فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      محمد عمارة و"الإسلام في مواجهة التحديات"

      مقدمة

      الدكتور محمد عمارة كاتبٌ مفكرٌ أزهرىّ، خَالفَ الأزهَريةَ الصُوفيّة التقليدية إلى الإعتزال، فإنتهج مَنهجه، الذي يَنسُبونه إلى العَقلانية، وأخذ بما في هذا المَذهب أساساً ومنطلقاً، فكان نِتاجُه الغَزيرُ في الدفاعِ عن الإسلام في مُواجَهة التَنصِير والنَصْرانية، كما فعلت المُعتزلة الأوائل، وهو ما يُحمد عليه. لكن المَذهبية الإعتزالية قد حدّدت موقعَه من الصَحوة الإسلامية ومَكانَه على خَريطة أهل السُّنة والجَمَاعة، ودورَه في توجِيه النشْأ المُسلمِ نحو إسلامٍ ملتزمٍ سنيٍّ على مِنهاجِ النبوةِ وسُنَن الصَحابة والتابعين.

      ومحمد عمارة يُقِرّ بأنه يَتبِع الفِكر الإعتزاليّ من مُنطلق أنّ المُعتزلة هم رُواد الفِكر الإصْلاحيّ العَقلانيّ في تاريخ الإسلام، وهي دعوى شَاركه فيها عدد من رجالات عصرنا كمحمد عابد الجابريّ وطه جابر علوانيّ وحسن الترابيّ، والأخير هو أشَدّهم بِدعَةً، ومن القرن الماضي كأحمد أمين، ومن قبلهم محمد عبده وجمال الدين الأفغانيّ وخير الدين التونسيّ. إلا إنه – كسائر رفاقه على دَربِ الإعتزالية – لا يراها بدعة، خلافاً لما قرّر أهل السنة والجماعة قاطِبة، بل يراها "عقلانية" تَعتَزُ بالعَقل، وتجْعله قائِما على الشَرع وحَاكماً على نُصوصه.

      وتدور مَبادئ الإعتزال، أو إن شِئت العَقلانية، على عدة مبادئ أهمها، تقديمُ العقل على النقل، وإنكارِ الأحاديث التي صَحّت إن لم يراها العقل ملائمة أو مناسِبة للمنطق، ومن ثمّ، أنكر هؤلاء صِحَة عدد من أحاديث البُخارى ومُسلم، وأنكروا حُجّية أحاديث الآحاد جملة واحدة، http://www.tariqabdelhaleem.com/new/Artical-327 وهي التي ثَبُتتْ بعددٍ من الصحابة أقل من التَواتر، ومن ثمّ أنكروا الكثير من العقائد التي ثبُتت عند أهلِ السُنّةِ واستقرّتْ في عَقائد العَامّة منذ عَصرِ الصَحابة رضى الله عنهم، كحَوضِ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وشَفاعتِه، وعذابِ القبرِ وخروجِ الدجّال، والميزان والصراط، وغير ذلك مما خالف فيه محمد عبده في تفسيره، كإنكار الطيرِ الأبابيل بزَعمِ أنها جَرَاثيم مُمْرِضَة! ولسنا بصدَد الردّ على المذهبِ الإعتزاليّ إذ قد أصْدرنا كتاب "المُعتَزِلة بين القديم والحديث" منذ حول ثلاثين عاماً وطُبِع عِدّة مرات، وهو سَهلٌ مَيسورٌ للقراءةِ لِمَن أراد. http://www.tariqabdelhaleem.com/new/Artical-6

      وقد كان لهذا الإتجاه أثرُه فيما يكتب مُحمّد عِمارة في أي مَوضوع من موضوعاته، فهذا المنطلق يؤثر بلا شك على مصادر تلقّيه، وحُجيّة مَصادره، ولكنه، في وقتنا هذا الذي قلّ فيه العلم، وشحّت فيه المَعرفة، قد نال التبجيلَ والإحترامَ والتقديرَ فيما كتب بحقٍ – وهو كثير - أو بغيرِ حق. ولا أُحبُ أن أُنكرَ على الرجُل جَهدَه فيما كَتَبَ بِحق، فليس هذا من مَذهب أهل السُّنة، لكن قد خشى الكثير من الكتاب أن يُبيّنوا مواضِع خَطئه ومواطِن ضَعفه فيما كتب بغير حق، لما يَتمتعُ به من صِيتٍ واسعٍ، وإسمٍ شهيرٍ، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وقد رأينا أشنعَ من ذلك في عَصر المَأمون والمُعتصم حيثُ تولّت المُعتزلة إدارة البلاد سِياسياً وفِكرياً فأشاعوا بدعتهم العقلانية، وامتحنوا بها إمامَ أهلِ السُّنةِ أحمد بن حنبل رضى الله عنه، حيث وَقَف بالمِرصاد لمن أراد أن يُخضِع النصّ الثابتَ الصَحيح لعُقول البشرِ المُتفاوتَة الضَئيلة إلى جانبِ الوَحي الإلهيّ.

