الحمد لله والصّلاة والسّلام على رَسول الله صلى الله عليه وسلم
والله ما ذكرتُ استشهاده إلا دَمَعت عَينيّ، وإلا ترحّمت عليه أكثر مما أترحّمُ على والديّ. فهو الرجل الذي قدّم للمسلمين في عصرنا هذا ما لم يُقدمه لهم أحد غيره. قدّم لهم المِثال الحيّ والصورة الجَلية المشرقة النَاصعة، لِما يمكن أن يصنعَ الإسلام بالبشر، وللبشر. هو سيد قطب، شهيدُ الأمة في عصرنا هذا. الرجلُ الذي صَاغ التوحيد صِياغة فَصّلتْ ما أُجْمِل في القرآن أبلغَ تفصيل، وأجْمَلت ما فُصِّل في تفاسير القرون الخالية، أوفَى إجْمال. ثم أتبع ذلك بأن شَهد على صِدق ما في القرآن بتقديمه نفسَه فداءاً للحق، فصحّ فيه قول شوقي رحمه الله
وإذا تناهَى الحُبّ وإتفقَ الفِدى فالروحُ في بابِ الضَحيةِ أليق‘
هذا أوان العملاق، الذي تضاءلت بجانبه العمالقة، وتحطمت على صَخرة إرادته الطواغيت، فأزلّهم حياً، وهَزمَهم ميِّتاً. إذ اليوم لا نحتاج إلى علمِ عالمٍ، بل إلى نظرِ مؤسسٍ وإخلاصِ صِدِّيقٍ. وقد تحلى بهما سيدٌ، نحسبه كذلك.
أدرك سيد رحمه الله معنى أنّ الله سبحانه أنزل القرآن على الناس كتاباً يتلى، تُبيّنه لهم سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. عَرف إنه إن كان الوحيّ بين السماء والأرض قد انقطع، فإن وحي القرآن والسنة للناس لا يزال مَمدوداً مَوصولاً، يتلقَوْنه كلّ مرة يقرؤون القرآن والحديث، يستوحونه ما يفعلون في خاصة زمنهم، وواقع حياتهم. قد فهم سيد الواقع، ومشكلاته ومعطياته ومركباته، كأدَقّ ما يكون الفهم، ولجأ إلى القرآن والحديث، يستوحى منهما التوصيف اللائق بهذا الواقع، ثم يبنى عليه ما يجب عمله فيه، فكان الظِلال أولاً، ثم المَعالم أخيراً.
علّمنا سيد رحمه الله أن الفهم في الكتاب والسنة، ليس هو الفهم عن الكتاب والسنة، فالأول يعنى فهم المَسطور، والأخير يعنى فهم المَقصود، الأول يعنى إدراك المَبنى، والثاني يعنى استيعاب المَعنى. وبينهما بون شاسعٌ لا يجتازه إلى العمالقة.
كان سيدٌ رحمه الله إماماً في رؤية الواقع بعين الشرع، ووزن أحداثه وأشخاصه بميزانه. وهو أمرٌ، مرّة أخرى، لا يقدر عليه إلا من تمرّس بالعِلم تحقيقا لا تلفيقاً، ثم نظر في حال الناس والدنيا جمعاً وتفريقاً، ثم جمع الشقين مَعاً تأليفاً وتوفيقاً، فعرف موضع الحقّ ورفع أهله إلى منازلهم، وعَرف محل الباطل فحَطّ أهله بمنازلهم. وهو، رحمه الله، لم يُعنى بنقدٍ أو تجريح لشخص أو جماعة، فالأمر بالنسبة له كان أكبر من الأشخاص والحركات. بل إعتنى بتأصيل موارد النظر التي كشفت له عن واقع الأمة جملة، وحالها، وبعدها عما أراد الله لها.
جمع سيد رحمه الله بين شِقيّ الواقع والشرع كأحسن ما يكون الجَمع، إذ بهما جميعاً، لا بأحَدهما، يّدرَك الفلاح في الدنيا والآخرة. وهو ما خسرت فيه الطائفتان المتنَاحِرتان في واقعنا البئيس، فرقة السلفية الإدعائية والإخوانية التوفيقية من ناحية، وفرقة العلمانية اللادينية من ناحية أخرى. السلفية الإدعائية والإخوانية التوفيقية فهمتا الشرع سطراً ومَبنىَ، لا قصداً ومعنى، وعَميتا عن الواقع فخَسرتا الدُنيا، والعِلمانية اللادينية فهمت الواقع لكنها أعْرضَت عن حُكم الشرع فيه، فخسرت الدنيا والآخرة. وراحت الطائفتان المتناحرتان، تتنازعا القوى الشعبية، كلٌ إلى وجهة تختلف عن الأخرى، وكلاهما مخالفٌ وجهة الشرع. أحداهما أهملت الشرع واستهانت بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبحها الله، والأخرى تمسّكت بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بدرجات متفاوته، دون استيعابٍ لمقاصد الشرع أولاً، ولا لفقهِ واقعِ الأمّة ثانياً، هداها الله. وكان أن ضلت كلتاهما عن إصابة الحقّ، وتتابعت القرارات الخاطئة والخطوات المَعيبة المُرتجلة، اللتي لا يصح نسبتها إلى السلف، بل ولا إلى الإسلام إبتداءاً.
ووقف أهل السنة والجماعة، يهتدون بهَدى السّلف الصَالح في إدراك المَبنى واستيعاب المَعنى، ثم استرشدوا بعمالقة العلم والنظر، وفقهاء الحياة والواقع، كسيدٍ، أو أضرابه مثل محمود شاكر أو محمد محمد حسين رحمهم الله جميعاً، فعرفوا الوجهة التي يولّونها، وارتضوها لأنفسهم، واتبعوا خارطة الطريق ومعالمه، دون ضَلال أو تشتيت.
باتَ الظلامُ حالكاً، وكادت المعالم تنطمس، فيالله، ما أشدّ حاجتنا اليوم إلى سيدٍ، أو من هو مثله، أو من هو على دربه. ووالله لقد ترك سيد معالماً وتراثاً أجدر بالناس أن يستلهموه في هذا الظلام الحالك. كما ترك تلامذة ورفاقاً ساروا على دربه، يجب على الناس أن يلتفوا حولهم، ويأخذوا عنهم، فإنهم بقايا أفضلُ خلفٍ لأصلحِ سلف.