فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      الوضع السياسيّ .. وشبكة العلاقات الإسلامية

      الحمد لله والصّلاة والسّلام على رَسول الله صلى الله عليه وسلم

      لا شك أنّ العلاقات السياسية الإسلامية-الإسلامية، والعلاقات الإسلامية-الرسمية (المجلس العسكري)، يشوبها الكثير من الغموض والضبابية والإضطراب، بدرجات متفاوتة. لذا يَحسن بمن أراد أن يَستشفّ مكنونات الأيام القادمة، أن يحاول فهم هذه الشبكة المعقدة من العلاقات، وأن يخرج من تصورها بما يتلاءم مع ماضيها، وحاضرها، وطرق تعاملها مع الأزمات على مرّ تاريخها. وسنكتفي في هذا المقال على العلاقات الإسلامية-الرسمية، إلى حين.

      ونسبق بالقول أن السُلطة، أي سُلطة، لها مسارٌ محددٌ في التعامل مع من هم خَارجها. فالسلطة عموما، تنطَلق من مرتكز الحفاظ على مصالحها، وحقيقتها الحفاظ على بقائها. وهي بوصلة مؤكدة لكل من يتعامل مع السلطة الحاكمة، يعرف بها توجه الأحداث ومسار الأحاديث. والجاهل من يتعامل مع هؤلاء من منطلق ثقةٍ أو تفاهمٍ. والعميل من يتعامل مع هؤلاء من منطلق مصلحة متبادلة، يُخرجها مَخرج الثقة أو التفاهم. وأول هذه الفصائل التي سننظر في أمرها الإخوان، ثم السّلفيون، ثم الجَماعة الإسلامية.

      رغم أن علاقة الإخوان بالسلطة كانت دائما تقوم على مبدأ "التقرب"، فقد تقلبت تلك العلاقة في ثلاثة مراحل، أولها قبل إنقلاب 1952، حيث كانت الإخوان ترى في نفسها الندية والتكافؤ، ومن ثم يمكن أن نقرر أن هذا المبدأ كان مبدءاً عاملاً من الجهتين، لا من جهة واحدة. والمرحلة الثانية، وهي تبدأ في نظرنا منذ نكّل عبد الناصر بالإخوان عام 1953، إلى بداية السبعينيات، إبان حكم السادات. وفي هذه المرحلة بدأ العلاقة الندّية، التي تعودها الإخوان في العصر السابق للديكتاتورية الناصرية تعود عليهم بالوبال والإعتقال، مما أدى إلى تطورٍ فكرهم داخل المعتقلات، عقدياً وحركياً، كما هو ثابتٌ معروف. وهي هذه المرحلة لم تكن هناك فرصة للإخوان أن يمارسوا أي دورٍ، سواءاً تقاربياً أو تباعدياً، إذ خرج أمرهم من ايديهم في تلك المرحلة. ثمن في المرحلة الثالثة، والتي بدأت منذ أن بدأ السادات في إطلاق سراح كثيرٌ من الإسلاميين، وبدأت الجماعة تدخل إطاراً جديداً من التعامل مع السلطة والشعب في آن واحد، حيث وجّهت فعالياتها إلى السَيطرة على النقابات المهنية والحركات الطلابية. وفي هذه المرحلة بدأ مبدأ "التقرب" من السلطة، يأخذ منحى تنازلياً لحساب السلطة، الإخوان عن الندية في عملية "التقارب"، وشيئاً فشيئاً، أصبح التقارب قريبا من "التبعية"، التي ظلت السلطة ترفضها وتتعامل معها بشكل مصلحيٍّ كعادتها.

      الدافع في السياسة الإخوانية الحالية، هو الحكم، ووسيلتها السياسة، ومنهجها إمساك العصا من "الثلث" ثلثيها تجاه السلطة وثلثها خلافها. ومن هنا فإن علاقة الإخوان بالمجلس العسكريّ، وإن لم يكن هناك إتفاقٌ مكتوب، إلا إنها علاقة أقرب للتبعية و"التنازل" منها إلى أي شيئ آخر.

