بقلم: هاني عابد
الجزء الثاني:
نخصص هذا الجزء لإثبات السنة النبوية كمصدر تشريعى مستقل عن القرآن يجب الإيمان والعمل به.
معنى شهادة أن محمداً رسول الله
إن مفتاح الإسلام هو الكلمة الطيبة وهي شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وهذه الشهادة معناها الإذعان والاستسلام لأمر الله تعالى، ومقتضى هذه الشهادة كما بينه الشيخ محمد عبد الوهاب: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع. فيجب الإيمان بشريعته صلى الله عليه وسلم والانقياد لها قولاً، وعملاً، واعتقاداً. يقول الشيخ بن باز رحمه الله في معنى الشهادة: وعليك أن تتبع الرسول صلى الله عليه وسلم وتنقاد لأوامره؛ لأن هذا مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله، هذه الشهادة توجب عليك اتباعه وتصديقه، والانقياد لأوامره عليه الصلاة والسلام.
وقد وردت الآيات في القرآن الدالة على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وأنها من طاعة الله تعالى، منها قوله تعالى:
-
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْر وَأَحْسَن تَأْوِي (النساء 59)
قال القرطبي في تفسير الآية: أي ردوا ذلك الحكم إلى كتاب الله أو إلى رسوله بالسؤال في حياته، أو بالنظر في سنته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، هذا قول مجاهد والأعمش وقتادة، وهو الصحيح. ومن لم ير هذا اختل إيمانه، لقوله تعالى: " إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر "... وفي قوله تعالى: " وإلى الرسول " دليل على أن سنته صلى الله عليه وسلم يعمل بها ويمتثل ما فيها. قال صلى الله عليه وسلم: ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ) أخرجه مسلم. وروى أبو داود عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ). وعن العرباض بن سارية أنه حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس وهو يقول: ( أيحسب أحدكم متكئا على أريكته قد يظن أن الله لم يحرم شيئا إلا ما في هذا القرآن ألا وإني والله قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن أو أكثر ). وأخرجه الترمذي من حديث المقدام بن معدي كرب بمعناه وقال: حديث حسن غريب. والقاطع قوله تعالى: " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة " [ النور: 63 ] الآية. - قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (آل عمران 32)
- يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (الأنفال 20)
- قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (النور 54)
- يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُواأَعْمَالَكُمْ (محمد 33)
- تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (النساء 13)
- وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (النساء 69)
- وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (الأحزاب 36)
- إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( النور51)
- وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (النور 52)
- وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (المائدة 104)
- يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (الأحزاب 71)
- لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (الفتح 17)
هذه ثلاث عشر آية قرآنية أمر فيهن الله سبحانه وتعالى بطاعته وبطاعة رسوله وامتثال أمره، ولا يلتفت لقول القائل أن هذا الأمر منحصر فيما بلغ الرسول به عن ربه عن طريق القرآن فقط، ولكان أولى أن يقول: من أطاع الله وجبريل والرسول، لاستواء جبريل ومحمد فيما يبلغون عن الله. فهذا ادعاء بلا برهان كما أنه مخالف لقواعد اللغة العربية، لأن تعدد أدوات الصياغ تدل على وجوب طاعتان متغايرتان. فإن قال قائل عليك بطاعة عمرو وأحمد، فهذا لا يفهم منه طاعة أحمد فيما يأمر به عمرو فقط، لأن العطف يقتضي المغايرة. وقد نص القرآن على استقلالية طاعة الرسول وأنها من طاعة الله، قال تعالى:
- قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (آل عمران 31،32)
قال سهل بن عبد الله: علامة حب الله حب القرآن، وعلامة حب القرآن حب النبي صلى الله عليه وسلم، وعلامة حب النبي صلى الله عليه وسلم حب السنة. قال العلامة عبد الرحمن السعدي في تفسيره: وهذه الآية فيها وجوب محبة الله، وعلاماتها، ونتيجتها، وثمراتها، فقال ( قل إن كنتم تحبون الله ) أي: ادعيتم هذه المرتبة العالية، والرتبة التي ليس فوقها رتبة فلا يكفي فيها مجرد الدعوى، بل لا بد من الصدق فيها، وعلامة الصدق اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله، في أقواله وأفعاله، في أصول الدين وفروعه، في الظاهر والباطن، فمن اتبع الرسول دل على صدق دعواه محبة الله تعالى، وأحبه الله وغفر له ذنبه، ورحمه وسدده في جميع حركاته وسكناته، ومن لم يتبع الرسول فليس محبا لله تعالى، لأن محبته لله توجب له اتباع رسوله، فما لم يوجد ذلك دل على عدمها وأنه كاذب إن ادعاها، مع أنها على تقدير وجودها غير نافعة بدون شرطها، وبهذه الآية يوزن جميع الخلق، فعلى حسب حظهم من اتباع الرسول يكون إيمانهم وحبهم لله، وما نقص من ذلك نقص.
