فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      الحركة الإسلامية بين جوهر الكمال وعوارض النقص (3)

      لا يسعنا أن نستأنف ما بدأناه دون أن نتخلص من ذلك الإزعاج الجانبي الذي قد تسببه مقولة استدعاء التاريخ الإسلامي وإحياء التراث كآلية للصراع مع الغرب، وما تتضمنه تلك العبارة من أمور منها: أننا استبدلنا مفهوم نسبي أرضي هو "المواجهة مع الغرب" بمفاهيم مطلقة سماوية مثل: إظهار الحق وهداية الناس وإعلاء كلمة الله. ومنها أننا زعمنا أن توجهنا هو توجه نحو التاريخ وليس نحو الله، وأن وجود الله في تاريخنا هو أمر عارض على حركتنا نحوه. ومنها أننا فسرنا التوجه نحو التاريخ على أنه تصرف غريزي غير واع، وأن ذلك يتعارض مع صدقنا مع ذاتنا، إذ كيف يكون صادقا من لا يعي دوافعه.

      لا يمس حقيقة الإيمان أن يكون ضرورة نفعية للمواجهة الحضارية.

      المسألة الأولى وهي أن قولنا يتضمن تشكيكا في مقاصد مطلقة سماوية زعمتها الحركة الإسلامية كأساس لوجودها، مثل مفاهيم إظهار الحق وهداية الناس وإعلاء كلمة الله. وأننا نزعم في مقابل ذلك بأن الأساس الحقيقي هو مسألة المواجهة مع الغرب؛ فهذا فهم خاطئ بلا شك، إذ نحن لا نستبدل مقاصد نسبية نفعية أرضية بمفاهيم مطلقة أخلاقية سماوية، بل نؤكد على ارتباطهما معا بذلك الرباط الذي يجمع بين الغاية والوسيلة.  

      الألوهية كمقصد سماوي مطلق، وكل ما يتعلق بها من مفاهيم مثل هداية الناس إليها أو إخضاع الناس لها، لا توجد في عالم الإنسان مجردة من الجانب النفعي النسبي الجزئي، والذي هو غاية الإنسان من إيمانه الذي هو وسيلة له، والجانب النفعي للإيمان متفق عليه بين الله والإنسان في ميثاق الفطرة، كما أنه متفق عليه بين الله والإنسان كجزاء أخروي، كما أنه وعد إلهي للمؤمنين بالتمكين في الأرض والرخاء في العيش والأمن من الخوف والجوع. "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً". فالجانب النفعي في الهداية جزء لا ينفصل عنها.

      لا يمس حقيقة الإيمان أن يكون عارِض على حركتنا نحو التاريخ.

      وكما أن الجانب النفعي في الهداية هو أحد جوانبها ولا يقدح في صدق قبولها، فكذلك الجانب العَرَضي للهداية هو من طبيعتها وأمر كامن فيها، وهذا رد على أولئك يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، ويزعمون لأنفسهم فضل التوجه إلى الله عن اختيار مطلق منهم وليس عن تدخل إلهي، فتراهم لأجل وهمهم هذا يستغربون أن تكون الحركة الإسلامية هي حركة جماعية نحو التاريخ وأنها قد اكتسبت صبغتها الإسلامية لما وجدت الله في التاريخ.

      لقد عَرَضت لنا الهداية في تاريخنا دون أن نقصد إليه رأسا، تماما كما عرضت الهداية لموسى عند جبل الطور، وكما عرضت لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في غار حراء. الهداية عارضة على الوجود بشكل عام باعتبار مصدرها الإلهي ابتداءا، وباعتبار عدم استحقاق الوجود لها بالأصالة، "قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى"، وعلى لسان موسى: "قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى"، فهي نعمة إلهية محضة أن يكون تاريخنا ممتلئ بقيم الإيمان، فعلينا أن نشكر الله تعالى على تلك النعمة، وأن نكف عن الإصرار على أن توجهنا نحو الله هو اختيار بدأناه نحن، وأن نعلم أن الهداية ليست عارضة على الجيل الحالي للأمة الإسلامية والتي نمثله نحن، بل هي عارضة على كل جيل من أجيال تلك الأمة، فكل جيل هو تابع لما قبله بالغريزة، وواجد فيه الإيمان بالوضع الإلهي.

