فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      مصر وقراءة بين عمارة يعقوبيان وعمارة لوران

      د. إبراهيم عرفات، عن جريدة الوطن القطرية

      عمارتان في مصر جذبتا الانتباه إليهما بشدة في الآونة الأخيرة. الأولى عمارة يعقوبيان لمؤلفها علاء الأسواني، والثانية عمارة لوران لمالكتها هانم العريان. أما يعقوبيان فعمارة حقيقية تقع وسط العاصمة المصرية القاهرة أنشأها عميد الجالية الأرمينية في مصر هاجوب يعقوبيان عام 1934، ثم جاء علاء الأسواني في 2002 ليتخذ من اسمها عنواناً لروايته الشهيرة التي حققت نجاحاً مدوياً. واستطاع الأسواني في تلك الرواية أن يجسد بدقة التحولات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية العميقة التي مر بها المجتمع المصري في العقود القليلة الماضية، موظفاً أسلوباً بديعاً جعل مصر بكامل مسطحها الأفقي من الصعيد إلى الاسكندرية تعيش محشورة بكل تناقضاتها في بناء رأسي واحد. أما العمارة الثانية فكانت مأساة إنسانية مدوية شهدها حي لوران في مدينة الإسكندرية قبل أن يبلغ عام 2007 نهايته ببضعة أيام. فقد هوى البناء المكون من اثني عشر طابقاً على من كان بداخله ليسقط أكثر من ثلاثين قتيلاً تحت الأنقاض وليبدأ من بقي على قيد الحياة من سكانه المنكوبين في البحث عن مأوى يلجأون إليه. وفور وقوع الكارثة صدرت تصريحات اعتاد الناس أن يسمعوها وانتقادات اعتادوا أن يقولوها إلى أن تهدأ المشاعر وتعود الأوضاع إلى ما كانت عليه من استرخاء زائف انتظاراً لوقوع الكارثة التالية.

      ولم يكن سقوط عمارة لوران إلا لقطة مؤلمة جديدة أضيفت إلى ألبوم الذكريات الحزينة لدى المصريين في الآونة الأخيرة. فذاكرتهم القريبة لم تنس حوادث أليمة مثل غرق العبارة في عرض البحر الأحمر وواقعة أكياس الدم الملوثة وحريق مسرح بني سويف وسلسلة من حوادث القطارات ومخالفات أخرى متفاوتة تنم عن تفشي الإهمال والاعتياد عليه وتعاظم الجشع والتجرؤ عليه وغياب الحساب والاستخفاف به.

      والعمارتان معاً- يعقوبيان ولوران- ليستا مجرد بنايتين رأسيتين واحدة في القاهرة والأخرى في الاسكندرية وإنما تعبير عن حالة مسطح بشري وجغرافي كان بإمكانه، ولا يزال إن أراد، أن يكون أحسن بكثير مما هو عليه وأن يؤدي في السياسة والاقتصاد أفضل عدة مرات لو أخذ أموره بمزيد من الجدية والصدق ولو أعاد للوظيفة الأخلاقية للدولة حياتها وهيبتها.

      والدعوة لأخذ الأمور بمزيد من الجدية والصدق، والحديث عن استنهاض الوظيفة الأخلاقية للدولة ليس أمراً مستحباً بشكل عام، كما أنه يفتح باباً واسعاً للجدل في حالة مصر بوجه خاص. فبشكل عام، من منا يتقبل بارتياح ملاحظات الناس على تصرفاته أو تعديلهم على سلوكياته؟ قليلون بالتأكيد. وإذا كان هذا هو الحال مع الأفراد، فالأمر لا بد وأن يكون أكثر صعوبة بالنسبة للدول التي قد تأخذ النصح الأخلاقي بحساسية، بل ويمكن أن تسيء تفسيره فتعتبره تدخلاً في شؤونها وإساءة لكرامتها وخدشا لهيبتها واعتداء على خصوصيتها وما إلى ذلك من عبارات ضخمة تخرج الموضوع برمته عن سياقه الصحيح. وكي يبقى الموضوع في سياقه الصحيح، ومع كامل الاحترام لكل هذه الحساسيات، فإن الحديث عن الجدية والصدق، وعن الضمير والأخلاق حديث لا مفر منه لأي أمة تريد أن تتقدم، ليس فقط لأن الأمم الأخلاق ما بقيت ولكن لأن ألف باء علم السياسة يؤكد أن الدولة عليها أن تؤدي وظيفة أخلاقية لا يمكن أن تتهرب منها أياً كان نظامها الاقتصادي أو السياسي، لسبب بسيط هو أن التغافل عن أدائها يحد من قدرتها على أداء الوظائف الأخرى.