وقال بن كثير في تفسيره: ثم قال تعالى آمرا لكل أحد من خاص وعام " قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا " أي تخالفوا عن أمره " فإن الله لا يحب الكافرين " فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر والله لا يحب من اتصف بذلك وإن ادعى وزعم في نفسه أنه محب لله ويتقرب إليه حتى يتابع الرسول النبي الأمي خاتم الرسل ورسول الله إلى جميع الثقلين الجن والإنس. - كذلك قوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (النساء 80)
- وقد أفرد الله طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون (النور 56)
- وأوجب تعالى طاعة الرسول فيما يحكم به بقوله تعالى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (النساء 65).
قال بن كثير في تفسيره: يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنا وظاهرا ولهذا قال " ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما " أي إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجا مما حكمت به وينقادون له في الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسليما كليا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة. - ومن الآيات الدالة على وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم (النور 63)
قال بن كثير: وقوله " فليحذر الذين يخالفون عن أمره " أي عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله فما وافق ذلك قبل وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله كائنا من كان كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " أي فليحذر وليخش من خالف شريعة الرسول باطنا وظاهرا " أن تصيبهم فتنة " أي في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة " أو يصيبهم عذاب أليم " أي في الدنيا بقتل أو حد أو حبس أو نحو ذلك. - وقوله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (الحشر 7)
- و قوله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (الأحزاب 21)
والأسوة إنما جعلت للاقتداء بها، قال الترمذي: الأسوة الحسنة في الرسول الاقتداء به والاتباع لسنته وترك مخالفته في قول أو فعل أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما عن المقدام بن معد يكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه لا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السبع ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها
ثبوت السنة في القرآن
أثبت القرآن الكريم وجود سنة مغايرة لوحي الله المنزل في القرآن وهي ما سماها الله في كتابه بالحكمة.قال تعالى:
- لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (آل عمران 164)
- وقوله تعالى في سورة الجمعة: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (الجمعة 62)
قال الإمام الشافعي رحمه الله في (الرسالة): " ذكر الله الكتاب، وهو القرآن، وذكر الحكمة فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة: سنه رسول الله، وهذا يشبه ما قال، والله أعلم، لأن القرآن ذكر واتبعته الحكمة، وذكر الله مَنّه على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يجز - والله أعلم - أن يقال الحكمة هاهنا إلا سنه رسول الله، وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله، وأن الله افترض طاعة رسوله وحتم على الناس إتباع أمره، فلا يجوز أن يقال لقول فرض إلا لكتاب الله ثم سنه رسوله، لما وصفنا من أن الله جعل الإيمان برسوله مقروناً بالإيمان به، وسنه رسول الله مبينة عن الله معنى ما أراد: دليلاً على خاصة وعامة، ثم قرن الحكمة بها بكتابه فأتبعها إياه، ولم يجعل هذا لأحد من خلقه غير رسوله ".