      لا يمس حقيقة الإيمان أن تكون بعض مقاصده النفعية منه غريزية وغير داخلة في إطار الوعي الجمعي.

      لقد تحدثنا عن ميثاق الفطرة وأن الجانب النفعي فيه لا يقدح في صدق الالتزام به، نضيف هنا أيضا إلى أن ميثاق الفطرة هو ميثاق مع الروح وقبل ظهور الوعي الإنساني، أي أن ميثاق الفطرة هو أول محتوى للّاوعي، فإذا كان الأمر كذلك، فخفاء بعض الجوانب النفعية للإيمان عن إدراك الإنسان هو أمر لا يقدح في صدق الإنسان في إيمانه على الإطلاق. وأنا أقصد بخفاء بعض الجوانب النفعية للإيمان: ما تحدثنا عنه من وظيفة إحياء التراث في المواجهة الحضارية.

      عودة إلى نمط الهروب (الظاهرة العلمانية) لاستيعاب فكرة النمط عموما.

      المعادلة الوحيدة التي يمكن من خلالها وضع كافة التيارات النفسية في نسق تفسيري شامل، هي أنها أنماط هروبية قد تخلَّقت داخل الحركة الإسلامية لحل أزمة صادمة لذلك النمط، تماما مثلما كان تخلُّق نمط المواجهة نفسه داخل الأمة هو أحد حلين لأزمة صادمة للأمة، وهما حلي المواجهة الهروب، أي أننا الآن نطرح فكرة "نمط داخل نمط"، أو على وجه الدقة: "أنماط هروبية داخل نمط المواجهة".

      ورغم أن الأزمة الصادمة للأمة والتي تخلقت عنها نمطي الهروب والمواجهة تختلف تماما عن الأزمة الصادمة لنمط المواجهة بعد تخلقه، ورغم أن أسلوب التكيف الهروبي في الحالة الثانية، والتي أسفرت عن تيارات إسلامية، قد اختلف إلى حد كبير، إلا أن الثابت في المرحلتين (أي مرحلة تخلق نمطي الهروب والمواجهة ثم مرحلة تخلق أنماط هروبية داخل نمط المواجهة ذاته) هو فكرة النمط نفسه؛ أي تلك الآلية اللاشعورية لحل أزمة جماعية.

      أعتقد إذا أن هناك سبب وجيه يدعونا للعودة إلى (نمط الهروب العلماني) لاستفراغ إمكانياته النظرية والتزود بكل ما يمكن التزود به من خبرة حول فكرة النمط بشكل عام، حتى نستطيع تناول (الأنماط المتخلقة داخل الحركة الإسلامية)، خاصة وأننا نعتقد أن معنى (الهروب) مشترك بينهما كما ذكرت. لقد استعنا قبل ذلك بالنمط الهروبي لاحراز تقدم في إدراك النمط (النقيض) له وهو نمط المواجهة، وإننا الآن نعاود الاستعانة به لفض مغاليق أنماط (شبيهة) به، وهي الأنماط الهروبية داخل الحركة الإسلامية.

       النمط النفسي رغم طبيعته غير الواعية إلا أنه لا يفتقر إلى القصدية والمكر.

      لقد ظفرنا بحقيقة هامة تتعلق بنمط الهروب العلماني، واستفدنا منها في تكوين فكرة عن النمط بشكل عام، وهي أن هذا النمط هو (غير واعي)، بمعنى أنك لن تجد علمانيا يبرر لك تبنيه لسخافات العلمانية بقوله: "إنني أشعر بالهزيمة النفسية تجاه الغرب، ولا بد أن أتخلص من قلق الهزيمة هذا، ووسيلتي في ذلك كانت هي تشويه صورة الغرب كخصم حضاري وتخيل أنه مثال ينبغي علي أن أحتذيه، فذلك يحول صورته من مصدر للخطر إلى مصدر للإلهام، ولا يعنيني في ذلك أن وسيلتي تلك هي وسيلة وهمية خيالية، كما لا يعنيني أن تلك الوسيلة تؤدي إلى ذوبان وجودي الأصيل". لن تجد علمانيا يقول لك ذلك بالطبع.

