رائعة النهار. العَسكرُ يَمكرون، ولا ينوون تسليم السلطة لأي أحدٍ، إلا لمن يختارون على أعينهم، وعلى أعين الصليبيين والصهاينة من قبلهم. هذا أمرٌ مسلمٌ به. إذا ما هو الحل، وما هي طبيعة المناط اليوم؟

      وقد كتبت في هذا الأمر عدة مقالات، بينت فيها أن المناطات قد تتبدل بشكلٍ يوميّ، وهو ما لا غرابة فيه، وأن من ثَبُت على قولٍ، مع تبدّل المناط أخطأ فيه، وإن أصاب الحق لاحقاً.

      وقد أرسل إلى عدد من الإخوة بأن الشيخ الحبيب قد شجع الشباب على المشاركة السياسية، وعلى التصويت لصالح الإخوان! ولعلمى بفضل الشيخ الحبيب، انتهزت فرصة العيد واتصلت به أطمئن على صحته، واسأله عن آخر أقواله، من أمر هذا القول الذي جاءنى به أخوة النت!

      وكان أن اطمأننت علي الشيخ الحبيب بحمدِ الله تعالى، ثم دار بيننا حديث ممتع شائقٌ طويلٌ، حاول فيه كلّ منا أن يشرَح وجهة نظره لأخيه، ويفسر ما نُقل عنه. فإن آفة الوفاق عدم الصبر على الفهم، ومصدر الخلاف التسرع فيه. وسأحاول أن أنقل للقارئ ما يوضح وجهتى النظر، اللتين أراهما تدوران في فلكٍ يتسع لمسافة إجتهاد ووجهات نظر، تثرى الواقع وتنفى وهم الشقاق.

      يرى الشيخ الحبيب الشاذليّ أنّ العمل السياسيّ، اليوم، بعد 25 يناير، لا ينطلق من نفس مسلماته قبلها، حيث كان ذلك العمل ينطلق من مشاركة لا مُغالبة. والمعنى هو أن المشاركين، إخواناً وغير إخوان، كانوا متوافقين على التسليم بإقصاء شرع الله، والرضا بالعمل تحت مظلة الكفر، وهو ما قاله عدد من مرشديهم كعمر التلمسانيّ، من أنهم يعملون من داخل النظام، لا من خارجه. أما اليوم، فإن هناك ثورة قامت، لا جدال في أنها غيّرت أوضاعاً وأنهت مرحلة بكاملها في تاريخ مصر الحديث، وآذنت ببدء مرحلة أخرى، للمسلمين فيها قدرٌ أرحب وإمكانية أوسع للحركة والتأثير، لا كما كانوا من قبل. فأن تُترك هذه الفَسحة، تحت أي بابٍ من أبواب المظاهر الشرعية التى لا ترقى إلى رتبة الحاجيات، كمسميات لأحزاب أو أشكال تجمعات، بله الضرورات، لهو خطأ وإغفالٌ لإمكانية متاحة يجب إستغلالها، لدفع العدو الكافر وعدم تمكينه من السيطرة وحده، ليبيع مصر كلها بصفقة خاسرة. فالغطاء السياسيّ لأي عمل إسلاميّ هو ضرورة، كما يرى الشيخ الحبيب، لابد من مراعاتها واستغلالها، بدلاّ من العودة إلى التقوقع والتمحور ثم التحجر، حيث سيعمل العدو بسياسة الإقصاء ثم الاستئصال. وضرب مثلاً بحزب الله (سياسياً لا عقدياً)، أو بحكومة حماس، على ما فيهما من مَسالب، أنهما غطاءٌ سياسيٌ للحركة في كافة الإتجاهات الأخرى، دعوية وشعبية، أو غير ذلك من توجهات.

      ثم إنّي، بينت للشيخ الحبيب ما قصدته في مقالاتي العديدة، التي صدّعت بها عقول القراء منذ أشهر قليلةٍ، بعد أن تبين ما تبين من موقف العسكر، ولم يعد هناك ظنٌ، ولو مرجوحٌ، في توجّههم للإستيلاء على السُلطة، واتخاذ جزرة الإنتخابات ذريعة لتطويل مدة بقائهم في الحكم، وإخراج ما يخرجون به من ألاعيب الحواة، حتى يتمكنوا من السيطرة على الحكم، وإملاء الشرعية العلمانية العسكرية، كما سَطرها لهم على السلميّ، عدو الله والناس.

