فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      السّلفيون .. والخَيار الصَّعب

      الحمد لله والصلاة والسلام على رَسول الله صَلى الله عليه وسلم

      تمرّ الحَركة السلفية في مِصر بمِخاضٍ عَسر، يتمَثلُ في تغيير النظر للواقع والوَجهة الحَركية، وأولويات الدّعوة وفقهِها. ولايشك الناظر في أحوال هذه الدعوة أنّ كمّ التغيير وكَيفِه، لا يقل خُطورة وشُمولاً من الثورة المصرية ذاتها. وهذا التبديل والتغيير في إتجاه الحَركة جاء نتيجة الإحتكاك بالواقع السياسيّ أول مرة، بعد أن كانت الحركة تعيش في قوقعة أكاديمية مغلقة أكثر من ثلاثين سنة. ولسنا بصدد مُبررات ذاك التقوقع، إذ لا فائدة في مناقشة ما مضى، إلا أن يكون لإجتناب ما فيه من خطأ واعوجاج، لكن لعلّ بعض ذلك أن يكون بسبب قبضة الأمن العَاتية من ناحية، ولردّة الفعل النفسية تجاه مواجهة الخطر الماحق، التي جَعلت بعض مشايخها يتبنون قضية طاعة وليّ الأمر بإستغراقٍ وصل إلى حدٍ التناقض مع القضية السّلفية الأولي، وهي التوحيد.

      على كل حالٍ، أدرك السّلفيون أخيراً، بعد تخلفهم عن قطارِ الثورة الأول، أنّ دعوتَهم لن يكون لها وجودٌ إن لم تتصل بسبب بأرضها في الشارع المصريّ العريض، وأن أهدافها لن تتحقق إلا "بالخروج" إلى الشارع رافعين الصوت بمطالبهم، وجاهرين بها في وجه من بيده السلطة. فخرجوا، إلا قليلاً منهم كالحُوينى وأتباعه، في قطار الثورة الثاني، الذي لا يُبقى ولا يذر، وكان هذا هو التصحيح الأول لتوَجّه السّلفيين. فشَهدت مصر ما لم تشْهد من قبل، من تجمعٍ إسلاميّ حَاشدٍ أظهر قوة الإسلام في هذا البلد، وتمّكنه من قلوب غالب أبنائها.

      والسلفيون، كما ظهر مؤخراً، طوائفٌ تتقارب وتتباعد، حسب حدّة مَوقفها من الوقوف في وجه السُّلطة الخَارجة عن الشرعية الإسلامية، والتظاهر ضدها، رغم إتحادهم في تبجيل السُلطة القائمة والدعوة لعدم الإنقلاب عليها. ويتضِح هذا في موقف متحدثي السلفية مثل الدكتور عبد المنعم الشحات والدكتور حسام ابو البخارى والدكتور محمد يسرى، الذي يعكس أكثر إتجاهات السلفية تفتحاً وتفهماً للمَشهد السياسيّ. وهؤلاء، أكرمهم الله، ، لا يسيرون على منهج أمثال الحوينيّ بلا شك، ممن يقدس السلطة القائمة، أيا كانت وبيد من كانت. وهؤلاء المتحدثون، بارك الله فيهم، هم من يحفظ على الدعوة السلفية زخمها في الشارع المصريّ، ومكانها الأعلى بين من يُسْمون أنفسهم، أو يُسميهم الإعلام العلمانيّ "القوى السياسية".

      إلا إن الخريطة السلفية لا زالت غَامضة، مُتشابكة، ضَبَابية المَعالم، ليس فقط من حيث تركيبها وعلاقة أطيافها بعضها ببعض، كما ذكرنا، بل ومن حيث مَنهجها الجديد وتوجّهها الحديث. فطائفة منها ترفض الإعتراف بالخطأ، وتمنعهم العزة بالإثم أن يتراجعوا عما أفتوا به من قبل، وهو موقفٌ حَذر منه العلماء، أن يقع فيه من تصدّى للناس واكتسب العدد من التابعين، وقد كتبت في عام 1982، قلت "ولكن – واأسفاه – غالبا ما یكون قد اشتهرفي الناس بقوله الذي ینصره، والتف حوله الكثير من الأتباع یتخذونه مُعلما وقائدا ، فيكون ذلك مانعاً له من التراجع، فيزین له الشيطان البقاء على قوله، وتصرفه كبریاؤه عن الإعتراف بالخطأ ، فتراه یغض النظر عن الأدلة المضادة لقوله ویرمقها من طرف العين ولاتدفعه نفسه إلى دراستها وتفحصها ومعرفة مدلولاتها، فيتبع هواه وهو عالم بما هو واقع فيه بعد أن كان هواه خافيا عليه وعلى الناس أجمعين" مقدمة في اسباب إختلاف المسلمين وتفرقهم 21 .ومن أبرع ما قيل في هذا المعنى ما ذكره العلامة الشيخ عبد الرحمن بن یحيى المعلمي اليماني "وبالجملة فمسالك الهوى أكثر من أن تحصى ، وقد جربت نفسي أنني ربما أنظر في القضية زاعما أنه لاهوى لي ، فتلوح لي فيها معنى ، فأقرره تقریرا یعجبني ، ثم یلوح لي مایخدش في ذلك المعنى ، فأجدني أتبرم بذلك الخادش وتنازعني نفسي إلى تكلف الجواب عنه وغض النظر عن مناقشة ذاك الجواب ، وإنما هذا لأني لما قررت ذاك المعنى أولا تقریرا أعجبني صرت أهوى صحته ، هذا مع أنه لم یعلم بذلك أحد من الناس ، فكيف إذا آنت قد أذعته في الناس ثم لاح لي الخدش ؟ فكيف لو لم یَلح لي الخَدشُ، ولكن رجلا آخر اعترض عليّ به؟ فكيف لو كان المُعترض ممن أكره؟" القائد إلى تصحيح العقائد 21.

