فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      ما الذي حدث في مصر.. عَشيّة 25 يناير؟

      الحمد لله والصّلاة والسّلام على رَسول الله صلى الله عليه وسلم

      الفرقُ بين ثورة شعبٍ وبين حركة إصلاحية يقوم بها بعض فئات من الشعب، فرقٌ كما بين الحياة والموت. ولكلّ من الشّكلين مَجالٌ ومحلٌ، وشروطٌ وتوابع.

      فثورةُ الشعب تعنى الخرُوج على كلّ ما كان موجوداً من قبل، من قوانين ونظم وممارسات، وسياسات داخلية وخارجية. الثورة، كالعملية الجراحية، تعنى البَتر والإستئصال، بتر كلّ عضوٍ فاسدٍ، وكلّ قانون معيبٍ، وكلّ تعاقد باطل، وكلّ إرتباط غير مشروع. الثورة لها قوانينها الخاصة، التي لا يصلح أن تكون ثورة بغيرها، كما لا تصلُح أن تستمر بها أكثر من زمنها. فالثورة لا تصلح أن تسير على قوانين قد أنشأت في عهد ما قبلها، كما لا تصلح أن تستصحب قوانينها بعد أن تثبت اقدامها وترتكز أركانها. الثوة تهدم، ثم تبنّى، تدمر نظاما قائماً بأكمله، ثم تنشأ محله نظاماً جديداً كلّ الجدة.

      أما الحركات الأصلاحية، فدورها أشبه بالعلاج والمداواة، ليس فيها بترٌ أو إستئصال، وإنما إصْلاح وتجْميلٌ واستداركٌ عمّا كان. الحركة الإصلاحية لا تهدم ولا تدمّر، بل تتخذ من الواقع تكِأة لبناء المستقبل. فهي تستخدم أدواته، وتتحاكم إلى قوانينه، وتعمل في ظلّ هيكله ونظامه. فهي إذن إستمرارٌ لا إستبدال.

      الثورة زلزال مُدمر لا يبقى ولا يذر، لا يحدث إلا كل دهرٍ متطاول من الزمن. الثورة لازمةٌ حين يكون النظام القائمُ قد تعفّن من الأساس إلى درجة لا يصلح معها إصلاحٌ أو ترقيع. حينها يَجب نزع الملك ممن مَلَكَ نَزعاً، لا طلباً، وطُهّرت أنحاء البلاد من مَواليهم وأتباعهم وأذنابهم، في كلّ مؤسسة وشركة ووزارة ومجلسٍ ومحكمة، يطارِدهم الناس، بمعنى كلمة المُطاردة الجسدية، خَارج مكاتبهم، وأماكن عملهم وإفسادهم، ويسلبونهم أموالهم وما أكلوه نهباً وسُحتاّ. ثم يكون إنشاء القوانين التي تتمشى مع هذه المرحلة بالذات، والتي تتسم بالسرعة والحسم، ولا تتقيدُ بما كان من قوانين سابقة بأي حالٍ من الأحوال. وقد يكون أن يُوقف العمل ببعض هذه القوانين الطارئة بعد استتباب أمر الثورة، ولك ليس قبلها. هكذا تكون الثورة، لا تكون بإزالةِ رأسِ النّظامِ من كُرسيّه، ثم الثّقة في أشدّ النَاس ولاءاً له، ثم مراقبة الفاسدين العَابِثين قابِعين في أعْمَالهم كما كانوا، يخطّطون للإبقاء على النظام كما كان، بل والإنتقام ممن جَرُؤ على العبث بأوضاعهم. ولهذا فإن الله سبحانه قد إعتمد الثورة كنظامٍ يستبدله بالكفر حيث قال "وَإِن تَتَوَلَّوْا۟ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوٓا۟ أَمْثَـٰلَكُم"محمد 38 

       

      والإصلاحُ أمرٌ لازمٌ، يتكرر على مدى الزمن القريب، حين يكون الأساس لا يزال مُتماسِكاً صَالحاً قادِراً على تَحمّل البِناء. حينئذٍ يُمكن هَدم بعض الجُدران هنا وهناك، وإعادة ترتيب الصورة من الداخل، وتغيير بعض الوجوه التي شُوِّهَت، وحلّ مجالس بعض المؤسسات التي نُهبت. هنالك يصلحُ تغيير الحكومة، أو حتى تبديلُ بعض وزرائها، وقد يصلحُ حلّ المجلس التشريعيّ وإِعادة إنتخابه. لكن الخاصية الأساسية في عملية الإصلاح هي أنها ليست زلزالاً، ولكن هو هزة للنظام، تغربل الفاسد وتبقى الصالح.

