فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      فوضى الإفتاء .. وأثرها السيئ على الأمة

      الحمد لله والصلاة والسلام على رَسول الله صَلى الله عليه وسلم

      لاشك أن الواقع الحاليّ الذي تمر به الأمة الإسلامية، يمثل تحدياً لأبنائها، بكافة طوائفهم، في كلّ مجالٍ. والأمر أن الأمة لم تكن على إستعدادٍ لإستبدال الواقع، بل كانت على إستعداد لإسقاط الواقع، والفرق جدُّ كبير. من هنا، فإن الفوضى هي السّمة الأساس الغالبة على كافة قطاعات الأمة وتصرفاتها، والتي يمكن أن توصف بالعشوائية.

      وإن كانت هذه العَشوائية والفوضى هي سِمة المَرحلة  التي تمر بها الأمة، فإن الواقع الإسلاميّ كجزء لا يتجزّأ منها، لم ينجُ من هذه السمة، الفوضى والعشوائية والإرتجالية في القول والعمل جميعاً. وهو ما يعكس خطراً داهماً على مسار النهضة الإسلامية، وعودة الإسلام إلى الصَدارة مرة أخرى. وهذا قريبٌ مما حَدث في السبعينيات، بعد أن أطلق السادات حرية أكبر وأوسع للحركات الإسلامية، التي لم تكن كافتها مؤهلة للتعامل مع المرحلة بما يحقق أهدافها، أو بعضاً منها. فإنشغلت الحركات الإسلامية في معارك إنتخابية طلابية إخوانية، أو صِراعاتٍ نظرية جانبية، على رأسها موضوع الإعذار بالجهل، ومسائل التكفير وحدوده ومجالاته، وما إلى ذلك، مما لم يصُبّ في خدمة المرحلة، وإن كان في ذاته على قدر كبيرٍ من الأهمية. وما أبرئ نفسى من هذا الفشل، فقد كنت وقتها ممن انشغل مع الناس بهذه الموضوعات، في تقييد أوابدها، وجمع شواردها، وتقعيد مسائلها، ولم نلتفت حينئذ إلى ما ألحّتْ اليه الحاجة، وما اشتدٌ عليه الطلب، فغادرنا السبعينيات، أسوأ مما دخلنا فيها، والله المستعان.

      وما أقصِد اليه هنا، هو أن أربعين عاما دارت قبل أن تتهيأ فرصة أفضل مما تهيأت من قبل، فإذا بالواقع الإسلاميّ كما هو لم يتغير! لا زالت الفوضى والعشوائية والإرتجالية هي السّمة العامة التي تحكم تصرفات العاملين في حقل الدعوة، ولا زالت تطبع أقوال "المفتين" في مجالها.

      وتتجسد هذه الفوضى والعشوائية والإرتجالية، في تصرفات كافّة الحركات الإسلامية، المُنظّمة وغير المُنظّمة، القديمة منها والحديثة. فنرى الإخوان مثلاً، يتصرفون بالعشوائية المعتادة، التي وإن كان ظاهرها الشورى والرأي الجماعيّ، فإن حقيقتها الإستبداد بالرأي والفردية في إتخاذ القرار. نرى تردّد الإخوان أولا عن الإشتراك في الثورة، بل والبعد عنها، ثمن نزولهم الساحة في 28 يناير، ثم إعلان رفض التحاور مع السلطة آنذاك، ثم التحاور مع عمر سليمان، ثم إعلان رفض التحاور مرة أخرى، ثم التخلف عن جمعة إنقاذ الثورة في 1 أبريل، ثم إعلانهم الإشتراك فيما بعدها، وهكذا.

      ثم نرى الفوضى التي تسود أوساط أهل السنة، وتفرقعم شيعاً، ما يختزل جهدهم إلى القليل من العمل والكثير من الجدل. وهو جدلٌ عقيمٌ ثار نتيجة عملية الفوضى في الإفتاء، التي سببها الرئيس راجع إلى جيل الإنترنت، من دعاةٍ وفقهاءٍ ومفتين! تجاوزت الفتنة بهم قدْر فتنتهم. ومثال ذلك الفتاوى التى تتردّد عن حرمة الإنتخاب سواءاً للتشريعي أو للرئاسة، في واقعنا الحاليّ، والتي لا يتعرض اي منها للإجابة عن السؤال البديهيّ المطروح: هل يجوز لديكم إذا أن نترك اللادينيين يسيطروا على الحكم فعلاً، فيما نطالب نحن به قولاً، ونختزل نصرة الإسلام إلى عدة مواقع شبكية تتجادل فيما بينها؟ وهل بهذا يكون قد تحقق مَقصد الشارع في أحكامه؟ بل لقد بلغ الحدّ بأحدهم أن زعمَ أنه لو جاء الدستور موافقاً للشريعة بالتمام، ومُحرِّماً أي طرق أخرى للتشريع، أو سلطة الشعب أو الديموقراطية، لحَرُم قبوله، لإنه جاء في أول الأمر مُستنداً على رأي الشعب الذي يعكس أنه هو السلطة العليا من حيث يجب أن لا يكون!! ولا يجد المرء ما يقول لمثل هذا التقرير.