      ولا يعني أن يكون للدولة وظيفة أخلاقية مطالبتها بالتحول إلى واعظ ديني يُسّير شرطة من المحتسبين وراء الناس بالعصا لتحملهم على أداء الشعائر. فالدولة في جوهرها تكوين مدني لا يشغل نفسه بالتفاصيل الأخلاقية أو الدينية الخاصة جداً بالمواطنين. فلا يعنيها مثلاً ما إذا كانوا يصلون أو يصومون، يلتحون أو يهذبون اللحى، يلبسون بنطلون جينز أو يرتدون جلباباً قصيراً. فهذه أمثلة لخيارات لا يحسمها إلا الفرد لنفسه وبنفسه. أما الوظيفة الأخلاقية التي لا يمكن للدولة أن تتخلى عنها وإلا أصبحت مقصرة فتتجلى في التطبيق الصادق والأمين لكل القواعد المنظمة للسلوك العام والتأكد من التزام الناس بأخلاقيات مسؤولة عند استعمال المرافق والخدمات العامة بحيث يتعرض كل من يخالفها للعقاب. فلا يمكن مثلاً أن تكون قيادة السيارات في الشوارع على الكيف، أو أن يكون الوقوف في الممنوع جائزاً لناس وممنوعاً على آخرين، أو أن يصبح التخلص من القمامة مسألة شخصية يقررها كل فرد بطريقته في الوقت والمكان الذي يريده، أو أن يُترك بيع الدواء والسلع خارج المنافذ المصرح بها، أو أن يصبح حصول المخالف على رخصة بناء أو قيادة أو على شهادة ممكناً طالما يدفع أو لديه واسطة، وغير ذلك من مخالفات تنتهك القواعد القانونية التي تضعها الدولة من أجل تحقيق العدالة والحفاظ على أمن المجتمع وضمان سلامته.

      ومن يضع عمارتي يعقوبيان ولوران في الصورة يتضح أمامه بلا لبس أن الوظيفة الأخلاقية للدولة في مصر تعاني حالة من القصور والانكماش. فلو كان تطبيق القواعد المنظمة للبناء حازما لا يجامل أو يرضخ أمام النفوذ أو يتساهل مع المخالفين لما كانت عمارة لوران قد سقطت وربما ما كانت بنيت مخالفة للمواصفات الهندسية من الأساس. ولو كان طه الشاذلي ابن البواب الفقير في قصة يعقوبيان قد وجد القواعد التي استبعدته من كشف الهيئة وهو يتقدم للالتحاق باحدى الكليات المرموقة تستبعد أيضاً من هم أقل منه علمياً لما كان الإحباط قد تسرب إليه ليقع فريسة في يد جماعات العنف والتطرف. وليس بمبالغة أبداً التأكيد على أن أداء الوظيفة الأخلاقية شرط لازم لأمن واستقرار الدول لأنها بإيجاز وظيفة مكرسة لإقامة العدل الذي هو أساس الملك.

      غير أن النظر إلى ما يجري في مصر من زاويتي يعقوبيان ولوران على وجه الخصوص وما يكشفانه عن حاجتها للتعامل مع مشكلاتها بمزيد من الجدية لأمر يثير جدلاً يمس صميم الشخصية المصرية. فقد شاعت صورة نمطية بين المصريين عن أنفسهم ولدى غيرهم من شعوب المنطقة عنهم بأنهم من أكثر أهل الأرض براعة في الضحك والمؤانسة وخفة الظل. وهو ما لم يغب عن اثنين من أبرز المؤرخين العرب عبر العصور. فبعد أن استقر عبد الرحمن بن خلدون في مصر ودرس عادات أهلها وصفهم قبل أن يموت ويدفن على أرضها في 1406 بأنهم «يميلون إلى الفرح والمرح وإلى الخفة والغفلة عن العواقب» وأنه أول ما رآهم اعتقد «أنهم فرغوا من الحساب». وهو تصوير يقترب منه شيخ المؤرخين المصريين تقي الدين المقريزي الذي أوضح أن «من أخلاق أهل مصر الإعراض عن النظر في العواقب والاشتغال بالترهات والانغماس في الملذات، كما أنهم بارعون في الملق والبشاشة إلى حد التفوق على كل من سبقهم وكل من أتى بعدهم».