      نضيف هنا حقيقة هامة أيضا وهي أن نمط الهروب العلماني أنه رغم طبيعته غير الواعية، إلا أنه لا يفتقر إلى القصدية التي تجعله مدركا لوجوده، وحائزا لعقل خاص به، ومدبرا لحيل يقوم بها، ومستخدما لوسائل يحقق بها غايته. وأنه يستخدم الأفراد الواقعين تحت سطوته لتحقيق مآربه دون وعي أو إذن منهم.

      نموذج للقصدية: نمط الهروب يحافظ على وجوده بالنفور من نمط المواجهة.

      أنظر مثلا إلى ذلك النفور العلماني الزائد من الظاهرة الإسلامية، لن تجد له مبررا منطقيا يصمد للفحص، ولن ينجح في تفسيره سوى أن نمط الهروب يحافظ على وجوده بنفور بالغ فيه من النمط الذي يهدد وجوده، وهو نمط المواجهة، لأنهما حلان متناقضان لأزمة واحدة وهي أزمة الهيمنة الغربية.

      التكفير والعنف والاستعلاء وفكرة الدولة الدينية والتفكير الغيبي، هي خمس كروت حمراء تتربص بها العلمانية لكل وجود إسلامي، لكنك ستجدها كلها عند الفحص مزيفة، وأن أصل أحكام العلمانية ضد الظاهرة الإسلامية يعود إلى أمر مختلف عنها تماما، التكفير مثلا كقيمة دينية سالبة، ليس اختراعا إسلاميا، بل هو متوفر وبصرامة عند المسيحيين تجاه غيرهم، بل بين طوائف المسيحية بين بعضها البعض، ورغم ذلك فهو لم يمنع التقارب بين العلمانيين والأقباط في مصر، العلمانيون (هراطقة) من المنظور المسيحي، والهرطقة مصطلح مطابق تماما في دلالته لمصطلح الكفر. بل إنك ستدهش حين تلاحظ أن الصرامة وشدة الالتزام المسيحي في مسائل الهرطقة لا يقابلها إلا تراخيا إسلاميا مقصودا في أحكام الكفر، حتى لقد أوشك هذا التراخي على تهديد المفهوم ذاته كقيمة سلبية ضرورية لتحديد معالم أي دين، هذا إضافة إلى أن الحكم بالهرطقة في المسيحية _وكما هو معلوم_ يتجاوز الوصف الدنيوي إلى الجزم بمصير أخروي سيء للشخص المحكوم عليه، في حين أن أكثر الإسلاميين مبالغة في مسألة التكفير لا يجرؤ على التدخل في المصير الأخروي، بل ويعتبر ذلك نوعا من التطفل على مقام الألوهية، أي أن أحكام التكفير أقرب إلى المفهوم العلماني من أحكام الهرطقة. ويتضح من ذلك أن المسألة ليست مسألة التكفير، بل هي كراهية النمط الذي يستخدم هذا المفهوم.

      إننا لا ندعو إلى أن يتعايش العلمانيين مع أحكام التكفير كما تعايشوا مع أحكام الهرطقة، لكننا نحاكم العلمانية إلى منطقها ذاته، فإن كانت لا تولي قدرا كبيرا بالاهتمام بالأحكام الدينية من حيث المبدأ، فإننا نتشكك في أن تكون أحكام الكفر الصادرة من الإسلاميين هي المصدر الحقيقي للفزع من الإسلاميين. يؤكد ذلك أن الموقف الرافض للظاهرة الإسلامية كان قبل احتداد مسألة الكفر والإيمان عند الإسلاميين، ورغم محدودية انتشار الفئة المهتمة بهذه المسألة عندهم.