      هذه الفوضى الإفتائية، التي أراح الإخوان أنفسهم منها بأن صارت قراراتهم لا تقوم أساساً على فتوى شرعية بحلٍ أو حرمة، والتي قابلها الموقف الآخر فيمن جعل الفتوى سبيلاً إلى تحكّم اللادينيين، وإضاعة فرصة الإسلام في الحكم - دون المُخالفة الشرعية كما بيّنا في هذا المَناط - لصالح العلمانية، يجب أن تصل هذه الفوضى إلى نهايةٍ وتقف عند حدٍ، قبل أن يعمّ ضررها ويتفشى بلاؤها، وتصبح جزءاً من المشكلة لا من حلّها، وإذا الفتاوى نقمة لا نعمة.

      فأن تُترك التصرّفات دون أن تستندّ على فتوى شرعية، تبيّن وجه الحِلّ فيها أو الحُرمة، كما يفعل الإخوان، لهو أمرٌ يناقضُ بذاته معنى الرجوع إلى الشريعة والتحاكم اليها. والفوضى الإفتائية التي بات يتجرؤ عليها كلّ من نصب نفسه مفتياً، وتوَرّمَت أوهام مَشيخته بعدد قراء صفحات النت وتعليقات القراء المُبارِكين، هي كذلك تناقض ما استقرت عليه قواعد الإفتاء وأوصاف المفتين. وما أرى إلا أن الفتنة لا تأتي من سوء نية أو فساد طوية، قدر ما أراها تعود إلى أمور ثلاثة، أولها حداثة السن وضآلة الخبرة بالحياة، لذلك قال تعالى "حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةًۭ قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِىٓ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِىٓ أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَىٰ وَ‌ٰلِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَـٰلِحًۭا تَرْضَىٰهُ" الأحقاف 15، فالنضج الفكرى بتجارب الحياة وبلوغ العُمر الذي يؤهّل المرء أن يعمل الصَالح الذي يرضاه الله، وهو هنا الصالح الأعم، لا الأخص، إذ الأخص مأمور به منذ البلوغ، كالصلاة والصوم. الأمر الثاني هو قدر التحصيل من العلم، والذي، إن لم يَخضَع للمعايير الني استقرّ عليها العلماء على مرّ الزمن، بات يخضع للتقدير الذاتيّ، وهو كارثةٌ بكل المَعايير، بما فيه من خداع النفس، وتحلى المرء بما ليس فيه، أو للتهويل الجماهيريّ الذي يجعل العاميّ حاكماً على من يراه يصلح لدور العالم ليس العكس، فيقيمه عالماً بهواه، ويصبح أمر التحاكم للشرع دون الهوى حبرٌ على ورق. ويؤدى هذا إلى ترديد ما حفظه "المفتى"، مما يصلح لمناسبة دون مناسبة، والعذر قائمٌ في وهمِ التمسّك بالحق، والحق أنه لا يعرف غير ما رّدّد قولاً يَستند اليه. والثالث، يعود إلى القدرة الفردية على الإستيعاب، وهي قوة فطرية ترسخ في العقل، ويتمايز فيها الناس أشد التمايز وأبْيَنه، فيخفى على الأكثر ما يظهر للأقل، ممن حباهم الله نعمة الفهم ودقة النظر وحسن الإستنباط. ليس إذن كلُّ مسلمٍ بقارئ، وليس كلُّ قارئ بفاهم، وليس كلُّ فاهمٍ بمستوعبٍ، وليس كلُّ مستوعبٍ بناظرٍ، وليس كلُّ ناظرٍ بمستنبطٍ، وليس كلُّ مستنبطٍ بمُحقق، وليس كلُّ مُحققٍ بمُفتٍ، وليس كلُّ مفتٍ بصائبٍ، وقانا الله شرٌّ الفتوى الخادعة.

      والملاحظ أن القارئ العاميّ قد تحول كذلك إلى مفتٍ في غيبةٍ من أية ضوابط في هذا الأمر الجَلل. فتجد القارئ العاميّ حين يعلقُ على قول شيخ من المشايخ، أو عالماً من العلماء، لا يجعل تعليقه في شكل سؤالٍ، بل هو يقرّر ويُأصلُ، ويقعّد ويفصّل، ويخرجُ بنتائجٍ ترتاح لها نفسه، ويقبلها عقله، دون إنتظار جواب، فما الغرض إذن من التعليق، إلا أن يكون بيانا للشيخ وتعليماً وتقويماً. ومن هنا ذابت الفروق وانهارت الفواصل، وتلاقت قِممُ العَالم والعاميّ، وفاقت هِممُ الطالب همم المعلم! فصارت القمةُ غُمة، والهمة همٌ، ونستجير بالله من الطوام!

      الأمر الذي يجب أن يحكم شارع الإفتاء اليوم هو شِدّة الحَذر والإحجام مَحل الإقدام، إلا من شهد له العُلماء المُعتد بهم بالقدرة، ووثقته مباحثه، وتحدثت باسمه مؤلفاته، وعُرف بالجِدّة والجِدّية والخبرة في معترك الحياة، مع تقوى الله وحب دينه، فالأمر اليوم ليس أمر إفتاءٍ في إستنجاء، بل أمر أمة تقرر مصيرها وتحدد مسارها.