فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      من هَـديّ النُبـوّة: إذا ضيّعت الأمانة...

      حدثنا محمد بن سنان قال: حدثنا فليح (ح). وحدثني إبراهيم بن المنذر قال: حدثنا محمد بن فليح قال: حدثني أبي قال: حدثني هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم، جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟. فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث، فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال. وقال بعضهم: بل لم يسمع. حتى إذ قضى حديثه قال: (أين - أراه - السائل عن الساعة). قال: ها أنا يا رسول الله، قال: (فإذا ضعيت الأمانة فانتظر الساعة). قال: كيف إضاعتها؟ قال: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة). حديث من جوامع كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ينطق بالحكمة التي قرنها الله سبحانه بكتابه العزيز. والحديث، كسائر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ملئ بالمعاني حيثما التمثها الناظر فيه وجد منها جديداً وعزيزاً.

      والسؤال عن أمر الساعة سؤال يكشف عن الطبيعة الإنسانية التي تستشرف الغيب وتريد أن تنفذ إلى مكنوناته لتلبي رغبة أصيلة في كشف المجهول من ناحية وتجيب فطرة الفضول التي تسكن النفس الإنسانية من ناحية أخرى، والتي بسببها وَجّه الله سبحانه عباده إلى أن لا يَقفُوا ما ليس لهم به عِلم. ولكن أمر الإجابة أمر آخر. أمر كعادة أمر الوحي الذي يهدى الإنسان إلى طريقه في الدنيا قبل أن يجيبه إلى إرضاء فطرة الفضول أو رغبة كشف المجهول.

      وقد تمثلت الإجابة في شفّين، أولهما يعتبر علامة تدل على الساعة دلالة واقعية لا دلالة غيبية، تضييع الأمانة. وتضييع الأمانة أمر مهول يلقي بالإنسان في أسفل درجات الإنسانية، ويقذف بمجتمعه إلى حضيض الهرج وإضاعة الحقّ. وقد قال تعالى: "وأدوا الأمانات إلى أهلها". تضييع الأمانة يعنى غياب الضمير واستشراء النهب، ونتيجته إنعدام الثقة بين الناس، لا في المال فقط بل في كافة جوانب الحياة الإنسانية، فالزوجة لا تأمن لزوجها، والأخ لا يأمن لأخيه، والتاجر لا يأمن للممول، والشريك لا يأمن لشريكه، والأمر فوضى لا رابط لها.

      وكأن السائل قد رأى بعين البصيرة ما تتشعب اليه إضاعة الأمانة في مناحي الحياة، فأراد أن يعرف من مصدر الثقة التي ما بعدها ثقة عن أسفل درجات إضاعة الأمانة لتكون تنبيهاً على ما هو أقل منها أثراً واقرب خطراً. وكان أن أجاب الصادق رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ضابط تضييع الأمانة وأعنف صورها هو أن يوسّد الأمر إلى غير أهله. أن يكون الحاكم، ومن حوله ممن توسدوا الأمر وقبضوا على زمامها، أخسّ الناس وأوضعهم، والحاكم هو بطبيعة الحال رأس الأمر، إن صَلُحَ صَلَحَ أمرُ الناس، وأن انحرف عمّت الفوضى بين الناس

      إذا كان ربُّ البيتِ بالدفِّ ضارباً   فشيمة أهلُ البيتِ كلهم الرقصُ

      توسيد الأمرإلى غير أهله علامة من علامات الساعة إذ تفشى الغدر والنهب والسرقة ينبؤ بتحول الناس من عبادة الله إلى عبادة النفع والخضوع للخيانة واستمرائها، وهم الجمع الذين قال عنهم الصادق صلى الله عليه وسلم من قبل أن الساعة لا تقوم إلا عليهم، شرار الناس، وهذا ما يجمع بين هذه الأحاديث الشريفة لتنتظم منها صورة تربط تجربة الماضى بآلام الحاضر وما يوجّه اليه من خيارات المستقبل.

      توسيد الأمر إلى غير أهله أمر لا يجب أن يستمر على حاله، إن أراد الناس أن تمتد بهم الحياة ليتجاوزوا جيل الشرار، وهو واجب المؤمنين المؤتمنين من أهل الإسلام، أن يزيحوا من لا أهلية له ويردوا الأمور إلى نصابها، ذلك وإلا فهي الساعة...

      د. طارق عبد الحليم