وجاء في تفسير بن كثير: ( ويعلمهم " الكتاب " يعني القرآن " والحكمة" يعني السنة قاله الحسن وقتادة ومقاتل بن حيان وأبو مالك وغيرهم وقيل الفهم في الدين ولا منافاة" ويزكيهم " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يعني طاعة الله والإخلاص وقال: محمد بن إسحاق" ويعلمهم الكتاب والحكمة " قال يعلمهم الخير فيفعلوه والشر فيتقوه ويخبرهم برضا الله عنهم إذا أطاعوه ليستكثروا من طاعته ويجتنبوا ما يسخطه من معصيته ).
واختلاف أقوال السلف فيما نقله بن كثير هو من باب اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد، أي أنه لا منافاة بين تفسير بعضهم الحكمة بالسنة وغيرهم بالفهم في الدين والخير وبما يرضي الله، لأن طريق إخباره لأمته وتعليمهم هذا الخير هو السنة.
فالسنة نعمة ومنّة من الله على عباده لأنها تبين ما أجمل في القرآن من عبادات، قال تعالى:
- كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (البقرة 51) وهذا استجابة لدعاء أبو الأنبياء لأهل الحرم، قال تعالى حاكياً عن نبيه إبراهيم: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم (البقرة 129)
- وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (البقرة 231)
- وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (النساء 113)
تواترت الأخبار تواترا معنويا عن سؤال الصحابة عن الإسلام والإيمان وأحكام الشريعة ومجيئ أقوام إلى المدينة ليمكثوا فيها ويتفقهوا في دينهم. ومما يدل على قطعية ثبوت السنة أن الله قد ذكر أن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يسألونه ويستفتونه في مسائل دينهم، وقد ورد في القرآن إجابة نحو تسع مسائل فقط في قوله تعالى:
- يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ (1)
- يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (2)
- يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ (3)
- يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ (4) (5)
- يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (6)
- يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (7)
- وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (8)
- يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (9)
فهل يتصور عاقل أن يعيش الصحابة مع نبي الله صلى الله عليه وسلم مدة ثلاث وعشرين سنة ولا يسألون إلا عن تسع مسائل؟! كيف يعقل أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه ويشاركهم حياتهم اليومية ولا يعلمهم شيءً من دينهم ولا يبين لهم معاني كتاب الله وما يستنبط منه من أحكام. فإن المسائل التي يتعرض لها البشر لا تحصى وأحكام القرآن محصورة. وبهذا تصبح سنته صلى الله عليه وسلم من تمام الدين وكمال الرسالة لأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فكل ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه من أحكام وتفسير للقرآن وغير ذلك جزء لا يتجزأ من شرع الله، فكما وجب على الصحابة بأمر الله في القرآن اتباع الرسول وطاعته في حياته، وجب عليهم وعلى من بعدهم من المسلمين اتباع سنته بعد وفاته، لأن النصوص التي أوجبت طاعته عامة لم تقيد ذلك بزمن حياته، ولا بصحابته دون غيرهم، ولأن العلة جامعة بينهم وبين من بعدهم، وهي أنهم أتباعٌ لرسولٍ أمر الله باتباعه وطاعته، ولأن العلة أيضاً جامعة بن حياته ووفاته، إذ كان قوله وحكمه وفعله ناشئاً عن مُشَرعِ معصوم أمر الله بامتثال أمره، فلا يختلف الحال بين أن يكون حياً أو بعد وفاته.
فمنكر السنة إذن منكر لكمال الرسالة، منكر لقوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)، لأن لازم قوله أن الشريعة قد نقصت بعد ما كمالها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
الأدلة المتواترة في ثبوت السنة
جاء في الجزء الأول من هذا البحث تعريف المتواتر، ونحن هنا نقول لمن أنكر ثبوت السنة: إن من المعلوم من الدين بالضرورة أن القرآن نقل لنا بطريع التواتر، ومنكر التواتر كافر بإجماع الأمة لأنه منكر للقرآن. فإن ثبت التواتر، فلا فرق بين تواتر القرآن وما تواتر من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كلاهما مما وصل إلينا عن طريق التواتر، فمن أنكر التواتر فقد أنكر ثبوت القرآن الكريم.
