لست ممن يحب أن يكون نذيراً دائماً بالويل والثبور وعظائم الأمور، لكني كما قال الشاعر:
نصحتُ لقومي بمنعرج اللوى فلم يستبينوا النصح إلا ضُحى الغدِوأمر الواقع المصري أصبح منذراً بهذا الويل ومؤشرا لهذا الثبور من أي زاوية نظرنا اليه. فإن الأخبار لا تحمل إلينا إلا مظاهر انهيار شبه تام على كافة الأصعدة الإقتصادية والسياسية والإجتماعية، ولا تأتي إلا بعلامات ذلك الإنهيار من سقوط عمارات وغرق سفن وحوادث مرور تجاوزت في العام الماضي وحده ضحايا العنف في العراق في الأعوام الثلاثة السابقة! عدا ما تمّ بيعه من مقدرات مصر العامة والغلاء الذي ضاعف الأسعار مرتين في العام الماضي وحده، وما تبعه من غلاء جنونيّ في العقارات. وهذه التطورات قد أدت بشكل تلقائي إلى ما يعادل خفضاً لدخل الفرد في مصر 50%! ثم ذلك الإنهيار السياسي الذي يتمثل في الفراغ الحزبي بين حزب حكومي رسميّ ليس له حقيقة ولا كيان إلا من أولئك المطبّلين والمزمّرين والساعين إلى منصب قياديّ أو كسب ماديّ، وليس للحزب برنامج إلا برنامج "التبرير" الدائم للقصور البشع للأداء الحكومي على كافة الأصعدة. ثم الإنهيار الإجتماعي المتمثل في القضاء التام على الطبقة الوسطى وانقسام المجتمع بشكل حاد إلى فئة فاحشة الثراء لا تزيد عن 2% من التعداد هم رواد النوادى الرياضية واصحاب الشاليهات والعمائر في السواحل الشمالية والشرقية، وفئة فاحشة الفقر هي البقية الباقية من الشعب بلا استثناء. ثم انتشار الفحش والرزيلة المتمثل في تلك الأفلام السينمائية والبرامج التليفزيونية المسلسلاتية التي تعكس انهزاماً فكرياً وتبعية للغرب يعكس بدوره انهزام النظام الحاكم وتبعيته للغرب.
هذا الخبط وهذه الفوضى ترجع في نهاية أمرها إلى عدم الوجود الحكومي في حياة الناس وفشل الحاكم التام والشامل في السيطرة على أي وضع من الأوضاع إلا الوضع الأمنيّ الذي يكفل له البقاء في الحكم. وما هذا إلا لأن الحاكم يفتقد الركنين الرئيسين اللازمين لرفع الأمة من حضيضها بدلا من إغراقها في الفوضى والإضطراب، وهما القدرة والإرادة.
فالحاكم فاقد للقدرة على التخطيط وعلى الرؤية لأنه معدوم الخبرة سواء في السياسة أو الإقتصاد أو الإجتماع، وهي طبيعة الحكم العسكريّ. وخلع الحاكم لبزته العسكرية لا يعنى أنه قد اكتسب الخبرة السياسية فجأة بالعلم اللدنيّ! بل فكره يظل هو هو خاصة وهو المسيطر الوحيد على القنوات السياسية وصنع القرار. ولنا في برويز مشرف حاكم باكستان العسكري خير مثال على ذلك. ثم إن تسليم مقاليد تلك القنوات إلى وليّ عهد الحاكم لا يُنشأ منه قبطاناً سياسياً يمكنه إرساء سفينة الوطن على برّ النجاة وسط هذه الأعاصير المدمرة. فالخبرة وليدة المعاناة، والمعاناة وليدة الممارسة، والممارسة تبدأ من قاع السلم السياسيّ لا من قمته، وكلا المعاناة والممارسة يفتقدهما ولي العهد في بلادنا العربية، ولنا في بشار الأسد مثال واضح على ذلك العجز.
ثم الحاكم، ووليّ عهده مفتقدان للإرادة التي تحرك العملية السياسية ومن ثم الإقتصادية والإجتماعية لتضبط الأمور وتعيد الثقة والعزم ومعاني التضحية والخُلق إلى أبناء الوطن بعد غياب دام أكثر من خمسين عاماً، ودمار خمسين عام مثلها. وإرادة الحاكم متوجه كلية إلى حفظ بقائه في سدّة الحكم وولي عهده من بعده مهما كانت التضحيات ومهما دفعت مصر من ثمن.
ولا مخرج من هذه النازلة التي تمر بها بلادنا إلا بالعمل الجادّ المتواصل من تلك البقية المخلصة من أبنائها رجالاً ونساءاً لنشر الوعي السياسي والثقافيّ والوقوف في وجه الموجة التغريبية العاتية التي ضربت البلاد في شكل الإقتصاديات الربوية والمافيا السياسية والصفقات المشبوهة والمهرجانات السينمائية والتلفزيونية التي لا تخدم إلا الفكر الإباحيّ الصهيونيّ ولا تدفع بالبلاد إلا إلى مزيد من الخمود واللامبالاة باسم الترفيه!
ولك الله يا مصر، ولكم الله يا مخلصي أهل مصر ورجالها – وقليل ما هم في أيامنا هذه، فالأمر خرج من ايديهم إلى أيدى اعدائهم في القليل والكثير على السواء، ورحم الله أحمد محرم حيث يقول:
يا قلب ويحك لا الأرْدُنّ طوعُ يدى إن جئت مستقياً يوماً ولا النيل