فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      اللغة العربية: أحيوها تحيوا بحياتها (2)

      تحدثت في مقال سابق [1] عن لغتنا الجميلة، ولوعتها لما اصابها من وهن وضعف نتيجة الإهمال والتنكر اللذين أصبحا سمة التعامل معها في عصر الأمركة و"الفبركة"[2]. إلا أن الحسرة واللوعة والهجمة على اللغة العربية هي جزء لا يتجزأ من الهجمة الشرسة على الإسلام ومبادئه وأهله، هذا أمر لا يختلف حوله أحد. ولكن الأمر أن للمسلمين جانبٌ من المسؤلية يتحملونه، في هذا الأمر على أقل تقدير. فإهمال اللغة في حياتهم وفي ثقافتهم وكتابتهم، إهمالها في صحفهم ووسائل إعلامهم، إهمالها في مدارسهم ودور علمهم، بل وفي خطب مسؤليهم ووزرائهم، جعلها غريبة في دارها وبين أهليها. واللغة لا حياة لها إلا بإستعمال الناس لها، فهي كالنبتة التي لا تزال تعطى ثمارها لمن يتعهدها بالرعاية ويحيطها بالحبّ، فتكون دائمة الذكر على لسانه حباً ورعاية.

      وأمر إعادة اللغة إلى مكانتها، أو إعادتها إلى حياة الناس وإزالة العوائق بينها وبينهم أمر يحتاج إلى كدّ وتعمُّـل[3] ومن قبل ذلك إلى فكر وتأمّل، ولكن مما لا شكّ فيه أن أحد عناصر الإحياء المنتظر هو تقريب هذه اللغة العظيمة من عقول الشباب وقلوبهم، إذ هم نبذوها لوهمٍ استقر في عقولهم بصعوبتها وقلة جدواها، بل وسخافتها وثقلها! وهو أمر لا أثر للحقّ فيه. وهم في ذلك معذورن غير ملومين. فالمربين ومدرسي اللغة أنفسهم ليس عندهم، في أيامنا هذه، وعيّ وفهم باللغة ودقائقها ومعانيها واشتقاقاتها الصغرى والكبرى بل ولا فلسفتها ومنطقها وقياسها وعللها الذي هو أقرب نسباً لعلوم المنطق والأصول بل والرياضيات من أيّ علم آخر. ذلك إلى ما فيه من عَوَزٍ[4] إلى حِسٍِّ مُرهفٍ ونفسٍ شفـّافةٍ تهتزُ لما في تراكيب هذه اللغة من نغم راقص تنبهرُ به النفس العارفة المُستشرِفة [5].

      وسأضرب مثلين قد ينبهان الغافل عن جمال هذه اللغة من صاحب العقل المنطقيّ وصاحب النفس المرهفة من الشباب، وليكونا دليلا على ما قصدنا من ضرورة تغيير منطلقات تعليم اللغة العربية، من ناحية، وتأمين من هم أولاء أن يدرّسونها من ناحية أخرى.

      ما يجب أن يعلمه الشباب أن اللغة العربية مبنية على التناسب الدقيق والتقارب الوثيق بين معانيها ومبانيها، أي بين حروف كلماتها وبين ما تحمل هذه الحروف من معانٍ. ولننظر إلى كلمة "كـَلـَمْ" التي هي الأصل الثلاثي لمادة الكلام[6]. والتراكيب التى يمكن أن تتخذها حروف هذه الكلمة هي "كـَلـَمْ"، "كـَمَـلَ"، "لَـكـَمَ"، مَـكَـلَ"، "مَـلَـكَ"، "لَـمَـكَ"[7]، وكلّها تدل على القوة والشدة، فالأولى كـَلـَمْ تعنى الجرح وفيه معنى الشدة المصاحبة للألم، ثم لَـكـَمَ تعنى ضرب ووَجأَ وفيه الشدة والقوة التي في اللكم، ثم مَـكَـلَ أي قلّ وتقال على البئر حيت يقلّ ماؤه فجفّ وفي ذلك مافيه من الشدة، ثم مَـلَـكَ وهى من المُلك ولا يخفى معنى القوة فيه، ثم أخيراً لَـمَـكَ وتعنى تحريك الفمّ بالطعام أو الكلام، وفيه صورة المضغ الذي يحمل الشدّة على المأكول أو المنطوق. فمن هذا نرى العلاقة الوثيقة بين الحرف والمعنى في لغتنا العربية.