      أما عن السلفيين، فهم، كما ذكرنا من قبل في عديد من مقالاتنا، مثل العدو الودود للسلطة، ومرت في علاقتها بثلاثة مراحل كذلك. فمنذ بدأت الحركة السلفية الحديثة، في بداية السبعينيات، وهي تنأى بنفسها عن السلطة، وعن السياسة، بشكلٍ كاملٍ، ومن هنا فإنه لم تكن هناك أية علاقةٍ من جهة السلفيين بالسلطة، إلا ما هو من قبيل بطش السلطة ببعض أفرادها كلما رأت أن الأمر يحتاج إلى تأديب أو إصلاح! وقد ظلّت هذه المرحلة في تاريخ السلفيين مستمرة طوال عشرين عاماً، حتى حرب الخليج الأولى، على هذا المنوال، يدعمها تأصيلٌ ظَهر في أوائل التسعينيات، تولّى كِبرَه مُحمد أمين الجاميّ وربيع المَدخليّ، بمباركةٍ عينية ومعنوية من ملوك الخليج إبان الحرب على الكويت. وهو تأصيل يدعو إلى الخضوع للحاكم، على أنه ولي أمرٍ مسلمٍ واجب الطاعة، بل وبالوشاية بمن يدعو إلى الوقوف في وجه الطغيان، وهو ما استوردته الحَركةُ السلفيةُ في مصر بدرجاتٍ مُختلفة، ورحبت به السّلطة أيما ترحيب. ثم، في المرحلة الثالثة، وهي أحدثها، إذ لا يزيد عمرها على ستة أشهرٍ، هي عمر الثورة المصرية، أدركت غالب قيادات السلفيين عقم المنهج الجاميّ المدخليّ، بل وعقم منهج الوقوف "على الرصيف"، إن صحّ التعبير، عقماً عقدياّ وعملياً. فخرجت جموع السلفيين، تدفع أمامها قياداتها، لا العكس، إلى شوارع مصر، وكادت أن  ترسم بنفسها الخريطة السياسية للشارع السياسيّ برمته. وآلت العلاقة السلفية بالسلطة إلى علاقة المحب اللدود، أو العدو الودود، أيهما شئت. فهم يريدون تطبيق الشريعة، ولا يرغبون في السياسة ولا في تعاطيها، ويرجون أن يطبقها لهم المجلس العسكريّن الذي هو على نقيض الشريعة في مذهبه ومنهجه.

      ثم، أخيراً، نأتي إلى الجَماعة الإسلامية، التي بدأت حركتها في السبعينيات كذلك، والتي ناقضت الحركتين السابقتين تمام التناقض، فكراً وعملاً. نجد أن هذه الحركة مرّت، كصاحبتيها، بثلاثة مراحل في علاقتها بالسلطة. ففى المرحلة الأولى، كفّروا السلطة، وأوجبوا الخروج عليها، وقتلوا رأسها في أول الثمانينيات. فكانت علاقتهم بالسلطة هي علاقة العدو اللدود، الذي لا يهادن ولا يداهن، بل يعاند ويقاوم. ثم، في المرحلة الثانية، وهي المرحلة التي بدأت منذ دخولهم السجون عقب مقتل السادات، إلى أن بدأت قياداتهم، في مصر، عملية المراجعات. وكانت علاقتهم بالسلطة حينئذ، كعلاقة الإخوان بالسطة في مرحلتهم الثانية، علاقة من طرفٍ واحدٍ، وهو طرف السلطة الباطشة. ثم في المرحلة الثالثة، والتي بدأت ببداية عملية المراجعات، التي قادها ناجح إبراهيم داخل السجن، والتي أدت إلى تحسين العلاقة مع السلطة، والوصول إلى تفاهمٍ متبادل، تتنازل بموجبه الحركة، لا عن إعتماد العنف كوسيلة للتغيير، بل والإندماج في العملية السياسية والإجتماعية الزائفة التي كان نظام مبارك المخلوع يمارسها، كدفعة ثانية لردّ جميل إطلاق سراحهم. وتتوجت هذه المرحلة بإطلاق سراح عبود وطارق الزمر، اللذين، وإن لم يترنحا أمام السلطة ترنح منظرهم ناجح إبراهيم، إلا إنهم كانوا إلى "التقارب والتنازل" اقرب من اي شيئ آخر. بل من عجائب الله سبحانه، أن تتحد الجماعة الإسلامية وعدد من السلفيين، الذين كانوا يكفرونهم قبلاً، في دعوتهم لنبذ التظاهر والإحتجاج، وإحترام السلطة، المتمثلة في المجلس العسكريّ، كل الإحترام، والوقوف في صفها يداً بيدٍ! فسبحان مغيّر الأحوال.