وقد ثبت تواتر عدد كبير من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم تواتر لفظي ومعنوي. فإذا ثبت أن من أحاديث الرسول ما هو متواتر فهذا يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حدّث بغير ما جاء في القرآن ونقله عنه الصحابة الكرام والتابعين وتابعيهم الى أن وصل إلينا. نذكر من هذه الأحاديث:
- ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار، ذكر صاحب (نظم المتناثر من الحديث المتواتر) أسماء روات هذا الحديث حتى بلغ بهم خمساً وسبعين صحابياً، ثم قال: وعلى هذا جرى أيضاً في شرح التقريب فإنه عدله من الرواة مرتبين على حروف المعجم خمساً وستين بدون العشرة المبشرين وبهم يصل العدد إلى ما ذكرناه.
- كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: نضر اللّه امرءاً سمع مقالتي فوعاها فأداها إلى من لم يسمعها فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ذكر ابن منده في تذكرته أنه رواه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أربعة وعشرون صحابياً ثم سرد أسماءهم.كما نقله ابن حجر في أماليه المخرجة على مختصر ابن الحاجب الأصلي وفي شرح المواهب اللدنية، قال الحافظ أنه مشهور وعده بعضهم من المتواتر لأنه ورد عن أربعة وعشرين صحابياً وسردهم، وفي شرح التقريب للسيوطي كما تقدم عنه أنه وارد عن نحو ثلاثين منهم واللّه أعلم.
- كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قوله: ليبلغ الشاهد منكم الغائب، ورد من حديث (1) أبي بكرة (2) وابن عباس (3) وابن شريح الخزاعي الكعبي (4) وابن عمر (5) ووابصة (6) وعبادة بن الصامت (7) وجابر بن عبد اللّه (8) ومعاوية بن حيدة القشيري (9) والحارث بن البصراء الليثي (10) وعلي بن أبي طالب وغيرهم وأخرجه ابن منده في مستخرجه عن ثمانية عشر صحابياً قال المناوي صدر شرحه للأربعين النووية ولذا عده بعضهم من المتواتر اهـ.
إذن هذه الأحاديث تثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحدث أصحابه وأنه توعد من كذب عليه متعمداً بالنار، وأنه أمر أصحابه بتبليغ سنته، وهذه كلها أحاديث متواترة عنه صلى الله عليه وسلم، فكيف لنا أن ننكر السنة أو حجيتها بعد ثبوت هذه الأحاديث وإلا لزمنا القول بنقصان الشريعة بعد كمالها.
تعذر العمل بالقرآن وحده
من الأدلة التي توجب حجية السنة الحاجة الماسة اليها لإثبات الأحكام، لا فرق بين ما ثبت من الأفعال والأقوال لأن الأفعال تحتوي على أقوال فهما سواء. قال الشافعي في (الرسالة) في باب فرض طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم: " قال تعالى: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) وكل فريضة فرضها الله تعالى في كتابه كالحج والصلاة والزكاة لولا بيان الرسول ما كنا نعرف كيف نأتيها، ولا كان يمكننا أداء شيء من العبادات، وإذا كان الرسول من الشريعة بهذه المنزلة كانت طاعته على الحقيقة طاعة لله ".