      وطوائف من السلفيين صحّحوا الخروج للتظاهر، والإعلان عن مطالبهم، لكن في حدود الهتاف للسّلطة القائمة، وهي المجلس العسكرىّ في حالتنا هذه، وإعلان الولاء له، وعدم الخروج عليه. وقد يكون لهذا مُبرراً، إن اعتبرنا أن البديل هو مجلسٌ مدني، لا يعلم أحدٌ كيف ومن سيختاره، وأنّ العلمانيين متربّصون بأي مجلسٍ، ينقضّون عليه كما فعلوا فيما أسموه الوفاق الوطني أو الحوار الوطني أو ما شابه.

      لكن المأزق العصيب الذي ينتظر هذه الطَوائف المتحدّثة من السلفيين قريباً، هو ما سيكون موقفهم إن أصرً المجلس العسكريّ على إصدار "مواد فوق دستورية" أو "موادٍ حاكمة" كما يسمونها، يكرّس بها العلمانية، ويؤسّس لسَيطرة الجيش على الأمة عن طريق مادة تخرجه من تحت المُحاسبة البرلمانية أو الرئاسية؟ ما سيكون موقف السلفيين إذا أصر العسكر على تبنّى مثل وثيقة أحمد الطيب الخلوتّي الكفرية، ووثيقة عدو الله وعدو الشعب يحي الجمل، وما كلّفَ به اللّاديني المُلحد أسامة الغزالي حرب، وضَرب بإرادة هذه الجُموع المُحتشدة من المسلمين، سلفيين وغير سلفيين، عرض الحائط ؟ ولا أتحدث هنا عن أمثال الحوينيّ وأتباعه، فهؤلاء مغيّبون عن الواقع إبتداءاً، ولندعهم فيما هم فيه، فهم أقرب أن يوصفوا بصوفية أهل الحديث، من جهة تقديس الأتباع للمَشايخ، وكأنهم لم يقرؤوا قول  الشوكانيّ في تزييف هذا الأمر "بأن تجعل مایصدر عنه - الإمام المتبع - من الرأي ویروي له من الإجتهاد حجة عليك وعلى سائر العباد ، فأنك إن فعلت ذلك كنت قد جعلته شارعا لامتشرعا ، ومُكلِفا لامُكَلفاً" أدب الطلب للشوكانيّ،  ومن جهة تقديس المَشايخ بدورهم للحاكم. وصدق القائل

      إن كان لم يبدُ للأغمَارِ سِرّكُمُ              فإنه لى في أكنَـانِه بَادى

      لكن الأمر الوارد، والأكثر إحتمالاً هو أن يُحاول المَجلس العسكريّ أن يتخَطى الإرادة الشعبية وأن ينتصِر للعلمانية، التي ينتمى أعضاؤه اليها، والتي تُرضى الغرب والكِيان الصهيونيّ، بل وتُرضى النظم العربية كافةً، حتى من يدعى منهم تطبيق الشريعة.

      ماذا سيكون موقف السلفيين يومها؟ أيلتزِمون تمجيد السّلطة والدعاء "للوالى" بالسَمع والطاعة، ويتركونه يكرّس ويُقنن، لا المعصية والإثم، بل الكفر والشرك؟ أم يَخرجون على ما ارتضوه من قبل، ويلتزمون بالحق، وينبذون الهوى ويتعالون على العزة بالإثم، ويُعلنون مُعارضتهم الصَريحة القوية في الخُروج على من يقنّن الكفر، وعدم مُناصرته والهتاف له. ووالله لا أدرى عمن يهتفُ لمن يقنن الكفر، كيف يقابل ربَّه، وإن ليس جلباباّ وأطلق لحية وتلا حديثاً!

      ذلك هو الإختبار الأصعب، والمنزلق الأوعَر، للحَركة السّلفية: أن تتخيّر بين الولاء للحاكم المُقنن للكفر، فتنبذ الشريعة التي تعلن نصرتها، وبين أن ترفض الحَاكم وتعلن بَراءتها منه وولاءها وتحيزها لتطبيق الشريعة؟

      والخيار واضحٌ بيّنٌ لمن اتقى الله وأخلص دينه لله، مشايخاً وأتباعاً. وقد راهن السّلفيون بكل رَصيدهم على المَجلس العسكرىّ – الطنطاوى وعنان وأصحابهما - أن يقف بجانب الإرادة الشعبية، وهو، فيما أرى، رِهانٌ خاسِرٌ.