      ويتسرع من يعتمد على تلك الصورة النمطية ليصدر حكماً على المصريين بأن عليهم أن يتحملوا ما وصلت إليه أحوالهم من تدهور طالما أنهم يتعاملون مع مصائبهم باستخفاف بل ويقدمون أطرف ما لديهم من تعليقات وأجمل ما يمكن أن يسمعه الإنسان من نكات وهم في خضم الكوارث ومعمعة التحديات وكأنها المادة الخام التي لا يضحكون أو يتلهون إلا بها. والأمر هنا يحتاج بالتأكيد إلى إعادة نظر. فإذا كان إنكار قدرة المصريين على صنع النكتة والميل إلى الدعابة خطأ، فإن القطع بأن الجدية التي تنقصهم سببها نهمهم إلى المرح والبشاشة خطأ أكبر. فالصور النمطية مجرد وسيلة مساعدة للإيضاح وليست مرآة عاكسة للواقع. فهي لا تنقل الحقيقة كما هي وإنما تقدم صورة عنها حينما تأخذ سمةً موجودة فتبالغ فيها وتجعلها تبدو وكأنها المعلم الأوحد لبلد بأكمله. لهذا فإن الصور النمطية تعد اختصاراً مخلاً للواقع وليست تعبيراً سليماً عنه.

      ولا يقل خطأ عن الاعتماد على الصورة النمطية الشائعة عن المصريين الإدعاء بأن الشخصية القومية المصرية هازلة بطبيعتها. فتعبير الشخصية القومية ذاته غير دقيق لأنه لم يثبت أن أبناء الوطن الواحد يتصرفون بشكل واحد أو أن تفضيلاتهم وميولهم واحدة. لهذا، فإن الشخصية القومية المصرية، إذا جاز استعمال التعبير، تحمل بداخلها تنوعاً هائلاً. فليس كل مصري بارعا في تأليف أو إلقاء النكت أو ماهرا في فنون الأهازيج. كما أن هناك مصريين كثيرين قدموا إبداعاً قيماً في الرواية والشعر والغناء والقانون وصنوف كثيرة من العلوم والفنون لا يمكن أن يكونوا قد أبدعوها لأنهم هازلون وإنما لأنهم أخذوا الأمور على محمل الجد.

      ثم من قال ان الدعابة والهزل في مصر لا تدخل في صميم الجد، بل قد تكون أحياناً هي الجد بعينه. فالنكتة في مصر لا تفر من الواقع وإنما تتحداه وتواجهه عندما تنتقده وتسخر منه وتحرجه بالتعليقات اللاذعة والشعارات الطريفة. ومن تابع الحراك الجاري في الآونة الأخيرة ووقفات الاحتجاج التي قام بها عمال الغزل والنسيج وموظفو الضرائب العقارية لا بد وأنه لاحظ كيف وظف المحتجون الطرفة والدعابة لخدمة قضاياهم الجادة إلى حد أن بعض المسؤولين الذين خرجت تلك الجموع للاحتجاج عليهم سُروا وتبسموا من طرافة الشعارات التي كانوا يسمعونها.

      لهذا لا يمكن أن يكون العائق أمام أخذ مشكلات مصر بمزيد من الجدية عائدا إلى الشخصية المصرية لأن ذلك يسجل الخطأ ضد مجهول ويلقي بالمسؤولية على من لا يجب أن يتحملها، على الأقل بمفرده. نعم هناك سلبية وعزوف من المجتمع عن المشاركة، بل ويوجد بين الناس نفر يحب أن يصنع الملهاة حتى ومجتمعه يمر بمأساة. لكن ذلك يجب ألا يخفي أن نقص الجدية في التعامل مع الكوارث المتكررة تتحمله الدولة جنباً إلى جنب مع المجتمع بل وإن نصيبها من المسؤولية أكبر بعد أن قصرت في أداء وظيفتها الأخلاقية وتوانت عن تطبيق القواعد الضابطة للسلوك العام بصرامة وحيادية دون مجاملة أو استثناء. ومنذ أن أُهملت تلك الوظيفة تعرضت تلك القواعد للتآكل والبلى، ما سبب فراغاً هائلاً حاول الناس أن يملؤوه بطريقتهم. فظهرت قواعد بديلة وطرق موازية بدأ الناس يسلكونها لإنجاز مصالحهم وتصريف أمورهم. وكانت النتيجة في مجال الإنشاءات وحده أن عشرات الآلاف من الأبنية المخالفة منحت تصاريح لم تكن تستحقها. ومع كل مخالفة بناء كانت ترتكب كان موظف مخالف جديد يولد ومعه مواطن أو أكثر يشجعونه ويغرونه على التمادي في المخالفة. وكلما حاول القانون سد ثغرة أمام المخالفين ما لبث أن فتحها لهم قانون آخر. وتلك نقطة جوهرية ينبغي التأكيد عليها لأن تنشيط الوظيفة الأخلاقية للدولة لا يتحقق بسن القوانين وإنما بتطبيقها بجدية تردع المخالفين وبنزاهة تقنع المواطنين بأن كلا منهم سيحصل على حقه دون اللجوء إلى المسالك البديلة. ولما كانت ثروة مصر العقارية تصل على أقل تقدير إلى 270 مليار جنيه فإن كثيراً من الجدية مطلوب لإدارتها. ولا سبيل لذلك إلا أن تأخذ الدولة وظيفتها الأخلاقية على محمل الجد.