      وأحبُ أن أؤكد أن المُعتزِلة ليسوا عِلمانيين، فالعلمانيون كفارٌ بدينِ الله أصْلاً، إذ يَرفُضون حُجيتَه ومَرجِعِيِتَه، بِناءاً على العقلِ كذلك، ولكن المعتزلة لا يقولون بذلك، بل يُحاربون العلمانية ويرفُضونَها، كما فعل محمد عمارة في كِتابه المقصود ص55، وأحسن فيما قال. إنما المعتزلة يشتركون مع العلمانيّين في تَمْجِيد العَقل ورَفْعِه إلى دَرجة يَحْكُم فيها على النصّ الإلهيّ، ويفترقون معهم في أن الإسلام له مَرجِعية أصيلة في حياةِ المُسلمين، وأن الرُجوعَ إلى القُرآن، وما يَرونَه مَعقولا لهم من السُنة واجبُ على المُسلم. ومن هنا لم يَحْكُم أئمة السُنّة عليهم بكفرٍ، بل بالبدعَة، كلّ حَسبَ بعده وقربه منها.

      ثم نعود إلى كتاب محمد عمارة :الإسلامُ في مُواجَهة التَحديات" وهو مجموعة من المقالات التي تَجمَع أكثرها موضوعاتٍ محددةٍ كالأقليات، والوسَطِية، والسياسة والتَعدّدية والعُروبة والجِهاد، إلى جانب تناول بعض الشخصيات كالبشير الإبْراهيمي وطَه حُسَين.

      علاقةُ المُسلم بأهل الكتابِ والمشرِكين - الأقليّات:

      انتهج الدكتور عمارة في هذا الموضوع، موضوع الأقليّات وموضِعها من المواطنة، منهجُ أصحابِ الوَسَطية المُحْدَثَة، كما سنرى. فقرر أنّ اليهود والنَصَارى، وسائر أصحاب الدِيانات الوضعِية غير السماوية، متساوون في حَقّ المُواطنة مع المسلمين سواءاً بسواء ولا فرق. وإعتمد في هذا التقرير على الوثائق النبوية التي دُوّنَت عقب الهجرة فيما عُرِف "بالصَحيفة"، والتي ضَمَنَ فيها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حقوق اليهود في المدينة وأنّ "يهود أمة مع المؤمنين...إلا من ظلم وأثم..." التحديات 28، وكذلك وثيقة نَصارى نَجران، والتي جاء فيها "لنجران وحاشيتها ...جوار الله وذمة محمد رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، على أموالهم وأنفسهم..."السابق 29.

      ولا أدرى كيف غَابَ عن فِكرِ هؤلاءِ المفكِّرين الأكابر من أربابِ الوَسَطيةِ المُحْدَثةِ، أنّ تلك الوثائقَ ذاتها دليلٌ ضِدّ ما يروّجون له من معنى المُواطَنة! فلولا مُغايرة الصفة القانونية والشرعية لأهل الجِزية وغيرهم عن المسلمين في بلاد الإسلام، ما كان هُناك داعٍ أصلاً لكتابة وثائقَ وتوثيقِ عقودٍ وعهود! أمرٌ في غايَة الوضوح والبَساطة. ولو إلتزَمْنا بسنّة رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم في هؤلاء، لكَتبنا وَثيقة بين المسلمين وبين القبط واليهود يتعهّد فيها المُسْلمون بِما تَعَهّد به رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لهؤلاء، وتكون هذه الوثيقة جُزء من دُستور الأمّة. وهذه الوثيقة تُلزِمُ المُسلمين بتعهّداتهم لأهل الجِزية، وتُلزِمُ أهلُ الجزية بالولاءِ للمُسلِمين ولدارِ الإسلام. والتغاضى عن كتابة هذه الوثيقة خلال قرون مهما تطاولت لا يزيل عنها صفة السُنّة التي لا يَجوز الخروجُ عليها، ولا يَرفعُ عن أهل الذِمة ضَرورة الإلتزام بوثيقة مع المُسلمين في دار الإسلامِ، ولا عن دَفعِ الجِزية عن يدٍ وهم صَاغرون. ولو كان حقّ المواطنةِ التي يُطَنْطِنُ به هؤلاء الوسَطِيون المُحْدَثون، حقٌ مشروعٌ ما كَتَبَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم وثيقةً ولا أخَذَ عَهَداً، بل لإكتفى بما هو حقٌّ لكلّ مُسلمٍ ونَصْرانيّ كما يدّعى مُفكّرينا، من الحياة في دار الإسلام بوثيقة واحدة. وهذا التَصَوّر، على جَمَاله ونُبله الظاهر، إلا إنه ليس مما وجّهنا اليه رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم، بكتابته للوثائق، ولا القرآن الكريم الذي طلب أخذ الجِزية منهم عن يدٍ وهم صَاغِرون، وعلى من إدّعى التَخصْيص في هذه الآية الدليل – كما زَعَمَ فهمى هويدى في كتابه "مواطنون لا ذميون"، وإلا كان مُشَرِّعاً لغير ما أنزل الله، ولا داعٍ لمُمَاحَكَتِه في الإسلام.  فهذا التَصوّر الجميل النبيل ليس إلا تصوّرٌ سَاذجٌ للعلاقة بين أهل الكتاب والمسلمين، إذ إنّ هؤلاء لن تُنزَع عنهم كَراهة الإسلام والمسلمين ، بنصّ كتاب الله سبحانه "وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ ٱلْيَهُودُ وَلَا ٱلنَّصَـٰرَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ، البقرة 120. ولنْ صيغة نفي مستقبليّ تعنى إستحالة الوقوع مستقبلاً، وهو المُشاهد في حاضِرنا، وسبحان الله في هؤلاء المُفكرين الوَسَطييّن المُحْدَثين، كلّ أحداثِ الحَاضِر تنبئ بصِحّة الآيات الكريمة، وبحِكمَة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في كتابة هذه الوثائق، ووضع الحُدود بين المسلم الذي له حَقُّ المواطنة الأصليّ الأصيل في دار الإسلام بموجب دينه لا غير، وبين المُعاهِد الذي لا يؤمَنُ غَدْرُه ولا تُعلم طَويّتُه، ولا يُعْرَف إنتِماؤه. وها هيَ الكنيسة التي تُمثّلهم قد أسْتَعْدَت بالخائنين من أقباطِ المَهجَرِ وبالقوى الصَليبيّة على معاهديها من المسلمين، بل وتَهَجَّمت على القرآن الكريم! فكيف بالله يُنْكَر صِحة السّنة النبوية الكريمة وصَلاحيتها لزَمانِنا، ويُستَهان بتطبيقها، خُضَوعاً لضَغط الواقعِ، أو محاولة لتقليد الغرب في معاملته للأقليات بعد أن نحّى الدين عن الحياة، أو رَغبة في إدِّعاء التَجديد للتجديد!

