فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      تعقيب على مقال: الأخ الدكتور محمد عمارة (الفاتيكان والإسلام) في المصريون

      جزى الله خيراً الدكتور محمد عمارة لما بذله من جهد في سلسلته الفاتيكان والإسلام التي تكبّد فيها الردّ على عظيم الفاتيكان، وكبير آباء الكنيسة الكاثوليكية لمّا تعدى على مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وافترى على الإسلام وأهله بجهل متعالم أو بعلمِ جاهلٍ، سيان. ولا شكّ أن ما خرج من فمِ هذا الأب المتنكّر للحق يجدر أن يـَردّ عليه من إستطاع إلى ذلك سبيلا بجرأة وعلم.

      لكن الأمر الذي نريد أن ننبه عليه في هذه السلسلة يتلخص في قضيتين، أولاهما، صحة النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أمر تعوّد العقلانيون التخفيف من أمره إلى حدّ العبث، وهو مما عُرف عن المعتزلة[1] خاصة – اللذين أشاد الدكتور عمارة بدورهم في حضارة الإسلام وتمجيد العقل! – وعن أهل البدعة عامة. فقد قال الدكتور في مقاله السادس " .. ألم يسمع عظيم الفاتيكان أن رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم قد قال : "العقل أصل ديني".. وقال : "عليكم بالقرآن ، فإنه فهم العقل، ونور الحكمة، وينابيع العلم، وأحدث الكتب بالرحمن عهدا " (رواه الدارمى)". وما يجب التنبيه عليه أنّ ما ذكر الدكتور ليس من أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فالقول الأول قد روى عن عليّ بن أبي طالب في نهج البلاغة ولم يصح عنه، أما ما رواه عن الدارميّ فلو إهتم الدكتور بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إهتمامه بأقوال الغزالي وابن رشد، لراجع الدارمي الذي أورده، ولو أتعب نفسه بقراءة سلسلة الحديث لوجده عن كعب لا عن رسول الله سلى الله عليه وسلم ولم ينسبه أحد قبل الدكتور لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرج الدارمي قال:حدثنا عمرو بن عاصم ثنا حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن مغيث عن كعب قال:عليكم بالقرآن فإنه فهم العقل ونور الحكمة وينابيع العلم وأحدث الكتب بالرحمن عهدًا، وقال في التوراة يا محمد إني منزل عليك توراة حديثة تفتح فيها أعينًا عميًا وآذانًا صمًا وقلوبًا غلفًا.." فهو في أفضل الأحوال موقوف على كعب ولا يصح نسبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

      وليس جديدا أن ننبه على ضرورة التحرى في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا هو جديدُ أن نذكّر بحديثه صلى الله عليه وسلم "من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" رواه الترمذي وقال حسن صحيح ولا أنّ نكرر ما استقرت عليه العلماء وذلّت له عقولهم بالتسليم من أن السنة هي المرجع الثاني في الشريعة بعد القرآن، وأنّها الشارح المبين لأحكامه. ولكن الجديد أن يغفل عنها مثل الدكتور عمارة في دفاعه عن الإسلام ونبيّه وأهله.

      والقضية الأخرى التي لا تقل خطراً عن الأولى أن منافحة الدكتور عمارة عن الإسلام ونبيّه وأهله تصدر من نفس المصدر الذي صدرت عنه الإعتزال وتستخدم نفس المعطيات فتدسّ في ثناياها التخفيف من قدر السمع وإعلاء دور العقل من فوقه. ونظرة إلى الأسماء التي نقل عنها الدكتور تنبئ عن صحة ما ذكرنا. فقد نقل عن الماورديّ، وبن رشد والغزالي والجبائيّ والقاضي عبد الجبار والجاحظ وهم – إلا الغزالي – من كبار المعتزلة الذين خلّطوا ووقعوا في شبهة تعظيم دور العقل وجعله حاكِما على الشرع.

