فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      9- المباح المحرّم - 2/3

      وأخيرا، جاء موعد اللقاء وكأنة تأخر خمسين عاما مرت علىأم أنس منذُ أن صرّحت لأخواتها ما أقدم عليه زوجها من زواج، وماتعيشه من لوعة وحرقة، وإن خفف عنها بعض ذلك ما سمعته من أم أنس في الجلسة السابقة.

      ثم حين التأم الشمل واستقر المقام، شرعت أم الفضل قائلة بعد حمد الله والصلاة والسلام على رسوله: حدثتكن أخواتي الفاضلات في لقائنا السابق, عن آيات الله الكريمة التي انحرف بها المغرضون أو من لم يستقيم لهم الفهم عن أصل وضعها، حيث يقول الله سبحانه في سورة النساء "فإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فأنكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم, ﺬلك أدنى ألا تعولوا" النساء ٣، ثم يقول عز من قائل في النساء ١٢٩"ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم " وبينهما ٩٩ آية ! فجمع بينهما جامع وجعل الجزم بعدم القدرة على العدل منعا من التعدد المباح في الآية الاولى ! لكن هذا خطأ فاحش في تناول الآيات القرآنية, اﺬ إن الآية الثانية هي آية خبرية لا آية انشائية أي إنها تخبر عن أمر كائن لا إنها تنشأ حكما يُتبع. ثم إن الله سبحانه قد قال في الآية نفسها "فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة" وفي هذا بيانٌ لما يجب أن يكون عليه العدل المطلوب شرعا، فكأن الله سبحانه يقول " يابني آدم، أنا أعلم بأن العدل المطلق الذي لا ميل فيه قط هو غير مقدور لكم، فإنكم إن تزوجتم أكثر من واحدة لن تستطيعوا أن تعدلوا العدل المطلق لما في طبيعتكم من النقص، ولكن هذا لا يمنع من أن التعدد حلال مباح لكم، واذن فإن العدل المطلوب منكم هو العدل الممكن لبني الانسان، فان الله لا يكلف نفسا الا وسعها، وهو بأن لا تميلوا " كل الميل" فتصبح الزوجة الأخرى كالمعلقة، لا هي عزبة ولا هي متزوجة، و هذا ما فيه من الظلم ما فيه، ويكون اﺬن "بعض الميل" مسموح. وقد حدده الفقهاء بالميل القلبي كما في حديث عائشة قالت "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه فيعدل ويقول "اللهم هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " رواه الترمذي في كتاب النكاح، قال "إنما يعني به المحبة والمودة" أو في المعاشرة الزوجية كما ذكرَ بن قدامة في المغني: قال: "و لو وطىَْ زوجتهُ و لَم يطأ الأُخرى فليسَ بعاصٍ" لا نعلمُ خلافاً بينَ أهل العلم في أنهُ لا تجب التسويه بينَ النساء في الجماع، وهو مذهب مالك و الشافعيّ، وذلك لأنَ الجماع طريقهُ الشهوه و الميل، و لا سبيلَ إلى التسويه بينهُنَ في ذلك، فأن قلبه قد يميل إلى أحداهما دون الأخرى. قال تعالى: " و لن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء و لو حرصتم", قال عبيده السلماني: "في الحب و الجماع، وإن أمكنت التسويه بينهما كان أحسن وأولى فإنه أبلغ في العدل" المغني ج ٧ ص٢٥.

      ثم إن ما ردده كثير من الناس، بعلم مغرضٍ أو بجهل مردٍ، فيما رواه البخاري من حديث مسعود بن مخرمه قال: كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول وهو على المنبر "إن بني هشام بن المغيره قد إستأذنوا في أن ينكِحوا إبنتهم عليّ بن أبي طالب فلا آذن ثمّ لا آذن ثمّ لا آذن، إلا إن يريد بن أبي طالب أن يطلق إبنتي و ينكح إبنتهم، إنما هيّ بضعةٌ مني يريبني ما أرابها و يؤذيني ما أذاها هكذا قال" البخاري كتاب النكاح.