      والغريب أنّ الكاتب قد عَرَضَ مقرّرات ندوة بارايلان التي خَلُصَت إلى أنّ الأقليّات في العالم العربيّ شريكٌ طبيعيٌّ لإسرائيل في مواجَهة الإسلامِ والعُروبة، وهو ما يؤكّد أنّ هذه الأقليّات تمَثل خَطَراً عَظِيماً على المُسلمين.

      ونحن إذ نوافق على تحليل الكاتب بصَدد الحلول المطروحة للتعامل مع الأقلية القبطية (التحديات 58)، وعلى رفضه وتفنيده للحلّ العلمانيّ، وترجيحه للحلّ الإسلامي، إلا أننا، كما بيّنا، نختلف معه أشدّ الإختلاف في طبيعة ما يريده أن يكون حلاً إسلامياً، وهو موضوع المواطنة، ولا نتفق معه، من ثمّ، في إعتباره أن الإسلام حوّل الأقليات إلى "جزءٍ من الذات"، ووالله لا أدرى من اين أتى الدكتور عمارة بهذا التضْخيم لما تعنيه الوثائق النبوية، التي تثبت بمُجردها المبايَنَة لا المُمازَجة، وضرورة التوثيق للعهود مع "الغير المباين"، لا مع "جزءٌ من الذات".

      مبدأ الإنْسانية ووحدة الأديان:

      وقد حاول الكاتب في هذا الموضوع منزلقاً غاية في الخطورة، فما كان إلا أن إنجرف إلى تعبيرات ومفاهيم تخالف الإسلام شكلاً وموضوعاً، لا يكاد يأتي بها إلا علمانيّ ماسونيّ عتيد!

      فقد أراد الكاتب أن يؤكد على وحدة البشر ووحدة الأديان، في الجزء 38 من كتابه ص128، فجاء بحديث صحيح، واستخدمه في بَاطلٍ عَقيم. فقد روى الحديث المتفق عليه والذي فيه "الأنبياء إخوة علاّت، أمهاتهم شتى ودينهم واحد"، وقرر بناءاً على ذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قد سوى بين المسلمين وأهل الكتاب بناءاً على مفهوم ذلك الحديث، إذ هم يعملون بمقتضى الشرائع الكتابية!، وأنّ الخيرية التي تميّز بين الناس ليست في كون المرءٍ مسلماً، بل هي في كَون المرء متبعاً لشرائع دينه بشرط التقوى! وأن يكون مُعيناً على عمران هذه الحياة الدنيا! واسْتَشهد في هذا المَجال بآية النساء "لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَآ أَمَانِىِّ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوٓءًۭا يُجْزَ بِهِۦ وَلَا يَجِدْ لَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيًّۭا وَلَا نَصِيرًۭا"123.

