فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      الأقلية الصَاخبة والأكثرية الصَامتة

      الحمد لله والصلاة والسلام على رَسول الله صَلى الله عليه وسلم

      فقط في مصر، أم العجائب، ترى هذه الظَاهرة الإجتماعية السياسية النَادرة، حيث يعلو صَوت الأقلية على صوتِ الأغلبية، وتعلو رغباتهم على رغبة الأغلبية، وتَغْلب حُقوقَها على حُقوقِهم.

      لم أرَ مثل هذا في بلد من بلاد الغرب التي أقيم فيها منذ أكثرَ من ثلاثين عاماً، والتي أتيتها على رغمٍ منى. ففي كندا حيث أقيم، وفي إنجلترا حيث أقمت، وفي أمريكا التي زرت مِراراً، لا يمكن أن يَعلو صوتَ أقليةٍ على الأغلبية. حتى الأقلية اليهودية، التي تتدسّس بآرائها من خلال اللوبيات والتبرعات المادية للحملات الإنتخابية، لا تجرؤ أن تعلن عن مُعارضتها لما تراه الأغلبية، بأن ترفض الديموقراطية، أو تعلن عن عدم جدوى النصرانية كدين، أو ما شابه. لا تكاد تسمع إلا همساً للأقلية المسلمة، أو الإسبانية، أو الإيطالية، دع عنك ما يُحرّضُ على الخُروج على النظام السَائد في الدولة، والتي ارتضَته الأغلبية، لا في التلفاز، ولا في الإذاعة ولا في الإعلام بكامله، رغم إنهم مواطنون يتمتعون بالمواطنة الكاملة، وكثيرٌ منهم من وُلد في تلك البلاد، ولم يعرف غيرها.

      لكن هذه الظاهرة، في بلادنا، أصبحت هي الأصل، أن تتصَارخ أقليةٌ تنتمى لفكرٍ خَارجيٍّ غريبٍ عن الأمة، دون حياءٍ أو خوف، لا للمطالبة بمساواة أو رفع ظلمٍ عنهم، حاشا لله، بل يتصَارخون بضرورةِ كبت رأي الأغلبية وهضم حقّها في التعبير، وهم أصلاً دعاة الديموقراطية - بزعمهم!

      وهذه الظاهرة تدل على أمور عدة، يتميز بها مجتمعنا المصريّ، وهي غالباً ليست أصيلةً فيه، لكنها أصبحت غالبةً عليه من جرّاء طول التعود. منها أنّ الغالبية قد إعتادت الصّمت على الأذى، خاصة بعد ذلك الإنفجار الذي حدث في 25 يناير، والذي أخرج الكثير من الإحساس بالكبت، وفرّغ الشحنة الغاضبة، دون أن يصلَ إلى هدفه، فعاد إلى حيث بدأ، من الصبر والصمت.

      وأخرى، ذلك الشُعور بالإنهزام والإحباط العام، الذي أصبح قابعاّ على صُدور الغالبية من المُسلمين وعلى عقولهم، فجرّدهم من الدافع الحاسم اللازم لإبداء العزة وإعلاء الكلمة. وهو شُعورٌ استوى فيه العَامة والخاصة من الأغلبية. فإن رؤوس الغالبية، والمتحدثين باسمهم، واقعون تحت تأثير نفس العوامل التي ذكرنا، فهم على حذرٍ من كلّ كلمةٍ يقولونها، أو تصريحٍ يطلقونه، إذ يعلمون أنّ مدافع الأقلية ستصُب حِمَمَها على رؤوسهم، أيا كان التصريح! وهم قد إستسلموا منذ عقود مضت، ومنهم من وجَد تبريراً شَرعياً تأويلياً لهذا الإستسلام والصمت. فلما فقد الناس "رؤوسهم" فقدوا صِحة التوجه، ولاذوا هم الآخرون بالصمت.

      وأخرى، أنّ الأقلية المتمثلة في القبط واللادينيين، هم أصحاب الأبواق الإعلامية، ينفخون فيها ليلا ونهاراً، ويكترون أفواه من يسمونهم "الإعلاميون" من كلّ من انعدم ضميره وانخرم دينه، وهم أصحاب المال، ينفقونها بغير حسابٍ، ليكونَ عليهم حَسرة، وهم أصحاب السلطة، إذ منهم كلّ السياسيين الرسميين بلا خلاف، ومنهم جُلّ أصحاب الأعمال ورجالِ الأقلام، ولحق بهم "رجال الدين" من القبط التى تمثلهم كنيسة قوية مستقلة عن الدولة، ومن أزهرٍ تابعٍ ذليلٍ لمن يَحكم أياً كان. فكان هؤلاء الأقلية الشذوذ هم أصحابُ الصَخبِ والصراخ.

      فهذا الصخب، الذي يقابله ذلك الصَمت، دلالة على أن الأمور في مِصر مَقلوبة رأساً على عقب، أكثرَ من أيامِ مَخلوع شرم الشيخ، إذ كان في عهده سَببٌ ظاهِرٌ للصّمت من الجَانبين، أقليّة وأغلبية، إن اسْتثنينا الكنيسة التي تتبع الغَرب قلباً وقالباً. أما اليوم، فقد خرج من قمقم الأقلية قِزمٌ في صُورة ماردٍ، لسانٌ بلا جَسد، يقفِز ويَصرُخ تفزيعاً لمَن حَوله، وأطلّ برأسهِ من قمقمِ الأغلبية ماردٌ أبكم، استنشق عبيرُ الدنيا لحظة ثم عادَ إلى قُمْقمِه، وكأنّ شيئاً لم يَكن.

      ثم، نُحذّر الأغلبية الصَامتة، أنّ هذا الصَمت مَحسوبٌ عليها، في الدنيا حيث سيزداد فُجرِ العِلمانية اللادينية وعُهرها وسيظل الحُكم الجَبريّ العَسكرىّ، الذي ينتمِى قواده (بضم القاف وفتحها) إلى هذا الفريق، يقمَعُ الإسلام والمُسلمين ويخرّب في البلاد ويفسد في العباد. وفي الآخرة، إذ إن الله لا يرضى عن الصامت الجبان، فالسّاكت شيطان أخرس.

      ذلك الحالُ المَقلوب جعل المشكلة تتفاقم، والهوّة بين الأقليّة الصَاخبة والغالبية الصَامِتة تتسَع. والمُقامرة الآن هي هل تظل الأغلبية صامتة؟ وهل هي أغلبية صَمّاء كما هي بكماء، لا تسْمع الصَخب الذي تجَاوَز كلّ حدّ، والذي يظهرُ أنّ عمله قد أثمر، وأن الجيشَ سوف يغلب الصَخب على الصَمت.