فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      العمل الجَماعي .. بين التطور والجمود - 1

      (1)

      الحمد لله والصلاة والسلام على رَسول الله صَلى الله عليه وسلم

      التغير والتطور والتبدل، صِفات ركينة لكلّ عمل إنسانيّ المَصدر والتصوّر، إذ الثبات والتوحد من صفات الله سبحانه، وما يتعلق بها ، لا بمخلوقاته. ومن ثم، فإن صِحّة العَمل الإنسانيّ دائما منوطةٌ بدقة فكرهِ وحكمة رؤيتهِ وصواب بصيرتِه. وهي بدورها أمورٌ متصلةٌ بصواب حُكمه على الواقع الجارى، والإستفادة من الماضي السالف، لتصور العمل في المستقبل.

      والعمل الدعوىّ، هو من ثوابت الحياة، إذ هو ثابتٌ بثبات القرآن، الذي هو كلام الله سبحانه وتعالى. إلا إنّ العَمل الجماعيّ هو صورة من صور العَمل الدّعوى، لا حقيقته. والخلط بينهما خلطٌ مَعيبٌ ومُكلّف. فالدعوة تَصحّ بكل وسيلة توصل الحق إلى الغير، فرادى أو جماعات، بشكلٍ أو بآخر. السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو صَلاحية الصورة التي عليها العمل الجَماعيّ اليوم، وملاءمته للمتغَيرات التي تمر بها البلاد، وبالذات الحركة الإسلامية على ما هي عليه في مصر، بما فيها من نفعٍ وضرٍ.

      والحق، أنني لم أنوى أن يكون حديثى في هذا الأمر مُطولاً كما جاء، إلا أن الموضوع شيّق ومُتشعبّ، ولا يزال بكراً رغم الإطالة. وقد وقعت فصول المقال في ثلاثة أجزاء متتابعة نبدأها في حديث اليوم، ثم نتبعها بما بعدها في الغدٍ وبعده إن شاء الله:

      وحتى يمكن أن نصل إلى تصوّرٍ مُجْدٍ في هذا الصَدد، فسنقوم بعرض تصورنا في النقاط التالية،

      1. قواعدٌ يجب إعتبارها في تشريع العَمل الجماعيّ
      2. صُورة الواقع الإسلاميّ الحَاليّ
      3. السَمع والطاعة في مفهوم أهل السّنة
      4. تحديد البدائل التي تُوائم المَرحلة
      5. خطورة التمسك بأساليب بالية تخدَعُ ولا تَنفعُ.

      والله الموفِق.

      1. 1. قواعدٌ يجب إعتبارها في تشريع العمل الجماعي:

      لا شك أن العَمل الجَماعيّ، كغيره من النَشاطات الإنسانية، يدخل تحت سَطوة الدليل الشرعيّ ويعمل في ظلّ الشريعة. وتدل الأدلة على حِلّه أصلاً، ثم يكون ندبه أو إيجابه، أو كراهته أو تحريمه، مَحكومٌ بالمَناطات المُختلفة التي تحيطُ بالظرف القائم. ويجب، عند النظر في درجة الحُكم المرافق للمناط القائم، أن نعتبر بعض الأمور العامة، مثل أن لا يؤدى هذا العمل إلى نقيض مقصوده، بقطعِ شَأفة العناصر الداعية، وأن يكون في مَجالٍ يلزم فيه العمل الجماعيّ كشرطٍ لقيامه، وإلا فالأصل الدعوة إلى الله كلّ حسب ما يقدر عليه بنفسه لا بغيره، كالتدوين والبحث.

      والمُعوّل الرئيسيّ في شرعية العمل الجماعيّ هو الحديث الذي روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "إِذَا كُنْتُمْ ثَلاثَةً فِي سَفَرٍ فَأَمِّرُوا أَحَدُكُمْ ، وَلا يُنَاجِ الرَّجُلُ الرَّجُلَ دُونَ صَاحِبِهِ" والحديث، بألفاظ مختلفة، قد وَرَد في الصحيح بقيد الصلاة، أما قيد السَّفر فقد ورد في أبي داود لكن لم يثبت مرفوعاً، بل مَوقوفاً على عبد الله بن مسعود. والعمل الجماعيّ إنما ثبت بطريق الأولى، قياساً على الجَماعة في الصلاة.

      والمعوّل الرئيسيّ في حكم الطاعة للقيادة عامة، أو الأمير بالتعبير الوارد في السنة، هو ما روته الجماعة، واللفظ للبخاريّ "بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية فاستعمل رجلا من الأنصار وأمرهم أن يطيعوه فغضب فقال أليس أمركم النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني قالوا بلى قال فاجمعوا لي حطبا فجمعوا فقال أوقدوا نارا فأوقدوها فقال ادخلوها فهموا وجعل بعضهم يمسك بعضا ويقولون فررنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من النار فما زالوا حتى خمدت النار فسكن غضبه فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال لو دَخلوها ما خَرجوا منها إلى يوم القيامة، الطاعة في المعروف". ويؤكد هذا الحديث على أمرين أساسين:

      أولاً: أنّ الطاعة، على وجوبها من حيث ما ينتظم به العمل الجماعي، أياّ كان ذلك العمل، فإن هناك ما هو أوجب منها في الإعتبار.