      ولا أدرى ما يمكن أن يقال في مثل هذا الخلط؟ وكيف يَقع فيه عَالم مثل عمارة، وكيف يَسكت عنه أترابه من العُلماء؟ فحديث "الأنبياء إخوة علاّت" إنما يعنى أنّ الدين الذي أُرسل به كافة الأنبياء هو دين ذو أصلٍ واحدٍ، هو التوحيد، ولا فرق في هذا القدر بين نَبيّ ونَبيّ، وأنّ تفاصيل الشَرائع كأداء الصَلاة وشكل الصَوم يختلف بين نبيّ ونبيّ، فالصَومُ قد كان عند زكريا عن الكلام، وعند محمد صلى الله عليه وسلم هو إنقطاع شهرٍ عن الطعام من الفجر إلى الغروب، وهكذا. وآية الحُجُرات "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ" تعنى أنّ أفضَلَ البشرِ هم أتقاهُم وهم بالضرورة من أسلم لله وتبع دين محمدٍ صلى الله عليه وسلم، لا من سلك ديناً محرفاً وإدعى التَقوى!! فرأس التقوى الإيمان بالله، إله الإسلام لا إله النصارى واليهود! وهذا القدر معلوم من الدين بالضرورة! فواعجباً لخرّيج الأزهر من هذا الفَهَم السَقيم!. وكيف يّفهم من آية النساء أنّ كلّ "من يعمل سوءاً" مقصود به تسوية المسلمين والمشركين من أهل الكتاب؟ إنما هو يعنى أنّ من عمل سوءاً من المسلمين جزى به، فإن تجنب الكبائر فتكفرها عنه المكفرات كالمرض والمصائب عامة، وأنّ من عمل سوءاً من أهل الكتاب عوقب به في الدنيا قبل الآخرة، وأكبر كبائرهم الكفر، فهم خالدون مخلدون في النار بكفرهم، وإنما العقاب على السوء هنا في هذه الدنيا. ومن ثم، فلا أدرى معنى قوله "فكل المؤمنين – على إختلاف شرائعهم – أسرة التدين بالدين الإلهيّ الواحد، وأكرمهم عند الله أتقاهم" التحديات 128! فكيف تكون لنصرانيّ مثلث يقول بأن الله ثالث ثلاثة كرامة عند الله؟؟!! ولا حول ولا قوة إلا بالله.

      ويكرر الكاتب هذا المعنى في عدة فصول تعقب هذا الفصل تحت عنوان "التعددية"، فيقرر أنّ الإسلام ينكر المركزية الحضارية، فلا يريد أن تكون حضارة واحدة قائمة في الدنيا، وينكر مركزية العرق والجنس واللون، وينكر المركزية اللغوية، اي أن تصبح العربية لغة العالم المتكلم، وينكر المركزية في السلطة، أي الفرعونية في السَيطرة على الآراء والإتِجاهات داخل الأمّة. ثم يَخلُص عمارة أنّ الإسلام يدعو إلى "التعددية في إطار الوحدة، وهي الوحدة الجامعة للتنوع والتمائز والإختلاف" السابق 139. وإن نَعَى عمارة قَبلُ على الحَالِمين من أتباع اليوتوبيا وفلاسفة المدن الفاضلة أحْلامهم، فلسنا نرى فيما يقول إلا حلماً آخر من أحلام اليوتوبيا! حلمٌ تتعايش فيه اللغات والسلطات والحضارات معا في تناسقٍ وتناغم، يُقِرُ بعضها بعضاً ويقبل أحدها بالآخر! حلم من الأحلام ووهم من الأوهام. فإن كان ولابد من الحلم والوهم، فلا أقل من أن يكون حلم المسلمين متناسقٌ مع دينهم الذي يدفعهم إلى نشر الإسلام وعدالته وسلطته ولغته. كيف وقد قال ربعيّ بن عامر رضى الله عنه لرستم: "جئنا لنُخرِجَ الناسَ من عبادةِ الناسِ إلى عبادةِ الله وحده، ومن ضِيق الدنيا إلى سَعة الآخرة ومن جورِ الأديان إلى عَدلِ الإسلام". هذه هي رسالة الإسلام، الحضارة الواحدة، والسلطة والواحدة واللغة الواحدة، ما استطعنا إلى هذا سبيلاً. فلا يقال أن الإسلام ينكر هذه الأهداف، ولكنّه يُقرّ الواقع خلافها ويتعامل معه إلى حين. ومن هنا نجد الخلط شبه المتعمد في المفاهيم عندما  حلّل الدكتور عمارة قول ربعيّ ، إذ إتخذه على أنه يعنى أن رسالة الإسلام "جاءت لتنتقل بالإنسان من ضيق الأفق المحليّ إلى استشراف الأفق الإنسانيّ .. وتنتقل بالإنسانية من التشرذم والتعصب القبليّ إلى أفق الوحدة الإنسانية والعالمية" ص161! وهو فهم عجيب للواقعة، إذ لا يحمل معنى محدد إلا أن يكون ربعيّ قد أراد أنّ الإسلام يريد أن يقبل بالنصرانية وأن تكون الإنسانية هي الجامع بين الناس لا الإسلام، كما في الماسونية! ولعل الدكتور عمارة قد تأثّر بالمَاسونية من حيث تتلمَذ على فكر الشيخ محمد عبده وجمال الدين الإيرانيّ، وكلاهما من أتباع المحفل المَاسونيّ الشرقيّ (راجع محمد محمد حسين – نحن والحضارة الغربية). ومن ثم اتخذ الدكتور عمارة نصّ كلمات ربعيّ على أنه دعوة للتنوع ونصرة للتعدد، دون أن يرى فيه أنه دعوة للدخول تحت وحدة الإسلام والخروج من تعدّد الحضارات والأديان!

      فالإسلام لا يُنكر كلَّ أنواع التعددية، بل ينكر منها مركزية العرق والجنس واللون، وهو القدر الصحيح في كلِ ما ذَكر عمارة، لكنّ الإسلام لا يُنكر خلافها، بل يُقِرُّ بالتعددية ويَقبلُها في بعض صورها، والفارقُ شَاسعٌ عَميق. وإقرار الإسلام بالتعددية اللغوية والحضارية ليس من قبيل إنكار الرغبة في وحدتها، بل من قبيل العَمَلية في النَظر إلى الواقِع البَشريّ، ثم محاولة إصلاحه ليسود الإسلام لُغَةً وحضارة وسلطة. ولا يقال أنّ الإسلام يأبى وينكر أن تكون العربية، لغة القرآن، هي لغة الناس أجمعين، أو أنه يأبى وينكر أن تكون حضارة الإسلام هي حضارة الناس، أو أنه يأبى وينكر أن تكون السلطة التشريعية هي سلطة الإسلام وشرعه، هذا خَطَلٌ وتجافٍ عن الحَقّ.

