الحمد لله والصّلاة والسّلام على رَسول الله صلى الله عليه وسلم
والله، أصدقكم القول، قد سئمتُ من الحديث عن السياسة، وعن محاورها ومحاوريها، وتلافيفها وألاعيبها، فإن حسّ المسلم لا يقدر على أن يعايش طويلاً هذه التلافيف، يحاول فكّ طلاسمها، وتفكيك تراكيبها، كأنه في لعبة الدهاليز الخفية، لا يكاد يظن أنه وجد مخرجاً إلا وجده مؤدياً إلى متاهة أخرى.
على كل حال، هذه ضريبة الحديث في شؤون المسلمين، وهي أقل القليل من الذي يجب علينا تجاه هذاالدين، وتجاه إخواننا وأبناءنا من المسلمين، وهو واجبٌ وتكليف، لا مكرمة وتشريف.
سأتحدث في مقالي هذا إلى الشباب، مُبيناً أمراً قد يخفى على البعض، وهو أن هناك طريقان لنصرة الحق، وإظهاره، في أي موضوعٍ كان، وعلى أي مستوى وقع. أحدهما، وهو الأسلم، أن يتحدث المرء بالحقّ، يبينه ويشرحه ويُأصّله، ثم لا يتحدث عن الباطل، ولا يبين عواره، ويكشف أهله، ولا يبين أخطاءهم. والطريق الثاني، وهو الأكمل، الذي يتحدث فيه المرء بالحقّ، يبينه ويشرحه ويُأصّله، ثم يقرن ذلك بالواقع سلباً وإيجاباً، فيتحدّث عمن هم من أهل الحق، ليمدحهم ويعضّدهم، ويبين من هم على الباطل، أو على باطلٍ، فيُظهر خَطأهم، عَياناً بياناً، ويحذّر من إتباعهم في هذا الباطل تحديداً.
طريقان مختلفان، وإن تشابها واختلط أمرهما على البعض. فالأول وإن بدا إيجابيّ، إلا إنه، عند التأمل، سلبيٌّ، يهمل شطر الحق، وهو التعريف بالباطل والإشارة اليه بالبنان. والثاني، وإن بدا سلبيّ، فهو في حقيقته إيجابيّ، من حيث إنه يبين بياناً الحق بياناً كاملاً، فالنهار لا يُعرف إلا بالليل، والأبيض لا يعرف إلا بالأسود، والخيرُ لا يُعرف إلا بالشر.
قد يقول قائل، ولكنّ التعريف بالخير، يستتبع، عند القارئ، معرفة أصحابه، وتحديد من هم ليسوا من أهله، دون الحاجة إلى ذكرهم. قلنا، هذا حقٌ ممكن، بالنسبة إلى القلة القليلة من القراء، إلا أنه من المعروف أن الكثير من القراء، يحتاجون العون والمثال، لتتضح الفكرة وتتميز في أذهانهم، بل أمام أعينهم. فإننا عرفنا أن عملية الإنتقال من المثال إلى الحقيقة الواقعة، أو من الكليّ العام إلى الجزئي الخاص، هي عملية ذهنية تحتاج إلى مران ودربةٍ، لا يحوزها كلّ قارئ.
ثم، إن الله سبحانه قد إعتمد هذا الطريق الثاني في كتابه، فعرّف بالمبطلين اسماً، كفرعون وهامان وقارون وكثيرٌ غيرهم، مع اعترفنا بأن هؤلاء على الكفر الذي يترفع عنه من نحن بصدد الحديث عنهم في مجال الدعوة، لكن المبدأ لا يتبدلّ، وهو ما أثبته الله سبحانه في القرآن في قوله تعالى "وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلْءَايَـٰتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ٱلْمُجْرِمِينَ" الأنعام 55 فحضّ على بيان سبيل الباطل، وقال "حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ" آل عمران 179" فانتقل من بيان السبيل إلى بيان صاحب السبيل تحديداً وتمييزاً.