      قلت للشيخ الحبيب الفاضل، حفظه الله، أنّ الأمر لم يعد أمر حديثٍ في شرعية انتخابات، أو رسم سياساتٍ لغطاء سياسيّ، أو غير ذلك. إن محل ذلك قد تجاوزناه منذ يوليو الماضى، وها هي فرصة التمكين، الذي أرى أنه مقدور بإذن الله لو تجمعت عليه الكلمة، وخلع الإسلاميون لباس التَمسّح والمَسكنة. أرى هذه الفرصة تتفلّت من بين أيدينا، وأن الحديث عن الإنتخابات، أو شرعيتها، أو أيّ عمل سياسيّ سواءا كغطاءٍ أو غيره، يجب أن يتوقف اليوم، وأن يَنصبّ الوقت والجهد والفكر والتوجيه إلى الخروج إلى الشارع، في تظاهرة سلمية، إلا إن أراد لها أعداء الشعب غير ذلك، لا يعود منها الناس إلا وقد تَخَلى العسكر عن السلطة بما لا يدع مجالاً لتسويف أو مُماطلة. هذا ما يجب أن يكون محل الدعوة اليوم. وأيّ حديث في أي أمر آخر، هو صرفٌ لنظرِ الناس عن الأهم إلى المهم. لامجال اليوم للحديث عن أية استراتيجيات أو تنظيراتٍ لما قد يأتي بعد شهرٍ من الآن، أو لا يأتي.. اليوم يجب أن يحدث ما يُبعد الخطر القريب، لا ما يؤسس لتلافي الخطر البعيد. الآن حديث الثورة الشعبية لا حديث السياسة بأي درجاتها.

      وقد ذكر الشيخ الحبيب أنه يرى أن الأمر لا يتعدى الخلاف الإصطلاحيّ، فإن العمل السياسي الذي يُحَبّذه ويدعو له، يحمل كذلك معاني العمل الشعبيّ الثورى السلميّ ضمن المنظومة السياسية العامة، وهو يوافق على هذا الأمر تمام الموافقة، من ضرورة أن يُسلم العسكر الحكم إلى المدنيين. وضرب مثلاً بليبيا التي لمّا خلا الميدان فيها من عاملين بالسياسة، امتلأ المجلس الإنتقاليّ بالعلمانيين، وسيطروا بغالبية علي التوجّه الليبي، ووضعوا ليبيا مؤخراً تحت وصاية خمسة عشر دولة تُشرف على حكمها.

      وكان من رأي الشيخ الفاضل أنه حتى لو أتى العَسكر بنظام يلبس عباءة العلمانية، فإنه لا يصح أن يُخلى المسلمون الساحة للعلمانيين مرة واحدة. كما يرى أنّ الفارق بين هذه الإباحة، وبين التحريم في مناط ما قبل 25 يناير هو من باب أن التحريم، كان لما يعترى القصد في المشاركة من قالب شركيّ، أما ما يحاوله المسلمون اليوم فهو من قالب مدافعة المقدور عليه، وعدم الإستسلام له، وشتان بين القصدين. وفي كلتا الحالين، فإن الإعراض عن حكم الله كفر من الحاكم المعرض ومن الرعية التي ترضاه دون إنكار.

      ثم إني، عدت مرة أخرى إلى النقطة التي أردت أن أوصلها إلى الشيخ الحبيب، أن مجرد الحديث في هذا الأمر هو لعبة من العسكر لصرف الأنظار والجهود. وأنه حين يحين الحين، وتتبلور النتيجة، إما لصالح الإسلام والمسلمين، فلا يكون هناك خلاف في شرعية العمل السياسيّ وضرورته، أو في تغلب العسكر وجند العلمانية، فإن محاولة الإجتهاد الآن في ذلك المناط لا محل لها إلا أن يقع هذا المناط، وساعتها يكون لكل مقامٍ مقال، إذ لا أحب أن أضع حلولاً لمشكلات ليس قائمة بعد، كما تعلمنا من السلف الصالح. والأمر أن الإسلاميين اليوم قد أعرضوا عن المُتاح، وهو الخروج لفرض إرادة الشعب والأغلبية، إلى الحديث عن الإنتخابات والقوائم والمنصات، وعن المرشحين والمرشحات! ونسوا أنّ الوقت الآن للعمل الشعبيّ الثورى، لا غدا ولا بعد غدٍ،، إن أردنا أن نتجنب السيناريو الثاني، حيث يفرض العسكر رأيه، ونقع، رغماً عنا في حيص بيص، وننقسم ساعتها إلى مُوالٍ للعمل السياسيّ ومخالف له، وتعود الكرّة إلى ما كنا فيه...

      الأمر إذا أنّ الشيخ الحبيب يتحدث عن مآلٍ للأمور يرى أنه يجب علينا أن لا نَفضّ أنفسنا من التعامل معها، إذ الأمر أمر الأمة، وأمر بقائها، والعدو على استعدادٍ للإجهاز عليها، فعلينا أن ندفع بالممكن، ويقع الذنب على من دافع الحق، وهو نظر دقيق سديد.