      وقد وهم الكثير من "الطيبين"، وأشاع الكثير من "المغرضين" أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد منع التعدد بهذا الحديث، وسبحان الله العظيم، يمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر قد أحله الله سبحانه في القرآن الذي أنزل عليه بل وفعله هو نفسه صلى الله عليه وسلم تسع مرات! والحق أن يفهم الحديث على وجهه، لا أن تضرب الشريعة بعضها ببعض. ولنفهم هذا الأمر يا أختي العزيزة، فلنعلم أن المخطوبة كانت جويرية- على المشهور من أسمها- بنت أبي جهل، همهمت النساء " أبا جهل، يا أم الفضل، أبا جهل؟! قالت أم الفضل :" نعم بنت أبي جهل الذي عادى الاسلام ورسوله عداء شديدا بغيضا لا مزيد عليه, فابنته هي التي عرض أهلها على علي بن أبي طالب أن يتزوجها. وهو ما يفسر سر هذا المنع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، اذ كيف تجتمع اثنتان، أبو الأولى صلى الله عليه وسلم وأبو الاخرى، أبا جهل لعنة الله عليه، في بيت واحد؟ هذا لا يكون. والحديث فيه زيادة في رواية الزهري:" واني لست أحرم حلالا ولا أحلل حراما، ولكن والله لا تجمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل أبدا". اذن، حسمت هذه الزيادة الأمر وقطعت لسان المتخرصين، فإن السبب هنا هو ما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم منكرا وهو أن تجتمع ابنته، بنت سيد المرسلين وبنت عدو الله اللدود في بيت واحد، وما في ﺬلك من أذى لفاطمة، وكل ما يؤذيها يؤذيه. ثم كذلك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أشفق على فاطمة أن تصيبها الغيرة، وهو شعور طبيعي انساني مقبول بحدوده، رغم ايلامه في بعض الأحيان، ففاطمة رضى الله عنها، كما يقول الحافظ في الفتح " كانت أصيبت بأمها ثم بأخواتها واحدة بعد واحدة، فلم يبقى لها من تستأنس به ممن يخفف عليها الأمر ممن تفضي اليه بسرها اذا حصلت لها الغيرة" الفتح ج۹ ص ۳٦٤.

      ولهذا ترجم البخاري لهذا الحديث تحت عنوان " باب ذبّ الرجل عن ابنته في الغيرة والانصاف". ثم إنه في زيادة للزهري "وأنا أتخوف أن تفتن في دينها" قال بن حجر" يعني أنها لا تصبر على الغيرة فيقع منها في حق زوجها في حال الغضب ما لا يليق بحالها في الدين" ولا ننسى اخواتي الكريمات أن فاطمة هي فاطمة سيدة نساء العالمين، فهي ليست كأحدنا، حتى أن بن حجر قد صرح برأيه في الأمر فقال "والذي يظهر لي أنه لا يبعد أن يعد في خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، أن لا يتزوج على بناته ويحتمل أن يكون ﺬلك خاصا بفاطمة عليها السلام" فتح الباري ج۹ ص ۳٦٤. ثم أمرآخرهو أنه كما قال ابن حجر، لو أن فاطمة رضيت لما منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الزواج كما ﺬكر بن حجر ج۹ ص ۳٦٥.

      من هذا كله نرى أن الآستشهاد بهذا الحديث لا يصح، بل لا يليق، فان مقام فاطمة ليس كمقام غيرها من النساء، ومقام أبيها ليس كمقام احد من العالمين، ومع ﺬلك فقد صرح صلى الله عليه وسلم أنه لا يحرم حلالا ولا يحلل حراما، وأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوج هو نفسه بتسع لا يجرأ أحد يدعي الاسلام أن يقول أنه أضر بهم أو لم يراع لهن خاطرا. وهو صلى الله عليه وسلم الذي حبب الى أمته التعدد. ترجم الحافظ بن حجر في فتح الباري تحت عنوان " باب كثرة النساء " من حديث البخاري بسنده عن سعيد بن جبير قال: قال" ابن عباس هل تزوجت؟ قلت :لا، قال: فتزوج فان خير هذه الامة أكثرها نساء" فتح الباري كتب النكاح ج۹ ص ١٢٤.

      قالت النساء: حان وقت الرحيل يا أم الفضل، فما نراك الا آخذة في هذا الحديث حتى تطلع شمس اليوم الآخر! وقد آن أوان الانصراف لنقوم بحق بيوتنا فحفظ حقها واجب مشروع . قالت أم الفضل: انطلقن راشدات والى لقاء قريب, ولحديثنا بقية.