      إن الإسلام لا يريد أن يكون العَالم "منتدى حضارات" كما عبّر د.عمارة ص158، فليس لهذا التصور محلّ في أهداف الإسلام وما يريده للبشر، بل هو يريد لهم حضارة واحدة ودين واحد ولغة واحدة، وإنما التنوع الذي قبله الإسلام هو من قبيل الإبتلاء والإختبار للناس كما قال تعالى:"وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةًۭ وَ‌ٰحِدَةًۭ ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴿118﴾ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَ‌ٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ" هود 119. فمشيئة الله الكَونية أن يَختلف النَاس للإبتلاء ومَشيئته الشَرعية أنْ يتّحِد النَاس تَحت لِواء الإسلام "وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ ٱلْكِتَـٰبِ لَكَانَ خَيْرًۭا لَّهُم". وقد إختلط على محمد عمارة التمييز بين مَشيئة الله الشرعية ومَشيئَته الكَونية، وهو عَجيبٌ ممن يَتْخِذ العَقل مَرْجَعاً والعَقلانية شعاراً!

      الجهاد، والقتال والإرهاب

        وفي هذا القسم من الكتاب، رَدَّد الكاتب ما يردّده غيره ممن قرّر حقائق الإسلام سَلفاً ثم راح يبحث عن أدلتها بما يعضّد هذا التصور.

      • والجهاد من جهد: وهو كلّ جهد يوجه إلى غرضٍ معين وبذل ما في الوسع من القول والفعل والدعوة إلى الدين الحق. ص232. وهو تعريف لغويّ لا شرعيّ لم يأت به مصدر موثق.
      • فالقتال، الذي هو مجرد شعبة من شعب الجهاد عند عمارة، لا يُلجؤ اليه إلا "رداً للعدوان على عَقيدة المُسلمين أو أوطان دارِ الإسلام" ص225. وقد كرر ذلك في قوله "فرض القتال وإيجابه مقصور على هذه الأغراض حماية الدين من الفتنة وحماية الوطن من العدوان" ص246

      ففي النقطة الأولى، قد خالف الكاتب ما استقرّ عليه العُلماء في أصول الفِقه واللّغة من أنّ الكلمات لها معانٍ شرعية ولغوية وعرفية، وأنّ المعنى الشرعيّ هو المُعتبر أولا، ثم العرفيّ ثم اللغويّ. لكن الهوى سَيد العقل، فقد قدّم الدكتور عمارة المعنى اللغوى وجعله حاكماً على المعنى الشرعيّ الوارد في القرآن من أنّ الجهاد إذا أُطلق لا يعنى إلا القتال، قال تعالى:

      * "إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُوا۟ وَجَـٰهَدُوا۟ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ أُو۟لَـٰٓئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ ٱللَّهِ ۚ وَٱللَّهُ غَفُورٌۭ رَّحِيمٌۭ"البقرة 218

      * "إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَهَاجَرُوا۟ وَجَـٰهَدُوا۟ بِأَمْوَ‌ٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَوا۟ وَّنَصَرُوٓا۟ أُو۟لَـٰٓئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ   بَعْضٍۢ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ مِنۢ بَعْدُ وَهَاجَرُوا۟ وَجَـٰهَدُوا۟ مَعَكُمْ"الأنفال 72

      * "ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَهَاجَرُوا۟ وَجَـٰهَدُوا۟ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَ‌ٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِ ۚ وَأُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلْفَآئِزُونَ"التوبة 20

      * "ٱنفِرُوا۟ خِفَافًۭا وَثِقَالًۭا وَجَـٰهِدُوا۟ بِأَمْوَ‌ٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ۚ ذَ‌ٰلِكُمْ خَيْرٌۭ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ"التوبة 41

      * "لَـٰكِنِ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ مَعَهُۥ جَـٰهَدُوا۟ بِأَمْوَ‌ٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۚ وَأُو۟لَـٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلْخَيْرَ‌ٰتُ ۖ وَأُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ"التوبة88

      * "إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا۟ وَجَـٰهَدُوا۟ بِأَمْوَ‌ٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ۚ أُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلصَّـٰدِقُون"الحجرات 15

      * "قُلْ إِن كَانَ ءَابَآؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَ‌ٰنُكُمْ وَأَزْوَ‌ٰجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَ‌ٰلٌ ٱقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَـٰرَةٌۭ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَـٰكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَجِهَادٍۢ فِى سَبِيلِهِۦ فَتَرَبَّصُوا۟ حَتَّىٰ يَأْتِىَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِۦ ۗ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ "التوبة 24

      * "وَٱلَّذِينَ جَـٰهَدُوا۟ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ"العنكبوت 69 

      ولم يخالف أحداً من مُفسّرى القرآن أنّ الجهاد في كلّ هذه الآيات هو القتال، بلا إحتمال آخر، وقد قال الطبريّ في آية العنكبوت 69 :"حدثنى يونس ، قال أخبرنا ابن وهب قال: قال بن زيد في قوله: والذين جاهدوا فينا: فقلت له: قاتلوا فينا؟ قال نعم" الطبري، تحقيق أحمد شاكر ج21ص505.

