فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      وصايا لقمــــان (3): "أن أشكر لي ولوالديك…"

      "وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا(15)"

      حين تأتي ساعة الميلاد، والأم المرهقة العانية من حَمل ثـِقلها وهناً على وهنِ وضعفاً على ضعفٍ، ينزف عَرَقـُها على جبينها من الإرهاق المُـكِدّ وتتقلص ملامحها من الألم المُمِضّ، والأب الوجلُ المتوتر لا يعرف ما يفعل، بل يتحرك من حولها موهماً نفسه أنه في شُغُلٍ وهو عن كلّ شيئ حوله في شُغُلٍ بالوليد المرتقب! والقوم يقفون من حولهما يترقبون لا يكادون يحيرون، يصنع الله سبحانه المعجزة المتكررة، ويخرج الوليد الجديد بصرخة كأنه قد فزع من لقاء الدنيا، ويبزغ في حياة الوالدين أمل جديد صنعته لهم يد العناية الإلهية فتنة ونعمة.

      وتستمر بالوالدين ملحمة الألم والأمل، سنتان للفصال، هما أيسرها عليهم، ثم يأتي دور التنشئة والتربية والتوجيه. قصة كفاح مدادها السهر والأرق الذي لا يكاد ينتهى. كا من مرض يصيب الولد إلاّ ويمرض له الوالدان، ما من إختبار يجتازه الولد إلاّ ويجتازه الوالدان قبله، القلق من صديق جديد، من رحلة تأخذه بعيدا عن البيت، من مكالمة تليفونية غير مبررة. ثم يأتي حين الزواج، وإختيار العريس أو العروس، ثم همّ متابعة الزواج في مراحله الأولى، حيث يكون يمرّ الزواج بأصعب مراحله، ثم الأحفاد وا أدراك ما الأحفاد... وفي كلّ هذا ينسى الوالدان حق نفسيهما، وينشغلا كلّ الشغل بحق أولادهم، ومهما تجنى الأبناء، ومهما أخطئوا وكلّفوا الآباء من مشقة مالية ونفسية وجسدية، لا يتغير حبهم ولا يتبل ولا ينقص مقدار ذرة، وإن غضبا فإنما هو غضب الرحمة والشفقة لا غضب الحنق والشدة، وصدق الشاعر

      فقسا لِيزدجروا ومن يكٌ رَاحماً ***** فليقسُ أحيانا على من يرحمِ

      لذا، فإن الله سبحانه لم يسجل كلمات لقمان في هذا الشأن، بل جاءت الوصيّة منه سبحانه لبني آدم، برعاية الوالدين وخفض جناح الذلّ لهما ما عاشا، والترحم عليهما والدعاء لهما إن غادرا إلى الدار الآخرة، فهذا أقل حقهما عليهم.

      والله سبحانه قد قدّم الشكر له سبحانه بعد ذكر الوصية بالوالدين قبل أمر الشكر لهما لأن الفضل الأول له سبحانه أن هيئ للولد من يرعاه صغيراً ويشفق عليه كبيراً، فهو سبحانه مصدر هذه النعمة ومبدؤها، فكان الشكر له سبحانه مقدم على الشكر للوالدين. ولكن قرن شكرهما بشكره يجعل هذا الواجب آكد الواجبات وأكثرها فرضية في حياة المرء، فكما أن الله سبحانه يرعى الناس ويربيهم بالنعم فوجب شكره ابتداءاً، فالوالدان يرعيان الأبناء ويربيانهم، فوجب شكرهم ثانية.

      ولا يقف الشكر عند حدّ فيما يتعلق بحق الوالدين في الدنيا، مهما كانت احتياجاتهما، ومهما سبّب ذلك للأبناء من تعب وجهد، إلا أن يكون ذلك الذي يدعون اليه هو إغماط حق الله سبحانه الذي يستحق الشكر إبتداءاً لحساب من يستحق الشكر ثانية، فلا يجب في هذا طاعة مخلوق وإن كان الأبوين. إلا أن ذلك لا يمنع من حفظ حقهما في الدنيا ومصاحبتهما بالمعروف لحقهما الثابت على الأبناء وإن كانا من المشركين الضالين، فهذا لا يمنع من حفظ هذا الحق الذي لا يسقط بكفر أو شرك. والله لا يظلم مثقال ذرة، ولا يحب لعباده أن يظلموا من أحسن اليهم، ومن مثل الأبوين في الإحسان، ثم يبقى أمر الإيمان والكفر إلى الله سبحانه، الذي ختم هذه الوصية بقوله: "ثم إلى مرجعكم" فالمرجع اليه في أمر الإيمان والكفر ولكن الإحسان إلى الوالدين واجب لا يسقط مهما كان السبب، فما أعدل الإسلام وأقوم تعاليمه وأهداها إلى الحق والنُصفة.