فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      على هامشِ قضية المُشاركة السِياسية في مصر

      الحمد لله والصلاة والسلام على رَسول الله صَلى الله عليه وسلم

      لم أتوقع أن يُحدث مقال "حكم المشاركة في العَملية السياسية في مصر" ردّ الفعل الذي أحدث. وقد جاءت تعليقاتٌ عديدة عليه، أسعدني منها كثيرها، وأقلقنى منها قليلها. لكنّ كثيرها وقليلها كانا دليلَ صحةٍ وعلامة تيقظٍ عند شباب الدعوة من المخلصين، نحسبهم. وقد أردت اليوم أن أزيد الأمر وضوحاً لدى من أقنعه الحديث، وأزيل ضَباب القلق عمّن لا يزال ضَباب القلق يُحبط رأيه ويشوّش على نظره.

      ابدأ بالقول، نصحاً وإشفاقاً، أنّ الإسلام ليس فيه صاحب قولٍ معصومٍ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حقٌ أكيد، وأنّ الرجال يعرفون بالحق، وليس العكس، وهو حقٌ أكيد، ولكن ليس هذا مَدعاة لأن تأخذ نفس طالب العلم العزة بالإثم، فيعوّل على هاتين الحقيقتين في أن يَستخفّ برأى من سَبقوه على الدرب، ومن أرشدوه وهدوه في مَهدِ علمه وحَضَانة عقله، فإنّ في ذلك من الدَورِ ما فيه، ومن الخُلفِ ما يزيّفه ويَمحيه. والسؤال دائما مطلوبٌ والتبيّن مرغوبٌ، لكن بشروطه، ولا مانع أن يأخذ كلّ أحدٍ بما يراه حقاً، فإنه هو المسؤول عنه أولا وأخيراً، لكن الإحترام لازمٌ، والتوقير واجبٌ، وقد ظل الشَافعيّ ستة عشر عاماً يدرُس على مالكٍ رحمهما الله جميعاً، فلم يخالفه في رأي إلا بعد أن توفي مالك، وأثبت الشَافعيّ خلافه معه في أكثر من خمسين مسألة، ذلك هو أدب العلم دون زيادة تعليق.

      وقد أورد علينا أحد المُعلقين إشكالاً، يحسبه كذلك، فقال إنه قد أصَابنا ما أصَاب مَشايخ السّلفية الإرجائية، وقد كنا ننكِر عليهم من قبل منعهم تلامذتهم من الإختلاف معهم. واقترح الأخ أن نضيف اسمنا استثناءاً من مقولة مالكٍ! ولولا أننى لست في شكٍ من إخلاص من كتب هذا الهراء، ما اعتنيت بذكره، لكنّ هذا الشباب أمانة يجب محاولة حفظها ما عَاوَنَت على ذلك. وما لم يدركه الشَاب المُسَفِّه، أنه يسوى بين نفسه وبين من هم على خطأ وباطل من الرأي، فتحذير من هم في ركب الحقّ من العُروج عنه لا يستوى ومنع من هُم في رَكب الخَطل من مُجانبته، لا يستويان، وإن شكّ هذا الشاب إنه على الحقّ، ، وتحذيره من مخالفته حقٌ، ومن تابعهم عليه أولى بالحق، فأولى به أن يرى لنفسه رأياً آخر، وهو مع الأسف ما يصِل اليه حال هؤلاء في غالب الأمر. ثم نشفق، والله، على صاحب هذا التعليق، فإنه لا مانع على الإطلاق من أن يُخَالف أي صَاحب قولٍ رأي نِدِّه، إن كان نِدَّه، حِرصاً على نفسه من الزلل.

      والموقف الذي تمر به مصر، هو مَوقفٌ، يذكرُني إختلاط الأمر فيه بما حدث أيام التتار، مَعكوساً، حين صَلى وقرأ القرآن التتارُ ونطقوا بالشهادتين، لكن استكبروا على تحكيم الشريعة، واختلط الأمر على الناس، أيقاتلون من نطق بالشهادتين؟ وإحتاج الأمر إلى بن تيمية ليبيّن لهم مناط الإسلام، ويبدد عنهم ضباب الواقع. واليوم، كالبارحة، يحتاج الناس، لا سيما طلبة العلم من الشباب إلى أن يتحَصّنوا برأي عُلمائِهِم ومَشايخهم، فالسير في هذه الدروب التي تلفلفت مَساربها، وتشابكت وتشابهت دُروبها، يحتاج إلى أكثر من إحاطة بقواعد عامة وأحكام أصلية وتعاريف مُجملة، تحتاج في كلّ آنٍ من يُنزِلَها مَنازِلها ويضَعها في مَواضِعِها، دون إفراط أو تفريط.

      والآن، إلى الموقف الراهن، وقد بيّنت فيما سبق أن تحريم المُشاركة في إنتخابات إو مجالس ليس تحريماً عاماّ لا يُعدل عنه في كلّ مكان أو زمنٍ أو حال، بل ليس في الشريعة كلها، بلا استثناء حُكم شرعيّ له هذه الصفة من الإستدامة، فشُرب الخمر وأكل لحم الخنزير يحِلان للضّرورة، بل والنطق بكلمة الكفر يحلُ إن تعرضت النفس للهلاك، بنصّ القرآن. إذن، الأمر أمر مناطٍ أولا وأخيراً، وقد كان مناط التحريم في العهود السابقة هو أنّ هذه المَجالس قد بُنيت وأسّست، ودّخلها وشَارك فيها من شَارك على أسُسٍ علمانية لادينية، تسوّى الشَعب بالله سبحانه. ثم حدث أن أسقطَ الله هذه المَجالس، إسقاطاً أصلياً لا كما يحدث في نهاية دورتها، بل حلّها وأسُسَها معاً، إذ لم يعد هناك دُستورٌ للدولة أصلاً،ولم يتوافق الناس بعدُ على عَقدٍ إجتماعيّ جديد. هي إذن ساحةٌ مفتوحة لمن غَلبَ، إما الإسلام، وإما العلمانية، التي تتمنى إنسحاب السّذج من المسلمين لتسيطر عليهم وعلى المجتمع إلى ما شاء الله. وهذا الغَلبَ لا يكون إلا بأحد التوجهات التالية:

      1. أن يخرج المُسلمون إلى الشارع رافضين إجراء إنتخاباتٍ، ومطالبين المجلس العسكريّ بالإستقالة، وتعيين أحد من المسلمين لإدارة الدولة، فتكون الحرب الأهلية بلا شك، والتي سيواجه فيها "الإسلاميون" قُوى الجيش والعلمانية والقبط معا، علماً بأن جُلّ المسلمين من الأغلبية الصَامته، ستنأى بنفسها عن هذا الصراع، الذي تعرف بفطرتها أنه صراع لم تكتمل شروطه بعد.
      2. أن يصْمت "الإسلاميون"، ويتراجعوا ويُحجموا، فلا يخرجوا مُعارضين، ولا يشتركوا مُصَوّتين، ، ويستمروا في نشر دعوة التوحيد، بينما يتولى البرادعي أو أيمن نور الرئاسة، وتؤول الوزارة إلى عمرو موسى ومن شابهه، ويكون عمرو أديب وزير الإعلام، ويعود فاروق حسنى وزيراً للثقافة.. إلى آخره من كابوسٍ نسأل الله تعالى أن لا يرينا تأويلَه أحياءاً. وبالطبع سيكون الجيش والأمن الوطني وراء الإسلاميين، يذيقوهم الأمرّين، إذ قد خسروا الساحة وهي مفتوحة مُمَهدة لهم، فلم تَعد لهم حُرمة ولا ذِمة، كما كانوا.
      3. أن يدرك المسلمون أن الغَلَبَ المَطلوب، يمكن أن يأتي سِلماً كما يمكن أن يأتي حَرباً، والسِلم أولى وأحرى. وقد أشَرنا إلى ما لم يعلِّق عليه أحدٌ، من موقف عُمر رضى الله عنه، من صلح الحديبية ومعارضته ومراجعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي إختار طريق السِلم، حتى ظهر أنّ الحرب لابد منها ولا بديل عنها بعد وقعة بكرٍ وخُزاعة. وما حدث من الخوارج الذين خَلعوا علياً رضى الله عنه بنفسِ الحجة أنه لم يُقدِمُ على حرب معاوية رضى الله عنه، ورضى بالتحكيم والإقتراع، ورَفعوا القرآن، بكلمة حقٍ أريد بها باطل. وقد تقعّد في الأصول أنّ السلم مقدمٌ على الحرب، فحفظ النفس من أعلى المقاصد الشرعية، بل من الأصوليين من قدّمه على حفظ الدين، بدلالة إباحة النطق بكلمة الكفر، ولأنه إن عدمت النفس عدم المُكَلّف، فعدم الدين، إذ لا دين بلا مُكلفين.

      وهذا الخيار ليس فيه تراجُعٌ ولا تعديلٌ على رأي نَصرناه سَابقاً، ولا افتئات على أمرٍ عقديّ، حاشا لله، فالأمرُ العَقدىّ هو "عدم التحاكم إلى شرع الله"، وإنما المَجالس والبرلمانات وغيرها هي أشكال إجرائية، يتوقّف حِلّها وحُرْمَتها على ما أُسّسَت عليه. وقد ذكرنا أنه ليس هناك فتوى صالحة لكلِ زمانٍ ومكانٍ وحالٍ. وما إتخذته الإخوان أو السلفيون من رأي في السابق، لم يكن له سند من شرعٍ ولا واقع وقتها. والوضع القائم لم يكن له شبيه من قبل، فليس هناك بعد قواعد "للعبة" إبتداءاً، بل وضع قواعدها هو من حَق من يغلِبُ في هذا التصويت. والمُسلمون لا يصوّتون على تحكِيم الشريعة من عدمه، فقد قال الشعب رأيه في ذلك، وإنما يُصوّتون على من سَيمثلهم في إرساء معالم الدولة حَسب الشَريعة التي إرتضاها الشَعب ابتداءاً، وأعلنَ عن رأيه فيها عَالياً.

      ولا يشتبه قولنا هذا على أنه مبنيّ على قواعد المَصالح والمفاسد، فهذا ليس موردنا، على صحته فيما لم يأت فيه دليل عام يدخل تحته، إنما نحن هنا نُعمل النصّ الشرعيّ الأصليّ في طلب نصرة الشريعة وإعلاء تحكيم شرع الله في الأرض، سلماً أو حرباً، والعُدول عنه عُدولٌ عن فعل لا يتم الواجبُ إلا به. بينما كان تأويل الإخوان من قبل مبنيّ على ما إعتقدوه مصلحة، وإدراك هذا الفرق يحتاجُ إلى دقة نظر وقدرة على إدراك الفروق.

      ثم إنه لو لم يكن أي من هذه التوجهات الثلاثة صالحاً، فليدلى لنا من يرى رأيا آخر بدلوه، إن كان من أهل السقاية، ويبين لنا ما يجب على المسلمين عمله بالحجة والبرهان، لا بالكلام والمُحاججة، وسننشره إن شاء الله، فإن في هذا فائدة للجميع.

      اللهم ألهِم شَباب الدّعوة القول الصائب والعمل المخلص والبصر بالحق في حينه.

      ألا هل بلّغت، اللهم فاشهد.