      من هنا يتبين لنا أن ما حدث في مصر هو ليس بثورة على الإطلاق، ولا قريباً منها. بل هو ليس بحركة إصلاحٍ كذلك، إذ إن الفساد لا يزال يتحّكّم في البلاد، بدءاً بالمَجلس العسكريّ، ومروراً بالداخلية وأمن الدولة والإعلام، والنيابة العَامة وجِهاز المُحاسبات، ورئاسة كافة الأجهزة الحساسة في البلاد.

      ما حدث في مصر عشية 25 يناير كان إنتفاضة، مجرد إنتفاضة أو رعشة في جَسدٍ قد شبعَ ضَربا ورَكلاً، وسَرت في دَمهِ كلُّ أنواع السُموم، وانتُزعت منه كلّ مستلزمات الحياة. كان لابد أن ينتفض هذا الجسد، ويرتعش ويضطرب. لكن هذه الإنتفاضة لم تصل إلى ما أراد لها ذووا العقل أن تصل، أن تبعث الجسد قائماً، صحيحاً، وأن تطَهّر الدماء وتقوّى المَفاصل والعَضلات. طل الجسد راقدا، وظَلّ العسكر الذين يمثلون النظام الفاسد في أبشع صُوره، الصورة العَسكرية، قابعاً على صَدره، لا يريد له حِراكاً.

      ما حَدث في مصر عشية 25 يناير، لم يصل إلى أي نتيجة، إن أردنا الحقيقة. فحَبس بِضع شخصياتٍ عامة، لا يأتي للشعب بحَقه، ولا يصلح فساداً، ولا يقيم عدلاً، ولا ينشأ مُساواة، ولا يكرّس حُريةَ. بل نرى اليوم أن أساس الحُكمِ الديكتاتوريّ، وهو عاملُ الخوف، قد عاد في مِصر على أشدّ ما يكون، بهذه المُحاكمات بتهمةِ إهانة الكيانِ الخائنِ العَميل العَسكريّ، كأنهم إنعكاس لفرعون فيما حكى الله تعالى عنه في سورة الشعراء "إِنَّ هَـٰٓؤُلَآءِ لَشِرْذِمَةٌۭ قَلِيلُونَ ﴿54﴾ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ"

      أول سُبلَ العَلاج هو التعرّفِ على الحقيقة، أو بالأحرى الإعتراف بها. لم يحدث في مصر أي تغيير نتيجة ما حدث في 25 يناير. ما حدث في 25 يناير هو فشلٌ كثورة، وفشلٌ كحركة إصلاحية، ونجح كإنتفاضةٍ يمكن أن تكون مُرشداً هَادياً لأبناء الشعب، إن أرادوها ثورةً، لا إصلاحاً، ولا إنتفاضاً.

      الأمر ليس أمرَ تفاءلٍ أوتشاؤمٍ، أو نظرةٍ سوداءٍ أو بيضاء، أو نظرةٍ إلى نِصفِ الكوبِ المَلئ أو الفارغِ، أو أيّ من هذه التعبيرات المُعتادة. هي الحَقيقة، بسيطةٌ ومباشرةٌ، قاسيةٌ ككلِّ حقائق الحياة، واضحةٌ ككلِّ حقائق الحياة. ولكنّها تظل الحقيقة، شِئنا أم أبيْنا، رَضينا أو سَخِطنا. وعلينا أن نتعامل معها، لا أن نتجاهَلها، ونعيش في حُلمٍ لا واقع له، نبرر ما لا يُبرّر، ثم نفيق بعد سنين، نتخافتُ باللومِ والعِتاب.

      هؤلاء العَسكر الخونة يريدون لنا أن نعيش هذا الحُلم. من مصلحتهم أن لا ندرك حقيقة ما حدث، كما حدث. ففي هذا الحلم، حقق الشعب أمنيته، ووصل إلى غايته، وتمت إرادته. تماما كما فعل عبد الناصر من قبل، حين أغرقَ الناسُ في أوهام إنتصار الشعب، عاونه على ذلك مُطربي الشعب وسحرته، ويعينهم عليه اليوم أسامة هيكل، رئيس السحرة وخادم العسكر.

      قد قلت فيما سبق، أنّ الحلّ في يد الشعب، بعد إرادة الله جلّ وعلا. الشعب يجب أن يأخذ في الرجوع إلى الشارع لإستكمال ما أراد بهذه الإنتفاضة. وأعلم أنّ تلك الإنتفاضة قد أجْهدت الشعب إجهاداً شديداً، فركن إلى الراحة، واطمأن بعضه إلى مَنحى التفاؤل، وذهب بعضه، وياللأسف هم كثيرٌ ممن يدّعون الإسلامية، منحى الخيانة والعمالة للنظام كما تعودوا. إلا أنّ من أخرج الشعب من غياهب ظلمات مبارك، لقادرٌ أن يخرجهم من ظلمات مجلس الخيانة والفساد والعمالة، المسمّى بالمَجلس العَسكريّ.