      الإخوان، سواءاً الجماعة أو الحزب، حركة سياسية صرفة، الدعوة فيها تابعة للسياسة وخادمة لها. فهي من هذا المنطلق تبغى الحكم ولو على حساب التنازل في تطبيق الشريعة على وجهها الصحيح. ومن ثم فإن علاقتها بالسلطة علاقة حزبية تقوم على الطلب لا على الأخذ، وعلى التقارب والتبعية بدلاً من المناهضة والإستقلالية.

      والسلفيون، هم جماعة دعوية قلباً وقالباً، حتى في هذه المرحلة التي يخوضون فيها معترك السياسة، على الرغم منهم. لذلك فهم يقصدون الشريعة لا الحكم، وهو أمر يُجافي طبائع الدنيا وسننها، إذ لن يطبق الشريعة إلا من يؤمن بها ويسعى لها سعيها. ومنهجهم في التعامل مع السلطة لا يزال متناقضاً لم يظهر له إتجاه ثابتٌ، رغم هتاف بعضهم للعسكريّ، وإعلانهم لمساندته. ولا يزال كبار متكلميهم يعلنون أن ربيع علاقتهم مع العسكريّ مرهون بما يتخذه من قرارات في مجال تطبيق الشريعة، سواءاً كان ذلك التطبيق بأيديهم أو أيدى غيرهم، خلافاً للإخوان.

      أما الجماعة الإسلامية، فندعو الله سبحانه أن ينير لقادتها الطريق مرة أخرى، فإن الإنبطاح لا يكون معه أمنٌ ولا أمان. وهم قد انبطحوا أمام السلطة، على درجاتٍ متفاوته، يظنون أنها سياسة، وأنهم يخوضون مُعتَرَكِها بحِنكةٍ ومَكر، ويعلم الله أنهم ليسوا من أهلها ولا أقاربها الأباعد!

      والخلاصة، إن التيارات الإسلامية كافة، قد خرجت من زمن البطش والقهر مُشوّشة الفكر، مُضّطِربة المَنهج، تحتاج كلها إلى فترة نقاهة، ومُراجعة للأولويات، وتحديد للمسارات، ورَسم للسّياسات، وتقويم للعلاقات. وهو أمرٌ لا غضاضَة فيه ولا إنتقاصٍ من قدر أو دور أحد من العاملين في هذا المجال، إذ قد جاء التغيير سريعاً، حاسماُ، وأكبر من كلّ أحدٍ. والسياسة خدّاعةٌ، والدنيا غرّارةٌ، والشيطانُ يقظٌ لا يبرح. وهذه التيارات كلها، هي أمل هذا الشعب في إستعادة دينه والرُجوع إلى ربّه وشَرعِه، فمَسؤليتها أكبرُ وأخطرُ مما تظن، ومما يَسمح بأيّ تلاعبٍ أو تَهاون فيها.