قال الأوزاعي: الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب. قال أبو عمر: يريد أنها تقضي عليه، وتبين المراد منه. وقال يحيى بن أبي كثير: السنة قاضية على الكتاب. وقال الفضل بن زياد: سمعت أحمد بن حنبل وقد سئل عن الحديث الذي روي: أن السنة قاضية على الكتاب. فقال: ما أجسر على هذا أن أقوله ولكن أقول: إن السنة تفسر الكتاب وتبينه.[10]
ولهذا لما قيل لمُطَرِّف بن عبد الله بن الشِخِّير: " لا تحدثونا إلا بالقرآن قال: " والله ما نبغي بالقرآن بدلاً ولكن نريد من هو أعلم منا بالقرآن، وكذلك عمران بن حصين رضي الله عنه لما قال له رجل: " إنكم تحدثونا بأحاديث لم نجد لها أصلاً في القرآن " فغضب عمران وقال: " إنك امرؤ أحمق، أتجد في كتاب الله الظهر أربعا لا يجهر فيها بالقراءة ؟، ثم عدد إليه الصلاة والزكاة ونحو هذا، ثم قال: أتجد هذا في كتاب الله مفسَّرا، إن كتاب الله أبهم هذا، وإن السنة تفسر ذلك ". اهـ [11]
وقال بن حزم في كتابه " الإحكام في أصول الأحكام " معلقاً على من أنكر السنة: ( ونسأل قائل هذا القول الفاسد: في أي قرآن وجد أن الظهر أربع ركعات، وأن المغرب ثلاث ركعات، وأن الركوع علي صفة كذا، والسجود علي صفة كذا، وصفة القراءة والسلام، وبيان ما يُحتسب في الصوم، وبيان كيفية زكاة الذهب والفضة، والغنم والإبل والبقر، ومقدار الأعداد المأخوذة منها الزكاة، ومقدار الزكاة المأخوذة، وبيان أعمال الحج من وقت الوقوف بعرفة، وصفة الصلاة بها وبمزدلفة، ورمي الجمار، وصفة الإحرام، وما يُجتنب فيه، وقطع يد السارق، وصفة الرضاع المحرِّم، وما يحرم من المأكل، وصفتا الذبائح والضحايا، وأحكام الحدود، وصفة وقوع الطلاق، وأحكام البيوع، وبيان الربا، والأقضية والتداعي، والأيمان والأحباس والعمري، والصدقات، وسائر أنواع الفقه، وإنما في القرآن جمل لو تركنا وإياها لم ندر كيف نعمل فيها، وإنما المرجوع إليه في كل ذلك، النقل عن النبي صلي الله عليه وسلم، وكذلك الإجماع إنما هو علي مسائل يسيرة فلابد من الرجوع إلي الحديث ضرورة ).
قال تعالى (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ) [النحل 44]، وقال تعالى: (وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) [النحل 64]. ذكر بن القيم في (إعلام الموقعين) أنواع بيان السنة للقرآن، قال رحمه الله: وضع الله عز وجل سنة نبيه صلى الله عليه وسلم بالمقام الأسنى والمحل الأرفع، إذ أوكل إليه صلى الله عليه وسلم مع مهمة البلاغ وظيفة التبيين، فقال تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم...) [النحل:44].
والبيان اسم جامع لمعاني مجتمعة الأصول، متشعبة الفروع:
- أحدها: بيان نفس الوحي بظهوره على لسانه بعد أن كان خفيًا.
- الثاني: بيان معناه وتفسيره لمن احتاج إلى ذلك، كما بين أن الظلم المذكور في قوله تعالى: ((ولم يلبسوا إيمانهم بظلم)) [الأنعام: 82]، هو الشرك.
- الثالث: بيانه بالفعل كما بين أوقات الصلاة للسائل بفعله.
- الرابع: بيان ما سئل عنه من الأحكام التي ليست في القرآن، فينزل القرآن ببيانها، كما سئل عن قذف الزوجة فجاء القرآن باللعان ونظائره.
- الخامس: بيان ما سئل عنه بالوحي وإن لم يكن قرآنًا، كما سئل عن رجل أحرم في جبة بعد ما تضمخ بالخلوق، فجاء الوحي بأن ينزع عنه الجبة وينزل أثر الخلوق.
- السادس: بيانه للأحكام بالسنة ابتداءً من غير سؤال كما حرم عليهم لحوم الحمر والمتعة .
- السابع: بيانه للأمة جواز الشيء بفعله هو له، وعدم نهيهم عن التأسي به.
- الثامن: بيانه جواز الشيء بإقراره لهم على فعله وهو يشاهده، أو يعلمهم يفعلونه.
- التاسع: بيانه إباحة الشيء عفوًا بالسكوت عن تحريمه وإن لم يأذن فيه نطقًا.
- العاشر: أن يحكم القرآن بإيجاب شيء أو تحريمه أو إباحته، ويكون لذلك الحكم شروط وموانع وقيود وأوقات مخصوصة وأحوال وأوصاف، فيحيل الرب سبحانه وتعالى على رسوله في بيانها؛ كقوله تعالى: (وأحل لكم ما وراء ذلك) [النساء:24]، فالحل موقوف على شروط النكاح، وانتفاء موانعه، وحضور وقته، وأهلية المحل، فجاءت السنة ببيان ذلك كله.