      أما عن نفسى، فقد بيّنتُ أننى لستُ على استعدادٍ للحديث عن هذه الأمور في الوقت الراهن ولا الإجتهاد فيها، إلى أن تضيع الفرصة بالمرة في أن يتم التغيير بأي شكلٍ كان، بل ولا أحب أن أساهم ولو بكلمة في إتجاه الإنتخابات والعمل السياسيّ، حتى لا أكون معيناً على إضاعة الفرصة الأخيرة بشكل ما. وما أحسب إلا أن الثورةَ الشعبيةَ هي الطريقُ الوحيد للتغيير الحقيقيّ، لا طريق غيرها، فإن ما أُخذ بالقوة، لن يُسترَدّ إلا بالقوة، قوة الإرادة الشعبية والعِصيان الجَماهيريّ، وموعدنا 18 نوفمبر بعون الله تعالى.

      ثم انتهينا من الحديث، واطمأننت على الشيخ، واطمأن عَليّ، وافترقنا على وعد اللقاء.

      أدعو الشباب إلى التريّث في الحكم على ظاهر الأقوال، فإن الشيخ عبد المجيد الشاذليّ ليس بالحُوينيّ ولا بمحمد حسان، حاشا لله، لا في الماضى ولا في الحاضر. ولا يعرفه أحد معرفتى به، منذ منتصف السبعينيات، حين كنّا نُنفق أياماً متتالية في منزلٍ لا نبرح عاكفين فيه على الدرس والبحث في الشريعة أياماً عديدة متواصلة، بلا كلل ولا ملل. والشيخ الجليل أبعد نظراً مما يظن كثير من الشباب الذين تسرّعوا بالهجوم عليه.

      والحق أننى لم أتحدث الي الشيخ في موضوع التصويت للإخوان بالذات، إذ، كما ذكرت، لا أريد أن أخلط الحاضر العاجل بالمستقبل الآجل، فليس في منطقى، في هذا الوقت، محلٌ لتناول موضوع الإنتخابات أصلاً. أما الإخوان، فرأيى فيهم معروفٌ لا يحتاج إلى إعادة. فإن هؤلاء يمنعهم حديث المشاركة السياسية عن الخروج للوقوف في وجه الطغيان ابتداءاً لا تكتيكاً، وهم يحسبون أنّهم مهتدون!

      لا شكّ عند عاقلٍ أن هناك تغيرٌ حدث في المنظومة السياسية المصرية ككل. ولا شكّ أن هناك فرصة أفضل للإسلاميين، من أصحاب منهج أهل السنة لا الوسطية العلمانية-الإسلامية، أن يستغلوها، وأن لا يتركوها نهباً للكفار، يعيثون في الأرض فساداّ. لكت يجب ألا ننسى، أو نتنَاسى، أن هذه الفُرصَة لا تزال ضئيلة، وأن أعداء الإسلام لا يزالون يسيطرون على مقاليد النظام، ويحاربون كل تغيير نحو الأفضل، شراً وعلناً، مما يعرقل أصلاً كل محاولة لاستغلال هذه  الفرصة. فمن المعقول الأصح أن يتوجه الجهد حالياً إلى أمر واحد، وهو إزاحة العائق الرئيس، وهو الحكم العسكريّ، من مكانه في السلطة، حتى تصبح الفرصة حَقيقيةٌ مُواتية، لا مَوهومة أو مُولّية.

      أرى، والله وكيلى، أن ما قدّم الشيخ الجليل من أسباب، تليق أن تكون مما يمكن لمجتهدٍ أن يأخذ بها في محلها، يوم يقع مناطها، إذ فيها إعتبارُ الواقع والنظر فيما يحيط بمصر من مخاطر قد لا يُدركها المُتسرع. وحتى لو اختلفنا معه في توقيت الحوار، أو في الإجتهاد في هذا الأمر، بهذا الحجم، وعلى هذه الصورة، كما قلت في مقالٍ سابقٍ لي، فهذا، بهذه الكيفية "أمرٌ ليس فيه تكفيرٌ أوتبديعٌ أو تفسيق" بل هو أمرٌ إجتهاديّ مَحض. ثم الشيخ أولاً وأخيراً، كسائر العلماء الأكابر في هذا المجال، ممن يُؤخذ من كلامه ويُترك، وممن تقال عَثراتهم بلا جِدال. بَارك الله في عمره، ونفع به.

      وما دوّنت هذا الحديث إلا لأنقل هذه الصُورة للشباب عسى أن يكون فيها إثراء للواقع وتوسيع لدائرة الحديث، ووفاء للشيخ الجليل، حفظه الله.

      وفقنا الله للعمل على نصرة دينه ونشر سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

      9 نوفمبر 2011