      ثمّ إن أسلوب أداء الكلمة في العربية يختلف عن بقية اللغات وأداء حروفها بأنه أداء مؤّثر فاعل لموضع الحرف فيه أكبر الأثر في إيصال المعنى وبناء الصورة. أنظر إلى قول الله تعالى: "وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى" الأنفال 17. أنظر إلى تكرار فعل الرمي متصلا بتاء المخاطب مرتين متتاليتين – رميت - وبدونها مرة – الله رمى – قد جعل الآية تحمل نغما أتى من تكرارها، ثم إذ تتوقع الثالثة، عرجت بك الآية إلى الفعل الثلاثي الذي لامه ياءاً ممدودة تحمل النفس على الإطمئنان لرمى الله تعالى.

      وأذا أردنا أن نضرب مثلا لذلك التناغم الداخلي الذي يمتزج بألفاظ العربية ويتعانق مع حروفها وكلماتها في أداء معانيها لذهبنا نضرب مثالا من علم العروض وندرس بحرا من بحور الشعر ونتعرّف على حركاته وسكناته وتواليهما في نسق موّحد يحمل النغم المصاحب لهذا البحر، ولنكّا سنلجأ إلى ما هو أقرب فهما وأيسر موردا بأن نلجأ إلى الحسّ اللغوي عند السامع مباشرة، فاستمع إلى هذه الأبيات:

      يا ليلُ الصبّ متى غده   لمريض ملّت عوّده ما كان هواي لعاشقـــةٍ   أو كان لظبيّ أعهده بل لاسم الله وفي اسم اللــــــــــه   وباسم الله أوحّده فمتى ألقاكَ وبي شَغَفٌ   أقيامُ الساعةِ موعِده

      وهي – وإن كانت لشاعر صوفيّ عريق في الصوفية، إلا أن لها جرساً لا تخطؤه أذن واعية بنغم اللغة، ونفس حاسّة بوقع كلماتها وأداء حروفها.

      وللكلام بقية إن شاء الله تعالى.

      [1] http://www.tariqabdelhaleem.com/details.php?id=134

      [2] والفبركة كلمة مولّدة غير عربية أصلها من كلمة Fabric والفابريكة هي المكان الذي تنسج فيه المشغولات على أنواعها، والفبركة هي إشتقاق عاميّ يدل على نسج ما ليس له أصل، وهي هنا حقيقة بالإستعمال لتقرن بما تفعله أمريكا من نسج الباطل لإستبداله بالحق.

      [3] بذل الجهد والعمل، قال الشاعر:
      تكاد مغانيها تقول من البلى          لسائلها عن أهلها: لا تتعمّل ِ

      [4] العوز: الإحتياج

      [5] استشرف: نظر إلى أعلى لشئ رفيع القدر.

      [6] ونستميح إمام العربية عثمان بن جنيّ أن ننقل عنه بعض درره في كتابه الأعظم "الخصائص" والذي هو أقرب كتب اللغة إلى نفسى.

      [7] المضغ وتحريك الفكّ بالطعام، وقد تغاضى بن جنيّ عن هذا الإشتقاق لعدم اقتناعه بما ذكره المفضّل الضبيّ عن معناها، إلا إننا سنذكرها هنا لقدر المفضّل في العربية. وقد استعمل الإشتقاق في قصيدة تنسب لأبي حنيفة قال فيها:
      وعليُّ من رمد به داويته           في خيبر فشفى بطبيب لماكا