      قد يقال أن أحكام الهرطقة ليست مقترنة بالعنف عند المسيحيين، على خلاف الإسلاميين الذين يقترن عندهم حكم التكفير بممارسة العنف، والحقيقة أنك ستجد ازدواجة علمانية غريبة أيضا في تناول مسألة العنف السياسي، فستجده مشحونا بأقصى درجات الرفض فقط لو كان صادرا عن مقاصد إسلامية، ومقبولا كوسيلة تاريخية معروفة ومنطقية في التغيير السياسي لو كان بعيدا عن (النمط الإسلامي)، بل ستجد مفارقات مدهشة في هذا الصدد، فالشيخ (عبود الزمر) مثلا هو قاتل ( أنور السادات)، و(السادات) هو قاتل (أمين عثمان)، ودافع القتل واحد في الحالتين: علاقة مشبوهة بأعداء الأمة، أمين عثمان وعلاقته المحتل البريطاني والسادات وعلاقته بالمحتل الإسرائيلي، ومع ذلك ستجد أن (عبود الزمر) منبوذا، والسادات مقبولا، عبود الزمر (من النمط البغيض) والسادات (داخل في النمط المألوف). نموذج آخر لازدواجية العلمانية في تناول مسألة العنف الإسلامي: الشيوعي (جيفارا) والشيخ (أسامة بن لادن)، جيفارا خارج الديانة، خارج القومية، خارج حتى الأيديولوجية الليبرالية، ومع ذلك فهو مقبول كرمز، (أسامة بن لادن) مسلم.. عربي.. أفرزته الأزمة العربية نفسها ولم يتم استيراده من أزمات أجنبية، ومع ذلك فهو منبوذ، المسألة في الحقيقة ليست مسألة العنف، بل هي كراهية النمط الذي ينتمي إليه بن لادن.

      الاستعلاء الديني مبرر آخر للرفض العلماني للظاهرة الإسلامية، لكن ستجد أن هذا الاتهام لا يستطيع الوقوف على ساقين لأنه ببساطة: مقلوب، الإسلاميون هم من تعرضوا لأقذر وأشرس حملة إعلامية ساخرة شديدة الوطء، طويلة الأمد، متعددة الوسائل، لدرجة تحطمت تحتها نفوس كثيرة وتشوهت تحتها نفوس أكثر، حتى أصبح الإسلامي في وقت من الأوقات هو أشبه ما يكون باليهودي المنبوذ في العصور الوسطى، كان على الإنسان الإسلامي أن يعيش في حالة دفاع عن نفسه ضد اتهامات لا حصر لها، فهو جاهل.. شهواني.. مأجور.. وحشي.. سيئ المظهر.. انتهازي.. منافق.. معقد نفسيا. ومع ذلك فالعلمانيون مصرين على أن الإسلاميين يمارسون الاستعلاء، الاستعلاء العلماني مقبول لأنه يؤكد النمط، أم الاستعلاء الإسلامي فخطر جدا على النمط ولا بد من مهاجمته حتى قبل أن يظهر. الاستعلاء الإسلامي المزعوم هو في حقيقته (استعلاء على النمط الإسلامي). ولا يبدو أن المسألة متعلقة برفض فكرة الاستعلاء الديني أصلا، (الاستعلاء البابوي) المتمثل في المظهر المهيب لرأس الكنيسة في أي ظهور إعلامي له ليس مجرد سلوك شخصي، بل هو سلوك ممنهج وأحد أهم ركائز الكنيسة في تعاملها مع شعبها ومع غير شعبها، هل اعترض أحد من رافضي فكرة (الاستعلاء الديني) على (المظهر البابوي) الذي يضاهي مظهر الملوك والقياصرة في العصور الوسطى؟ لم يعترض أحد بل على العكس من ذلك، ستجد تجاوبا علمانيا مع المشهد وتكريسا له، لاحظ كمية الاحترام التي يوليها العلمانيين للبابا في أي لقاء معه، وقارن بين هذا الاحترام وبين التنمر والتحفز العلماني ضد أي تصرف فردي إسلامي قد يحمل معنى الاعتزاز بالطاعة أو النفور من المعصية.