      ثانياً: أنّ الطاعة ليست مطلقة، بل قُيدت في هذا الحديث بقيد المعروف، والثابت في الأصول أن العَام إذا خُصّص، أو المُطلق إذا قُيّد خَرَجَ عن عُمومه وإطلاقه، وصحّ تخصيصه أو تقييده بعد، بالمُخَصّصات والمُقيدات المُتصلة والمُنفصلة، كالعُرف والعَادة والقياس وغيرها.

      ثم، نقطتان نودُ أن ننبّه عليهما:

      • أن الحريةَ، كأصلٌ مَكين من أصول الشَريعة، سواءاً حرية التعبير أو حرية العمل على السواء، يجب أن تكون مَرجِعاً لكُلّ تأصيلٍ يتطرّقُ إلى حدودِ الإلتزام الجَماعيّ، إذ هي سَابقة في الوجود، وأعلى في الرتبة من الأمر بالسمع والطاعة، فإن تعارضتا بما يلغى أحدهما، بمعنى أن يلغى السمع والطاعة حق التعبير والعمل بالكلية، وجب تقديم الأولى، وهو أصل الحرية بلا جدال. ذلك أن الأمر بالسمع والطاعة واردٌ على الأصل، فلا يصح أن يلغيه. ومن هنا يجب النظر في أمر التقليد الأعمى، الذي قد يشوب ممارسات بعض الجماعات أو المجموعات الإسلامية. فالإسلام لا يقرُّ بالخلفية العسكرية في الشؤون المدنية، ولا يعترف ببلشفة التصرفات القيادية تحت زَعم المصلحة، وإن ظهر لبادى الرأي إنها هي الأولى بالإتباع.
      • أنّ العقلَ هو مَناط التكليف، وإلغاؤه لحسابِ أي فئة أو قيادة أو مبدإ كالسَمع والطَاعة، إلغاءٌ لمبدأ التكليف، ورافعٌ لأهلية المُكَلف، من حيث ذهاب عقله. والعَقل الذي نقصِد اليه ليس العقل الذي يقصد اليه المعتزلة والعلمانيون. العقل الذي نقصد هو الذي يتحرك داخل مَنظومة الشَرع، بكامل أبعادها، نَصّاً وإجتهاداً، لا ينطلق حراً من أيّ إلتزامٍ بخلقٍ أو دينٍ أو عُرف.
      1. 2. واقع العمل الإسلاميّ الحاليّ

      وحتى يكون الحديث عملياً ومُوجِّهاً للفِكر والعَمل يجب أن نمر سريعاً على الهيكلية الإسلامية الحالية، والتي تتمثل في عدة إتجاهات، هي الإخوان المسلمون، والسلفيون، والجماعة الإسلامية، وهي الإتجاهات التي تتبنى حَالياً أشكالاً جماعية وترى أن العملَ الجماعيّ بابٌ للوصول إلى الأهداف الإسلامية المرجوة. لكن هناك فروقٌ في التصور بين هذه الإتجاهات بشكلٍ عام. فالسلفيون لا يزالوا على عتبة العَمل الجَماعيّ المُنظم، بعد أن كانوا يرفُضونه جملة وتفصيلاً من قبل. ولم يتضح بعد مدى حرصهم على مبدأ السمع والطاعة، وإن كنا نرى، من منهاجهم مع الحكام، أنهم سيكونون في غاية التطرف في إتباع هذا المبدأ، ضرباً بعرض الحائط بما يروّجون من إتباع الدليل وعدم التقليد، ولعل الله أن يخيّب ظننا.

      أما جماعة الإخوان، فالملاحظ أنهم قد جَنَحوا للتطرّف في تطبيق هذا المَبدأ مؤخراً، لدرجة أنهم أصبحوا يُشبهون المؤسسات العسكرية لا الدعوية أو الإجتماعية.وقد يُعَلل هذا بأمور، منها أنه في فترة البيات أيام الطغيان، لم يكن هناك إحتمالاتٌ لإنشقاقات أو مخالفات في فكرٍ أو حركة، وهو ما تبدّل بعد الثورة. كذلك قد يكون ظهور جماعاتٍ أخرى، على السطح، كالسلفيين وأهل السنة من جماعة الإحياء، أو التجمعات الثورية الليبرالية، والذي يؤدى إلى المداخلات والحوارات التي لا يصلح معها الإلتزام العسكريّ، سبب آخر لهذا التشدد في معنى الإلتزام وحدوده لديهم، خوفاً من تفلت الأتباع وتسربهم إلى إتجاهات أخرى.