اجماع الأمة
قال تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (النساء 115).
قال بن كثير: (وقوله " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى " أي ومن سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم فصار في شق والشرع في شق وذلك عن عمد منه بعدما ظهر له الحق وتبين له واتضح له وقوله " ويتبع غير سبيل المؤمنين " هذا ملازم للصفة الأولى ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع وقد تكون لما اجتمعت عليه الأمة المحمدية فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقا فإنه قد ضمنت لهم العصمة في اجتماعهم من الخطأ تشريفا لهم وتعظيما لنبيهم وقد وردت أحاديث صحيحة كثيرة في ذلك).
والذي عول عليه الشافعي رحمه الله في الاحتجاج على كون الإجماع حجة تحرم مخالفته هذه الآية الكريمة بعد التروي والفكر الطويل وهو من أحسن الاستنباطات وأقواها وإن كان بعضهم قد استشكل ذلك فاستبعد الدلالة منها على ذلك ولهذا توعد تعالى على ذلك بقوله " نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا " أي إذا سلك هذه الطريق جازيناه على ذلك بأن نحسنها في صدره ونزينها له استدراجا له كما قال تعالى " فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون " وقال تعالى فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم وقوله " ونذرهم في طغيانهم يعمهون " وجعل النار مصيره في الآخرة لأن من خرج عن الهدى لم يكن له طريق إلا إلى النار.
قال الشافعي في "الأم": ( لم أسمع أحداً نسبه الناس أو نسب نفسه إلى علم، يخالف في أن فرض الله عز وجل اتباع أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتسليم لحكمه، وأن الله عز وجل لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه، وأنه لا يلزم قول بكل حال إلا بكتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم-، وأن ما سواهما تبع لهما، وأن فرض الله علينا وعلى من بعدنا وقبلنا في قبول الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- واحد لا يختلف فيه الفرض، وواجب قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ).
وقال الإمام ابن حزم عند قوله تعالى: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ( النساء 59): " الأمة مجمعة على أن هذا الخطاب متوجه إلينا وإلى كل من يُخْلَق ويُرَكَّب روحه في جسده إلى يوم القيامة من الجِنَّة والناس، كتوجهه إلى من كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وكل من أتى بعده عليه السلام ولا فرق " أهـ (الإحكام في أصول الأحكام).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولا عاماً يتعمد مخالفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فى شىء من سنته دقيق ولا جليل.فإنهم متفقون اتفاقا يقينيا على وجوب اتباع الرسول، وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله " .
فهذه أقوال الأئمة المشهود لهم بالعلم والصلاح والهدى والتقى. فكيف لأحد أن ينكر سنة رسول الله أو حجيتها بعد ما اجتمت على ذلك الأمة وتلقّاها أفذاذ العلماء وأئمّتهم بالقبول. بل إن أجل البراهين على زيغ فرقة القرآنييون وضلالهم ادعائهم أنهم وقفوا على ما لم يقف عليه غيرهم من جهابذة العلماء والفضلاء وتضليلهم للسلف والخلف، فإن من المعروف والثابت تاريخياً أن ظهور طائفة القرآنيين كانت في متصف القرن التاسع عشر الميلادي في شبه قارة الهند[12]، وأول ظهور هذه الطائفة في مصر كان في منتصف الثمانينات من القرن الماضي على يد المدعي أحمد صبحي منصور[13]. فهل كانت الأمة بأكملها في ضلال وزيغ حتى بعث الله من يجدد لها دينها ويمحصه من ما شوائب "السنة" بعد أكثر من أربع عشر قرناً من البعثة؟
حكم منكر حجية السنة
حكم أئمة الدين قديماً وحديثاً بكفر منكر حجية السنة النبوية لمخالفته صريح القرآن واجماع الأمة سلفاً وخلفاً.