      أما عن آية سورة الحج :"وَجَـٰهِدُوا۟ فِى ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦ" الحج 78، فقد ذكر الطبريّ تفسيرين لها، وهما "وجاهدوا المشركين في سبيل الله حق جهاد الله"، والثاني "لا تخافوا في الله لومة لائم" ثم إختار الأول وقال:" عَنى به الجهادُ في سبيل الله، لأن المعروف من الجهاد ذلك، وهو الأغلب على قول القائل:جاهَدتُ في الله" السابق 19517.

      والأعجب والأدلّ على الهوى هو أنْ يَستشْهد الكاتب العقلانيّ بتفسير الصوفية للجِهاد على أنّه الجِهاد الأصغر، وأن جِهاد النفسِ هو الجِهاد الأكبر، بناءاً على حديث موضوعٍ، مَعروفٌ وضعُه عند كافة علماء الحديث. والمفترص أن عِمارة عقلانيّ لا يؤمن بالأحاديث الثابتة في الصحاح إلا إن سايرت العقل، فكيف يغير جلده ويروّج لأحاديث موضوعة؟! ومتى حَدَثَ التصَالح بين العَقلانية والصُوفية البَهلوليّة؟ والصوفية البهاليل يريدون أن يروّجوا للقعود في الحَضَرات والطَوافِ على المَزارات وإرتيادِ الخَلوات، دون الجِهاد في سَبيل الله الذي يَستدعى قتل النفس والتضحية بالمَال والولد. فهل هذا ما يتابعهم عليه العقلانيون؟

      وفي النقطة الثانية، قرر الكاتب أن القتال لا يُلجؤ اليه إلا عند ردّ العدوان، وإتخذ من هذه النقطة ركيزة ليدفع بها تهمة أنّ الإسلام قد انتشر بالسيف. وهذا التقرير خطأُ مَحضٌ لا يَستند إلى دليل، بل ويخالف إجماع العلماء المعتبرين ممن سبق. فالجهاد جِهادان، جهاد طلب، وجهاد دفعٍ وهو المَعروف بدفع الصائل. وجهاد الدفع هو الشكل الوحيد للجهاد فيما قرره عمارة ومن سار بسيرته في محاولة دفع التهمة التي ذكرنا وما هي بتهمة لنحتاج إلى ردّها، بل هي حقٌ لا يُنكره إلا جاهلٌ أو أخرق، وتدلّ عليه كافة أحداث الإسلام في القرون الثلاثة الأولى.

      والفكرة الإسلامية كلها مبنيةٌ على نَشر الإسلام في الآفاق، لكن من المعلوم أنّ هناك المَوانع من جَهل بحقيقته أو تشويه لصورته تجعل هذا الأمر مُستحيل تَحقيقه، وهو ما نراه خاصّة في أيامنا هذه. ومن ثمّ فإن إزاحَة الطغاة الذين يمنعون النور من أن يَصل إلى الناس هو عُنصرٌ أصيلٌ في تركيبةِ الإسلام ودعوته. وهؤلاء الطغاة لن يتنازلوا عن مكانهم تطوعاً وإيماناً بالحق، بل إن القوة كانت ولا زالت هي الطريق الوحيد لتحقيق العدالة في بيان حقيقة الإسلام، فإن إنزاحَت الموانع وفُتحت البلاد فكلّ وما يريد في إختيار دينه، إذ عندها يكون قول الله تعالى "لَآ إِكْرَاهَ فِى ٱلدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَىِّ" البقرة 256.