      ثم حين نقل الدكتور عمارة عن بن تيمية – وبدأ نقله بقول "حتى بن تيمية .." كأن أهل السنة لا يرْقون إلى أن يكون لهم رأي في المنظومة العقلية الإعتزالية البدعية! نقل بتصرف كبير مخلّ عن بن تيمية في كتابه درء التعارض أنه قال" الحنفية وكثير من المالكية والشافعية والحنبلية يقولون بتحسين العقل وتقبيحه، وهو قول الكرامية والمعتزلة، وهو قول أكثر الطوائف من المسلمين" دون ذكر الجزء أو الصفحة، ولم نعثر في الكتاب المذكور على هذا النص بهذه الحروف، ولعلنا أخطأناه وله منى الإعتذار، وإنما وجدنا أقرب ما يمكن اليه في جـ9صـ12 حيث قال بن تيمية: " حتى قال أبو منصور الماتريدي في صبي عاقل إنه يجب عليه معرفة الله وإن لم يبلغ الحنث قالوا وهو قول كثير من مشايخ العراق ومنهم من قال لا يجب على الصبي شيء قبل البلوغ كما لا تجب عليه العبادات البدنية بالاتفاق قلت (اي بن تيمية) هذا الثاني (لا يجب على الصبي شيء قبل البلوغ) قول أكثر العلماء وإن كان القول بالتحسين والتقبيح يقول به طوائف كثيرون من أصحاب مالك والشافعي وأحمد كما يقول به هؤلاء الحنفية"،. والفرق بين النصين ظاهر، فقول "طوائف كثيرة" لا يعنى أنها "أكثر الطوائف"، كذلك ما ورد في كتاب بن تيمية " وهذا الأصل تنازع فيه المتأخرون من عامة الطوائف فلكل طائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد فيه قولان وأما الحنفية فالمعروف عنهم القول بتحسين العقول وتقبيحه"جـ9صـ10 وهذا الأصل يعنى التحسين والتقبيح ومن ثمّ الإيجاب والتحريم، وهو قريب مما حاوله الدكتور مع الفارق بين النصين كذلك.

      ثم إن رأي بن تيمية وهو رأي أهل السنة والجماعة قاطبة يخالف من زعم أن العقل يقبح ويحسن دون الشرع كما قالت المعتزلة وبعض الحنفية ومن زعم أن العقل لا يدرك الحسن والقبح ابتداءا كما قالت الأشاعرة والجهمية، بل الأمر، كما قال بن تيمية أن " .. قول أحمد لا تدركها العقول أي أن عقول الناس لا تدرك كل ما سنه رسول الله فإنها لو أدركت ذلك لكان علم الناس كعلم الرسول ولم يرد بذلك أن العقول لا تعرف شيئا أمر به ونهي عنه ففي هذا الكلام الرد ابتداء على من جعل عقول الناس معيارا على السنة ليس فيه رد على من يجعل العقول موافقة للسنة "صـ10. ففارق بين من جعل العقل معيارا للشرع ينزّله عليه وبحكّمه فيه وبين من جعل العقل موافقا للشرع لا تعارض بينهما، فيما يمكن للعفل أن يدركه بنفسه، وعليه ينزّل كلام القرافي المذكور في مقال الدكتور، لا أن العقل له مرجعية مطلقة في التحسين والتقبيح كما ينص عليه كلام الدكتور!

      والجزء التاسع الذي نقل عنه هذا الكلام "بتوسعٍ" هو مناقشة بن تيمية لأصحاب الرأيين المتضادين، في تقديم السمع أو العقل، وبدأه بنقل ما ذكره الشريف أبو علي بن أبي موسى في شرح الإرشاد، من نصر السمع على العقل بإطلاق ثم نقل ما ذكره القاضي أبا يعلى وتطرق لأقوال بن رشد وأبي المعالى الجوينيّ في الإرشاد. والأمر في كتابات بن تيمية أنه يجب التنبه إلى ما هو من قوله أو مما ينقله عن غيره. ورأي بن تيمية في التحسين والتقبيح العقلي والشرعي يُعرف مما كتب في مواضع كثيرة أخرى لا محل لذكرها في هذا العتاب.

      والله سبحانه الهادى لما فيه الحق

      د. طارق عبد الحليم

      [1] راجع كتابنا عن المعتزلة http://www.tariqabdelhaleem.com/book.php?cat=1