قال ابن حزم رحمه الله في (الإحكام في أصول الأحكام): "ولو أن امرأً قال: لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن، لكان كافرًا بإجماع الأمة، ولكان لا يلزمه إلا ركعة ما بين دلوك الشمس إلي غسق الليل، وأخري عند الفجر (يشير إلي قوله تعالي: أقم الصلاة لدلوك الشمس إلي غسق الليل وقرآن الفجر، إن قرآن الفجر كان مشهودًا..الإسراء: 78)، لأن ذلك هو أقل ما يقع عليه اسم صلاة، ولا حد للأكثر في ذلك، وقائل هذا كافر مشرك حلال الدم والمال، وإنما ذهب إلي هذا بعض غالية الرافضة ممن قد اجتمعت الأمة علي كفرهم؛ ولو أن امرأً لا يأخذ إلا بما اجتمعت عليه الأمة فقط، وترك كل ما اختلفوا فيه مما قد جاءت فيه النصوص، لكان فاسقًا بإجماع الأمة، فهاتان المقدمتان توجب بالضرورة الأخذ بالنقل".
وذكر الإمام السيوطي رحمه الله كفر من جحد السنة في كتابه المسمى (مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة) فقال: "اعلموا رحمكم الله أن من أنكر أن كون حديث النبي صلى الله عليه وسلم قولاً كان أو فعلاً بشرطه المعروف في الأصول حجة كفر وخرج عن دائرة الإسلام، وحشر مع اليهود والنصارى، أو مع من شاء الله من فرق الكفرة".
كما قال الإمام الآجري في كتاب (الشريعة) :"وكذلك جميع فرائض الله عز وجل التي فرضها الله جل وعلا في كتابه لا يعلم حكم فيها إلا بسنن الرسول صلى الله عليه وسلم هذا قول علماء المسلمين من قال غير هذا خرج عن ملة الإسلام ودخل في ملة الملحدين نعوذ بالله تعالى من الضلالة بعد الهدى".
وقال الإمام الشوكاني في كتابه (إرشاد الفحول): "إن ثبوت حجية السنة المطهرة واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية، ولا يخالف في ذلك إلا من لا حظّ له في الإسلام"
و قال العلامة الشيخ ابن باز رحمة الله عليه في جوابه عن سؤال عن منكر السنة: "كلّ من تأمل هذه النماذج المشار إليها من ذوي العلم والبصيرة يعلم علماً قطعياً لا يحتمل الشك بوجه مّا أن معتنقها ومعتقدها والداعي إليها كافر كفراً أكبر مرتد عن الإسلام، يجب أن يستتاب، فإن تاب توبة ظاهرة وكذّب نفسه تكذيباً ظاهراً يُنشر في الصحف المحلية، كما نشر فيها الباطل من تلك العقائد الزائفة وإلا وجب على وليّ الأمر للمسلمين قتله، وهذا شيء معلوم من دين الإسلام بالضرورة، والأدلة عليه من الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم كثيرة جداً لا يمكن استقصاؤها في هذا الجواب، وكل أنموذج من تلك النماذج التي قدمها المستفتي من عقائد غلام أحمد برويز يوجب كفره وردته عن الإسلام عند علماء الشريعة الإسلامية ".
كما قال الشيخ بن باز عن رشاد خليفة وهو من المجاهرين بإنكار السنة: "وإن ما تفوه به رشاد خليفة من إنكار السنة والقول بعدم الحاجة إليها كفر وردة عن الإسلام؛ لأن من أنكر السنة فقد أنكر الكتاب، ومن أنكرهما أو أحدهما فهو كافر بالإجماع، ولا يجوز التعامل معه وأمثاله، بل يجب هجره والتحذير من فتنته وبيان كفره وضلاله في كل مناسبة حتى يتوب إلى الله من ذلك توبة معلنة في الصحف السيارة، لقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ * إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}".
كما أعدت لجنة السنة بمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر فتوى تنص على اعتبار جماعة القرآنيين (منكرو السنة) جماعة مرتدة عن الإسلام إن أصروا على موقفهم.