      وقد يكون هذا القتال الطَلبيّ غير مقدور عليه في عصر أو عدة عصور، لكن هذا لا يعنى أن نقنّن رفعه من الشريعة وإدعاء عدم وجوده أصلاً، إلا ممن إنهزم نفسياً أو إنحرف عقائدياً. وإلا فليقل لنا أصحاب هذا المذهب التراجعيّ لما خرج الإسلام من المدينة إلى مكة، ألم يكن يكفى رسول الإسلام أن يُرسل المُعلّمين إلى مَكة ويُجادلهم بالتي هي أحسن، ولا يُنابذهم إلا إن نابذوه ولا يُقاتلهم حتى يقاتلوه، ثم يظلّ على ذلك حتى يؤمِن صَناديد قريش؟ ألم يعلم رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم أن لا جهاد طلب في الإسلام؟ ففيم بعثه للبعوث وفيم إرساله للجيوش وفيم كانت حملة أسامة بن زيد؟ وكيف إنتقل الإسلام من المدينة إلى أطراف الصين شرقاً، وإلى المحيط الأطلسيّ غرباً؟ وليس هناك عاقل على وجه الأرض يقول أنّ ذلك كان بالمعلمين! ثم ما معنى كلمة الفتوحات الإسلامية؟ ألا تعنى ما فتحه المسلمون بالسيف، ثم استقروا واختلطوا وامتزجوا وآمن بالإسلام من أهل البلاد من آمن بعد أن زالت الغشاوات وتبينت الحقائق؟ أليس هذا ما حدث في فتح مصر؟ أم يقول عمارة أن فتح مصر كان بالكتب والمعلمين؟ وما الذي يجعل أرض الإسلام هي ما هي عليه الآن، ألا يجب أن تمتد أبعد من ذلك، إن قدر عليه المسلمون؟ ولماذا لم يتوقف الراشدون والمسلمون الأوائل عن الفتح، وقالوا ما قال عمارة من أنه لا جِهاد طلبٍ في الإسلام، ولنكتف بالجَزيرة العَربية ولنَحمِها ممن يُريد بها سوءاً؟ وماعلينا من العِراق وفَارس وما وراء النهرين، وما علينا من إفريقية وغيرها؟ هذا كله سُخفٌ وعارٌ، لم يكن جدير بمثل محمد عمارة أن ينشُره أو أن يَدعو له. وقد قال بن القيم رحمه الله تعالى "..والله سبحانه يأمرهم بالصبر والعفو والصفح حتى قويت الشوكة واشتد الجناح، فأذن لهم حينئذ في القتال ولم يفرضه عليهم....ثم فرض عليهم القتال بعد ذلك لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم، فقال "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم" ..ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة وكان محرّماً ثم مأذونا فيه ثم مأموراً به لمن بدأهم بالقتال، ثم مأموراً به لجميع المشركين إما فرض عين أو فرض كفاية" زاد المعاد ج2 ص58 طبعة دار الفكر. وهذه الأربعة أسياف التي نزل بها القرآن، وليس بعد إيضاح بن القيم قيمة لرأي أحد من العقلانيين.

      شَخْصيّات وآراء

      وفي بقية كتابه، قدّم الكاتب دراسة لفكر ميشيل عفلق أهم منظرى القومية العربية في  العصر الحديث ورائد حزب البعث السورى، ومؤسس الفكر الإشتركيّ على النموذج الإيطاليّ، قيّم فيها تطوّر فِكره من القومية البحتة القائمة على العروبة، إلى إدراكه لقيمة الإسلام في وجود العروبة واستمراريتها. وهي دراسة لا بأس بها في موضوعها، لكن ما يجب أن يعلمه القارئ أنّ أمثال ميشيل عفلق قد درسوا ومزجوا بين القومية والإسلام والوطنية والعروبة من منطلقٍ مخالف للمنطلق القرآنيّ، وهو ما يجعل النتائج التي وصلوا اليها لا تمثل إضافة للفكرة الإسلامية، إن لم تضادها في بعض تفاصيلها.

      ثم تناول الكاتب الإمام حسن البنا، وعَرَض مُقتطفات من فِكرِه تتمثلُ في تصديه للفكرة التغريبية، ودعوته للمرحلية ورفضه لتعجل النتائج، وهو ما نراه من أفضال البنا ومن صحيح ما دعا اليه. لكن علينا أن نشير إلى أن البنا قد عبّر عما يعتبره الكاتب غلواّ حين قال فيما نقله عنه "...ونحن نرجو أن تقوم في مصر دولة مسلمة تحتضن الإسلام..." ص363، وهو نصّ لا يحتمل تأويلاً فيما يرى عليه البنا حكم مصر ووضعها الشَرعيّ من "الإسلامية"، ودع عنك من جاء من بعده من زعامات الإخوان ممن يؤول ويُبدل جهلا بالدعوة أو خوفاً من تداعياتها.

      كذلك فقد نقل الكاتب عن البنا قوله في ضوابط التكفير "لا نكفر مسلماً نطق بالشهادتين وعمل بمقتضاهما، وأدى الفرائض – برأي أو معصية – إلا إن أقر بكلمة الكفر، أو أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، أو كذب صحيح القرآن، أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال، أو عمل عملاً لا يحتمل تأويلا إلا الكفر". وسبحان الله ما اصدق هذه الكلمات، لكن الكاتب وغيره الكثير من المنسوبين إلى الدعوة الإسلامية لا يرون هذا القول، بل يخالفونه صراحة. فاين هم من قول البنا "وعَمِل بمقتضاهُما" وهم يعتبرون العَمل لا عِلاقة له بالإعتقاد أصلاً؟ ثم هؤلاء لا يرون كفراً بعمل، إذ إن أصل الإيمان في القلب، والعملُ مُكمّل له.

      وانتقل الكاتب بعدها إلى الحديث عن الإمام البشير الإبراهيميّ رحمه الله تعالى، إلا أننا لم نراه يشير إلى ما تميّز به الإمام من سنيّة تحمل على الصوفية البهاليل، وتنافِحُ عن دعوة الإمام المُجدّد محمد عبد الوهاب. يقول الإمام الإبراهيميّ:"إننا علمنا حقَّ العلم بعد التَّروِّي والتَّثبُّت ودراسة أحوال الأُمَّة ومناشئ أمراضها أنَّ هذه الطُّرق المبتدعة في الإسلام هي سببُ تفرُّق المسلمين ، ونعلم أنَّنا حين نقاومها نقاوم كلَّ شر ،إنَّ هذه الطُّرق لم تسلم منها بقعة من بقاع الإسلام ، وإنَّها تختلف في التَّعاليم والرُّسوم الظاهر كثيراً، ولا تختلف في الآثار النَّفسيَّة إلاّ قليلاً ، وتجتمعُ كلها في نقطة واحدة وهي التَّحذير والإلهاء عن الدِّين والدُّنيا" عن مقدمة كتاب الطرق الصوفية للبشير الإبراهيمي، للشيخ مشهور سلمان ص 6، طبعة الغرباء الأثرية.