وقد يقول قائلٌ آخر، لكنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين تحدث عمن يرتكب باطلاً، قال "ما بال أقوام ..يفعلون كذا وكذا"، فتحاشى ذكر أسمائهم، قلنا، نعم، لأن هؤلاء فعلوا ما فعلوا في الخفاء، لا يعلنونه، ولا يدعون إلى العمل به، ولا ينهون عن العمل بما هو ضده، وهو فارق شاسعٌ بيّنٌ عميق! فإن من فعل باطلاً، بينه وبين ربه، أو مع مجموعة محدودة من الناس، منغلقة على نفسها، لم يصحٌ إعلان شخصه على الإطلاق، بل يكون هذا من خلاف السنة، ومن الإثم البيّن كذلك. إلا أن الأمر يختلف إختلافاً تاماً، حين يتعلق بموضوع عامٍ يهم شؤون المسلمين، ويتحدث فيه المتحدث علناً، ويدعو اليه، وينهى عن غيره. هنالك يصبح التعامل معه بحيث يُكشف أمره، ويوقف ضرره. وهو أشبه بما دلتنا عليه أعمال السلف في العلاقة مع صاحب البدعة وناشرها، إلا إن هذا الأمر وإن كان ليس ببدعةٍ عقدية، في بعض الأحيان على كل حال، إلا إنه إثمٌ وباطلٌ يؤدى إلى الضرر العام، فالوسيلة التي دلنا عليها السلف في التعامل مع ناشر البدعة، هي ما يجب اتباعه مع ناشِر الضّرر والباطل، وإن لم يكن بدعة.
وقد أتفق مع بعض الآراء التي ترى أنه يجب خَفض سقف التحذير من هؤلاء، بتحرّى استخدام ألفاظٍ أقل حدة من "العمالة" أو المداهنة" وأشباههما. وهو صحيحٌ، مع التحفظ على أمر قد لا يدركه القائل للوهلة الأولى. فإن الألفاظ الشرعية كالمداهنة والملاينة واتبّاع السلاطين، هي الفاظ لا يجب الدعوة إلى تجنبها ابتداءاً لإستخدام الشرع لها، واستخدام السلف لها. أما عن "العمالة"، فإنها تعنى العمل لصالح جهة معينة، سواءاً بأجرٍ أو دون أجر، وسواءاً بقصدٍ أو دون قصد. فقد يتلاقى باطلٌ يدعو اليه داعية، مع صالح النظام القائم، دون قصده إلى خدمة النظام، وهذا يعتبر عمالة إضافية لا حقيقية.
ثمّ إن أهل السنة يتحَاكمون إلى قَاعدةٍ كليةٍ عامةٍ ، بل هي قاعدة القواعد في شَرعنا الحنيف، وهي "العمل بالظاهر" كما دلّ عليه حديث أسامة رضى الله عنه. فإن ظاهر أقوال هؤلاء ممن يدْعون إلى باطلٍ من القول والعمل، واضحٌ صريحٌ، ولا دخل لنا بما قد يكون، أو يُحتمل، من كلامهم، فهم قد قالوه مرة وأعادوه مرات، ثم لم يبيّنوا قصداً غير ما هو من ظاهر الحديث، وليس للمسلم أن يتأول الأقوال بالممكن والمُحتمل، إلا إن تعذّر على القائل البيان، وهو ما ليست في حالة أولئك الذين يدعون إلى باطلٍ ليلاً ونهاراً، كاحترام المجلس العسكريّ والثقة فيه، وضرورة الخضوع لأحكامه وقراراته، وعدم مجابهته، ثم يعتذر تابعيهم عنهم، بأنهم قد يقصدون كذا، وممكن أنهم يقصدون ذاك! فإن هذا مما هو في السرائر التي لا نتعامل معها، بل الله سبحانه يتولاها. ولو أنهم برروا قولهم هذا بالتقية ودفع الضرر عن أنفسهم، لقلنا "ضعف نفسٍ" لا أكثر، لكن هؤلاء تركوا أقوالهم مرسلة، مخذّلة، ودعوا اتباعهم إلى الركون إلى الذين ظلموا صراحة، وتركوا المخلصين من المسلمين الصادقين يجابهون الطغيان، بلا نصرة ولا ولاء. عارٌ ما بعده عار.
ثم، أليس كافياً ما عشناه من ظواهر التطبيل والطبطة والرقة والتلاين، وآن أوان أن تؤخذ الأمور بقوة، وأن يبتعد، ولو بعض الدعاة، عن هذه الوسائل التي قد تصحٌ في مناطات أُخر، وأن يقوم بعضهم بواجب النذير العريان، سلباً وإيجاباً، وأن نحاكم الدعاة إلى ما يقولون، لا إلى ما نظُن أنهم يقصدون!
ونحن والله نحب كلّ من دعا إلى الله صادقاً، وعلّم آية من كتاب الله، أو حديثاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لكننا يالتساوى والتوازى، نَكرهُ عَمل المُخذّلين والمُثبّطين، والذين يذرعون الخشية وفلسفة الركون إلى الظلم بين الشباب، مهما كانت دوافعهم.
ووالله ما دفعنى إلى هذا الحديث إلى الشباب إلا الحاجة إلى التذكير، وإلا الدعوة إلى دقة الفهم، وتحديد المواقف، وعدم الإنصياع وراء أقوالٍ تضر ولا تنفع، من حيث يظهر إنها تنفع ولا تضر.
والله ولى التوفيق