فإذا نظرنا الى هذا الاجماع من أهل العلم على كفر منكر السنة، ثم أضفنا الى ذلك ازدراء هؤلاء الخبثاء بسنة رسول الله واستئزئهم بها وإهانتهم لها كوصفهم إياها بـ"لغو الحديث" و "لهو الحديث" – قبحهم الله – فهذا أفحش كفراً وردّة لقوله تعالى: .. قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ (التوبة 65-66).
الخاتمة
ذكرنا آنفاً أن من قواعد أهل العلم والرشد الجمع بين أطراف الأدلة وأن إعمال الدليل خير من إهماله. كما أننا أخذنا بمنهج الإستقراء الذي قرره الإمام الشاطبي من خلال قانون تظافر أو تعاضد الأدلة الجزئية الظنية، "وإنما الأدلة المعتبرة هنا المستقرئة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد حتى أفادت فيه القطع، فإن للإجتماع من القوة ما ليس للافتراق، ولأجله أفاد التواتر القطع، وهذا نوع منه، فإذا حصل استقراء أدلة المسألة مجموعا يفيد العلم فهو الدليل المطلوب، وهو شبيه بالتواتر المعنوي"( الموافقات للشاطبي ).
فإذا جمعنا بين كل ما تقدم من أدلة عقلية وشرعية وأعملناها كلها بدون إهمال أي دليل شرعي أو عقلي أو لغوي، ثم نظرنا الى مجموع الأدلة لتبين لنا أنه لا مجال في الشك بأن سنة رسول الله مصدر تشريعي مستقل عن كتاب الله وأنه واجب علينا اتباع صحيحها قولاً وعملاً وأنها حجة في أثبات الأحكام. كما أننا يجب أن نقر بأن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم محفوظة مصونة لكونها جزس لا يتجزأ من الشريعة، وأن الله تعالى قيد من عباده الصالحين من حفظ سنة رسوله وذب عنها وبين صحيحها من سقيمها، ومن أراد أن يستزيد فاليراجع مناهج المحدثين وجهودهم في تنقيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وليس للعامي أو غيره أن يحكم على حديث بمحكم هواه، لظنه أنه يخالف الحس السليم أو العقل السديد فيفتح على نفسه باباً يخشى أن يوصله لما وصل إليه هؤلاء القوم الزائغين، إنما عليه الرجوع الى المتخصصين الذين أفنوا أعمارهم في دراسة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفهمها ليجد الفهم السليم الذي لا يخالف فيه صريح المعقول صحيح المنقول[14].
جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قيل يا رسول الله: ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى ) .
نسأل الله الكريم، رب العرش العظيم أن يتقبل منا هذه السطور ويجعلها في ميزان حسناتنا وأن يهدي من ضلّ طريقه إلى الحق، وأن يوفقنا لاتباع سنة رسوله قولاً وعملاً وأن يحشرنا على حوضه ويسقينا من يديه الشريفتين شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
[10] البحر المحيط، مباحث السنة – مسألة حاجة الكتاب إلى السنة
[11] http://www.islamweb.net/ver2/archive/printarticle.php?id=24305
[12] شبهات القرآنيين حول السنة النبوية
[13] http://www.ahl-alquran.com/arabic/aboutus.php
[14] فاليراجع من أراد المزيد من الفائدة ما صنفه العلماء في علم مختلف الحديث وهو علم يهتم بالجمع بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض.
أما بالنسبة الى موضوعنا، فنوصي بمراجعة الكتب التالية على سبيل المثال لا الحصر:
- السنة ومكانتها في التشريع - مصطفى السباعي -
- دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين - محمد أبو شهبة، ويليه الرد على من ينكر حجية السنة - عبد الغني عبد الخالق -
- عدالة الصحابة رضي الله عنهم في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية ودفع الشبهات - عماد السيد الشربيني
- كتابات أعداء الإسلام حول السنة ومناقشتها - عماد السيد الشربيني
- شبهات القرآنيين حول السنة النبوية - محمود محمد مزروعة
- شبهات القرآنيين - عثمان بن معلم محمود