"يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ"17
وفي هذه السلسلة من التوجيهات النبوية، يأتي لقمان عليه السلام إلى تصوير الحياة كما هي كائنة وتوجيهها كما ينبغي أن تكون. فالأمر بإقامة الصلاة هو، كما هو ديدن النهج القرآني، أمرٌ بإقامة الشرع لا مجرد الصلاة، فالصلاة مظهر أصليّ في تحكيم الشرع، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بأن يتحسس الصحابة عن الآذان قبل أن يغيروا على أهل المحلة، فإن سمعوا الآذان أمسكوا عن الإغارة. ولا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن ليرضى بمجرد إقامة الصلاة مع تضييع بقية الأحكام التي جاء بها، وإنما هي مجرد دلالة على الإلتزام بالإسلام إلى أن يثبت خلافه، كما فعل الصدّيق رضى الله عنه من حرب تاركي الزكاة وإن كانوا لا يزالون على الصلاة. فلقمان عليه السلام يوجّه ابنه، كما ينبغي على كلّ أب أن يوجه أبناء الجيل التالي أن يلتزموا بالإسلام قولاً وعملاً، عقيدة وشريعة، تصديقاً وإلتزاماً.
ثم يخصّ لقمان عليه السلام بالذكر إحدى الشرائع الإلهية التي بها تحيا الأمم وتنصلح أحوالها ويعلو صالحها ويزهق باطلها، ألا وهي شريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي تتصاعد درجاتها حتى مقام الجهاد في سبيل الله. وهذا الواجب الشرعيّ الدعويّ الإجتماعيّ لا يصح أن يتركه مسلم يؤمن بالله وبصلاحية شرعه لكل زمان ومكان، بل إنه من الضرورات التي جاءت بها كافة الشرائع وتواطأت على العمل بها كافة الأمم، فالمسلمون ليسوا بدعاً في ذلك، بل هو واجب لا تحيا بغير إقامته الأمم كافة، والفرق بين المسلمين وغيرهم في إعمال هذا المبدأ ينحصر في أمرين، أن المسلمين جادون في العمل به إذ هو جزء من شرعهم الإلهي، ثم إنهم على علمٍ يقينيّ بما هو معروف فينكروه وما هو منكر فيغيّروه، وغيرهم يختلط عندهم بعض صور المعروف ببعض صور المنكر، فلا تستقيم لهم الحياة كما ينبغي لها أن تكون، وما ذلك إلا لأنّ معروفهم ومنكرهم إنما هما محض ما تعارفوا عليه وضعاً وما دلـّتهم عليه العقول دون هداية إلهية، ومن له أن يعرف المعروف بإطلاق والمنكر بإطلاق دون تلك العناية الإلهية التي تعرف ما يترتب على كليهما في المدى القريب والبعيد.
ولا يفوتنا هنا أن نلحظ التلازم بين الأمر بالمعروف وبين النهي عن المنكر، ففريضة الأمر بالمعروف لا تتم دون فريضة النهي عن المنكر، وبيان الحق وتزكية أهله لا يغنى إلا ببيان الباطل وفضح أهله، وأولئك "الطيبين" من المسلمين الذين يعتقدون أنه من "الورع" عدم الحديث عن الباطل والبدعة وفضح أهلهما إنما هم يفرقون ما جمع الله سبحانه، ويقطعون ما وصل، فهي غفلة عن السنن الإلهية كما أنها تضييع للمصلحة المترتبة على إقامتها.
ثم إنّه من حق الرعاية أن يحذّر لقمان عليه السلام من جرّاء الإلتزام بهذا التوجيه الرباني، إذ إن إقامة هذا الواجب الشرعي حق الإقامة لا ينشأ عنه إلا الأذى للداعية فأعداء المعروف كثيرون، وأصحاب المنكر كثيرون، والأذى لا بد واقع للدعاة إلى المعروف، النهاة عن المنكر، لذلك ذكر الله الصبر على الأذى دون ذكره إذ هو واقع محتوم لا مفرّ منه، والصبر عليه هو الواجب الشرعيّ لا تلافيه أو عدم الدخول ابتداءاً فيما يؤدى اليه،، وإلا فهو الرضى بالمنكر والبعد عن المعروف. وفضيلة الصبر على الأذى وإحتمال المصيبة في الله هى التى تكون بعد الفتنة وأن يتمرس المسلم بالصلاة وما تبنى في النفس من الإطمئنان بالله، ثم أن يعرف المعروف ويمارسه فيحبه فيتمناه للناس فيدعو اليه الخلق بكرة وعشياً، وأن يعرف المنكر ويكرهه فيتجنبه ويتمنى أن يتجنبه الناس فيحذرهم منه بكرة وعشياً، ثم إن تمّ له ذلك، وقف الشر في كلّ طريق واعترضه الباطل في كل خطوة، فوقع له البلاء والإمتحان والفتنة، فطُلب منه الصبر وهو قمة ما يصل اليه المسلم إذ هو من عزائم الأمور التي لا يصبر عليها إلا الخاصة من أولى العزم، وهنيئا لهم ما سيلقـّونه من ثواب.