يقوم الهيكل الإجتماعيّ السياسيّ في البلاد على تقاسم الإختصاصات بين السلطات الثلاثة، التشريعية والتنفيذية والقضائية. ولا يخفى على أحد دور كل سلطة وحدود هذا الدور. فالسلطة التشريعية – على الأقل في البلاد التي تتبني النظام العلماني – هي التي تشرع القوانين وتسنّها لتنظّم العلاقة بين ابناء الوطن في شتى المجالات من ناحية وبين ابناء الوطن والنظام الحاكم (السلطة التنفيذية) من ناحية أخرى. وتقوم السلطة التنفيذية على تنظيم العلاقة القائمة على هذه التشريعات بين أبناء الوطن وتوجيهها لخدمة المواطن في كافة المجالات التعليمية والإقتصادية والثقافية وغيرها من خلال الوزارات المختلفة. وحين ينشأ نزاع بين المواطنين أو بين المواطن والسلطة التنفيذية، يأتي دور السلطة القضائية التي تحسم الخلاف حسب مرجعية التشريع المعتمد في البلاد، سواء كانت المرجعية للشريعة في البلد الإسلامي، أو للقانون الوضعيّ في البلد العلمانيّ.
ومن هنا نرى أهمية إستقلال كلّ من هذه السلطات إستقلالا تاماً يضمن أن تكون قراراتها مستقلة غير منحازة. وأي تدخل أو تداخل بين هذه السلطات لا يعنى إلا الهرج والظلم والتعدى بين أبناء الوطن وبين المواطن والنظام التنفيذي الحاكم ويصبح الحق مطيّة للسلطة من حيث أن المفترض أن تكون السلطة مطية للحقّ.
ما يجرى اليوم – بل ما يجرى منذ عقود – في مصرنا الحبيب هو خلط متعمد بين هذه السلطات وتعدٍ سافر تتولى كِبْره السلطة التنفيذية التي ارتكزت في أول أمرها على قوة الجيش ثم انتقلت إلى هياكل شكلية لديموقراطية جوفاء لا حقيقة لها ولا وجود على أرض الواقع، إلا في هياكل تتمثل في الحزب الحاكم.
والواضح الجليّ بعد سلسة الأحكام التي صدرت ضد عدد كبير من الشخصيات الصحافية ومن المبررات القضائية التي صاحبت تلك القرارات أن السلطة الحاكمة قد إخترقت صفّ القضاء بالفعل وأن طابورها الخامس في السلطة القضائية أًصبح أداة يتلاعب بها للوصول إلى غرضه بعد أن اخترقت السلطة التشريعية منذ عقود بطابورها الخامس والسادس في الهيئات التشريعية ومجلس النواب.
استقلالية القضاء تعبير عن ضمير الأمة الحيّ كما إنها دلالة على مدى صحة الباطن وإن تلوّث الظاهر، وهي، من ثمّ، معيار الرقيّ في الأمم الحرة، ومعيار احتمالية التغيير في الأمم المحتلة ذاتياً أو خارجياً، والحرص عليها حرص على مقومّ الحياة الذي يضمن إحقاق الحق بين الناس. وحين يتلون القضاء المدني بلون السلطة السياسية نرى انقلاب المعايير وتأويلات القوانين بما لا يساير الغرض الرئيس من وضعها إبتداءاً، وهذا فيه ما فيه من تكريس الباطل وعُلو شأنه.
وقد كانت مصر على مدى تاريخها معقل للعقل القانونيّ ومركز لتطوره، فأن ينفذ الخلل إلى هذا المركز وأن يخترق هذا المعقل لهو خسارة فادحة ليس فقط لمواطنيها الذين يعانون من الظلم بشقيه، المباشر من السلطة الحاكمة وغير المباشر من تحيّز القضاء إن سَعِدَ المواطن بأن سَمَحت له السلطة الحاكمة باللجوء اليه! بل هو خسارة فادحة لكل من وما ساهم العقل القانوني المصريّ في بنائه منذ أكثر من قرن مضى في منطقتنا العربية.
إختراق القضاء أمر يجب أن ينتبه المعنيون بالأمر إلى دلالاته أيّما انتباه، إذ إن انحرافه هدم لمرجعية الحق واختراق لحصنه الأخير في البلاد، وحين يؤتى هذا الحصن من قبل أهله يصبح الأمر أكثرَ خطراً والمرضُ أشدّ استشراءاً، ويصبح "سحرة فرعون" ليسوا فقط ممن يملك العِصِيّ ويلقيها ولكن كذلك هم من يفصل بين فرعون وأهل مصره، وما فاز من أصبح خصمه حكمه!
د. طارق عبد الحليم