      فأغفل الكاتب هذه الجوانب في الإمام الإبراهيميّ ولم يشر إليها بكلمة واحدة، وركّز على دفاعه عن الجزائر وإنشائه لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين في القاهرة، وعن ورعه وتقواه، وهو مما لا يشك فيه من علم أحوال الشيخ الإمام، رحمه الله.

      ثم انتقل الكاتب إلى الحَديث عن الشَيخ مُحمد الغزاليّ رحمه الله، وركّز في حديثه عن الغزاليّ على الجانب العقلي في فكر الغزاليّ والذي – على رِفْعَة قدر الغزاليّ - لم يَحمده له كافّة العلماء من أهل السنة والحديث، إذ قد عُرف عن الغزاليّ إتجاهه العقلانيّ ومنحاه في ترك أحاديث الآحاد لإيماءات القرآن. وقد واجه الشيخ الغزاليّ هجوماً عنيفاً في أُخرَيات أيّامه من كثير من العُلماء الذين انتقدوا كِتابه "السّنة النبوية بين الفِقه والحَديث". والحقّ أن الشيخ الغزاليّ قد أفلتت منه عباراتٌ لا يصحّ أن تُنسب لعالم يدعو إلى الإسلام كقوله في معرض حديثه عن الحديث الذي رواه عمر بن الخطاب وأبو موسى الأشعري والمغيرة بن شعبة وعمران بن حصين "إنّ الميت ليعذب ببكاء أهله عليه" رواه البخارى ومسلم وابو داود والترمذي والنسائي وبن ماجة وأحمد، فقد قال بعد أن أعلن خطأ عمر في نقل الحديث، وأنه لابد أن يَرجع الفقهاء إلى القرآن ويُعملوا العقل حيث قرّر القرآن مبدأ "ألا تزِر وازرةٌ وِزرَ أخرى، ثم بعدها "إن وجدوا في ركام المرويات ما يتسق معه قبلوه" السنة النبوية بين الفقه والحديث ص17. والتعبير بالركام عن مجمل أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يوصفُ إلا بقلة الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أراها – إن استثنينا خطؤه في فهم هذا الحديث خاصة – إلا زلة لسان فاحشة سبق بها القلم لما عُرِف من غَضَب الغزاليّ ممن انتقدوا فهمَه للسُنّة وإتجاهَه العقلانيّ الإعتزاليّ من تقديم العَقل على النَقل، خاصة في أيامه الأخيرة، التي كان ردّ فعله عليها هو هذا الكتاب الملئ بالأخطاء الشرعية. ثم لا ينقُضُ هذا قدرَ الغَزاليّ فيما قدم في رِحلَة عُمره للدعوةِ الإسلامية وللشباب المُسلم.

      ثم انتقل الكاتب إلى الحديث عن طَه حُسين، فحاول أن يَرفعَ عنه وَصمةَ الكُفرِ التي أثبتها عليه عُلماء الأزهر فيما كتب " في الشعر الجاهليّ" حيث قرر أنّه لا يلزم أن تكون الأحداث التاريخية الواردة عن إبراهيم وسائر الأنبياء دليل على حقيقة تاريخية ثابتة، وأنّ القرآن إنما جاء في سياق تطور لُغويّ متسقٍ، إلا أنّ العرب قد تعمدوا محو ما كان من نثر قريب منه بعد الإسلام حتى لا يختلط به، وهو ما يوحى ببشرية القرآن، وينفى إعجازه. يقول الرجل في حديثه عن رحلة هاجر وإسماعيل :"ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعاً من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية، والتوراة والقرآن من جهة أخرى".

      وفي هذا السياق، حكى الكاتب عن طه حسين ما كان منه في رحلة عُمْرَة جاءت له في سياق إختياره عضواً اللجنة الثقافية للجامعة العربية، ولا أدرى لماذا لم يأخذ طه حسين البادرة بالذهاب إلى الأراضى المقدسة من حسابه الخاص كما يفعل فقراء الناس من أرجاء المعمورة، خلال عمر طال به فوق الثمانين، حيث يبكى ويتنهد كما فعل في هذه الرحلة التي جاءت من الجامعة العربية. وعلى كلّ حال، قد أفضى الرجل إلى ما قدّم، وهو بين يديّ خالقه، ولكن الحكم العلميّ "العقلانيّ" على الأشخاص لا يجب أن يكون بهذه البوادر التي تتجاوز إنتاج عمر كامل من الباطل، دون أن يكون هناك بادرة رجوع عما دوّنت. والأزهر، وغيره ممن كفّر طه حسين، لم يكفره من باب كرهه لرسولالله صلى الله عليه وسلم، ولا من باب إحتقاره للحجر الأسود، بل من باب ما روّج عن القرآن وقصصه وإعجازه مما يمكن للقارئ أن يراجع في نَقده العديد مما كتب العلماء الأدباء مثل مُصطفى صَادق الرافعيّ في رائعته "تحت راية القرآن".

      والله نسأل التسديد والثبات