      فكرة الدولة الدينية تبدو كأبرز المآخذ بالنسبة إلى الخيارات العلمانية الفكرية لشكل الدولة وخلوها من البعد الديني، لكننا سنجد أن موجة التشنج العلماني ضد الدولة الدينية تنكسر حدتها فجأة حين يتعلق الأمر بالدولة اليهودية التي ترعاها أعتى المؤسسات العلمانية؛ المسيحية أيضا فرضت على العلمانية الغربية الاحتفاظ بهوية الدولة المسيحية على الأقل على مستوى الانتساب الحضاري الرمزي، ستجد تسامحا في العلاقة بين اليهودية والدولة، أو بين المسيحية والدولة، أما في العلاقة بين الإسلام والدولة فستجد علمانيو بلادنا قد كشروا عن أنيابهم بشكل مثير للدهشة. المسألة ليست مسألة العلاقة بين الدين والدولة، بل هي كراهية النمط الذي يتبنى فكرة الدولة الإسلامية.

      أيضا ما يزعمونه تفكيرا غيبيا عند الإسلاميين ليس إلا سببا مزيفا للنفور العلماني من الإسلاميين، ذلك التعايش بين العلمانية وبين الصوفية القبورية المستغرقة في الخرافة يهدم تماما هذا الزعم،  أحد الكتاب علق ساخرا على جمعة (في حب مصر)، والتي كانت ثمرة تحالف ليبرالي/صوفي، وكانت بعد جمعة (الهوية الإسلامية)، التي أكد فيها الإسلاميون وجودهم، فكتب مقالا بعنوان: (الليبراليون يتداوون بقنديل أم هاشم)، يسخر فيها من تلك العلاقة بين أعداء (التفكير الغيبي) وبين حاملي لواء الخرافة، ومؤخرا أعلنت (الأضرحة) كمحمية علمانية ضد (الغوغاء) الإسلاميين.

      الفائدة التي نجنيها من إدراكنا للطبيعة القصدية اللاشعورية للنمط النفسي

      والذي نود الوصول إليه من مناقشة المبررات (الواعية) للنفور العلماني من الظاهرة الإسلامية، ليس هو دحض الموقف العلماني _ ما لنا وللدحض الآن_ بل تفسير هذا الموقف ورده إلى مقصد (غير واعي) لنمط الهروب، وهو ضرورة الحفاظ على وجوده بالتخلص من النمط المضاد له أي نمط المواجهة، والخلوص من ذلك _وهذا هو الأهم_ إلى أن النمط مدرك لوجوده، ويتخذ التدابير اللازمة للحفاظ عليه، وكل ذلك في غياب من وعي أفراده الواقعين تحت سطوته؛ ذلك ما نعنيه بـ (قصدية النمط).

      فإذا سلمنا بذلك فالنتيجة المرجوة هي أن نكون _كإسلاميين_ أقل ثقة بما يحتويه إدراكنا المباشر لنفوسنا، وأن ننظر لأنفسنا كأسرى أنماط نفسية تعي مقاصدها وتتجه نحوها، وتستخدمنا، ولا تعبأ برأينا فيها. إننا باختصار أمام أنماطا ماكرة.

      هذا التهيؤ النظري والحذر المنهجي في تناول التيارات الإسلامية كأنماط قصدية غير واعية، رغم أنه ضروري إلا أنه يبقى مجرد استعداد للتفسير، أما التفسير نفسه فيلزمه تعيين الأزمة الصادمة لنمط المواجهة _الذي صاغ نفسه في الحركة الإسلامية العامة_ ثم رد تشكلاته الهروبية اللاحقة _التي صاغت نفسها في التيارات الإسلامية المختلفة_ إلى وظيفتها كحلول للأزمة الصادمة له. أي وضع الحركة الإسلامية في نسق تفسيري شامل.

       

      انتهى الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع إن شاء الله