      أما عن إتجاه أهل السنة والجماعة من أتباع منهج الإحياء والتجديد (تجديد فكر الأمة بمعنى بَعثِه، كما بيّنت في مقالة سابقة عن مفهوم التجديد)، فهؤلاء كذلك لا يزالون على المحكّ في هذا الأمر. إذ منذ أن ظهرت بذورهم العمليّة الأولى، متمثلة في فكرة الطليعة المؤمنة، التي جسدها سيد قطب رحمه الله، والتي عنى بها الطليعة الرائدة في عملية الإحياء، ثم وضّحها وأرسى جوانبها من بعده الشيخ عبد المجيد الشَاذليّ، مدّ الله في عمره، وعدد من المُهتمين بالفكر الإسلاميّ تدويناً وتطبيقاً بدءاً من سبعينيات القرن الماضى، لم تخرج منهم للنور جماعة تمثل عملاً جماعياً كالذي نقصد. وقد كان ذلك لظروف عدة، منها الضغط الشديد من السلطة الغاشمه على حاملي هذا الفكر، ومنها رفض أتباعه المشاركة في العمل السياسيّ العام تحت مِظلة الديموقراطية الغربية لتناقضِها مع أوليّات منهاجهم في فهم التوحيد وحدوده، وهو العمل الذي كان يتطلب تجمّعاً كتجَمع الإخوان، الذين ترَسّلوا في هذا الأمر وشاركوا في المناخ السياسيّ الديموقراطيّ بأوسع مدى، تمشياً مع منهاجهم العام.

      1. 3. الواقع المصريّ الحاضر

      تنقسم المرحلة التي يمر بها الواقع المصري إلى قسمين، أو هكذا نأمل.

      • المرحلة الحالية، والتي نأمل أن تنتهى بإجراء الإنتخابات البرلمانية، والرئاسية، وصياغة الدستور، وهي مرحلة ضبابية، قد بيّنا إنه على الرغم من أنها تقف على أعتاب تغيير شاملٍ، وأنها، على أقل تقديرٍ، قد خلخلت النظام الديموقراطيّ شكلاً، الديكتاتوريّ موضوعاً، والقائم منذ ستين عاماً، وهيّأت لإرساله إلى مزبلة التاريخ، وقدمت نافذة شرعية للمسلمين للضغطِ والسعي للتغيير القلم وبالقدم قبل اللجوء إلى المفاصَلة التي ستعود للمسرح الإسلاميّ السُنيّ في حالة الإنتكاس والإرتكاس إلى دستور علمانيّ جديد. وفي هذه المَرحلة، يظهر أنه من التسرّع في العمل، كما تبنينا في مقالات سابقة، أن تتكون الأحزاب في المرحلة الحالية، إذ تكوين الحزب يجب أن يكون تحت مظلة إسلامية "دائمة"، وهو يختلف عن "إبداء الرأي" الذي يسبق "إملاء الرأي".
      • المرحلة القادمة، وهي التي، نسأل الله تعالى أن يوفِق فيها، يُنتخب فيها برلمان يَحكمُه المسلمون، ولو كانوا من أهل البدعة والإنحراف الفكريّ، وأن يتولي رئيس مسلمٌ، ولعله الشيخ حازم أبو إسماعيل، لوضوح إتجاهه وسلامة فكره. ثم أن تقوم اللجنة التأسيسية بصياغةِ دستورٍ يعلو فيه الإسلام ويسيطرعلى القانون وقواعِد الحكم، ولا يكتفي بموادٍ غير مفعّلة، ولا تحْكُمه مواد "فوق دستورية" أي ديكتاتورية يُقصد بها إرساء العلمانية. ونعلم أنّ هناك من يرى ذلك حُلماً وخيالاً، وأنه لا فائدة من هذا التوجه لعدم واقعيته، إلا إننا نقول إولاً إن الحكم الشرعيّ لا ينبنى على توقعات المستقبل، إلا في حالة توقع الأسوإ لإعتبار المآل، والثاني إن مصر وشعبها لم يكونوا، في أعمق أحلامهم، يتصوّرون أن يكون مبارك وعائلته ما بين محبوسٍ ومُطارد. ولا يَحلً أن يترك المُسلمون فرجة في التكييف الشرعي تلوح لتحقيق أهدافهم، دون قتالٍ أو هَرَج. ولكن ليكن واضِحاً أن تلك الفرجة تُغلقُ وهذه الفرصة تَفوت، بمجرد أن تَظهر التوجّهات النِهائية في موضوع كتابة الدستور الذي يجرى عنه الحديث حالياً.

      يتبع إن شاء الله