الحمد لله والصلاة والسلام على رَسول الله صَلى الله عليه وسلم
عَجِيبة هي اللغة العَربية، في اشتقاقاتها وتراكيبها، ولا غَرو إذ هيَ التي حَمَلت كَلماتُ الله، واستوْعَبت أمانة إيصالها إلى الناسِ بلسانٍ مُبين، ورَحم الله حافظاً حيث يقول: أنا البحرُ في أحشائه الدرُ كامِنٌ فهل سَاءلوا الغَوّاصَ عن صَدفاتي ومثالُ على ذلك ما نحن فيه، في هذا المقال. فإن الناس حين يرَون "النقص" وارِداً على أمر من الأمور، فإنهم يبدؤون في "النقد" ومُحاولة الإصلاح. فإن عَجز النقدُ على أن يُحقق إكمال النقص، فإنّه ليس هناك بديلُ إذن إلا اللجُوء إلى "النقض"، وهو الهَدم، وتحويل الأمرِ إلى أنقاضٍ، يمكنُ أن يَنشأ بعدَها على أرضِية صَحيحة لا عِوَج فيها ولا أمْت. فمن النقصِ إلى النقدِ إلى النقض. وهذا ما يبرر قيام الثورات بشكلٍ عام. وهو ما يبرر بلا شكٍ ما يحدُث في العَالم العَربي بصِفَة عامّة. فإن ما نعانيه في مصر، لا نزال هو النقص في كلّ شيئ، نقصٌ في المآكل والمشارب، نقصّ في الوظائف والدخول، نقص في الشفافية والمصارحة، نقصٌ في الأمانة والصدق. ثم إن اي نقص في أمر، يؤدى إلى تضخمٌ في عَكسه. فكان التضخم في الثراء الحرام، والتضخم في ظاهرة الكذب والغش والنفاق، وما إلى ذلك. هذه النواقص مجتمعة قد تراكَمت، كما تراكَمت نقائضها، وأدت إلى سلسلة من الإنتقادات التي تزايدت وتيرتها في السنوات الخمس الأخيرة، منذ تصاعد موضوع التوريث إلى الواجهة السياسية، ثم التزوير المكشوف للإنتخابات، وهو ما أدى إلى إنفجار 25 يناير، الذي كان يفترض أن ينقض كلّ ما كان من قبل، ويهدِمه على رؤوس أسدانه، ليبدأ بناءاً جديداً قوياً، لا تنخُر فيه سوس الفسَاد، ولا تتقوض فيه حُرية العباد. لكن، وبنفس منهج النظر، نرى أن "النقص" لم يُعالج، ولا جزء منه، ولا في ناحية منه. حكومةٌ ضعيفة غير عابئة بالمشكلات الحقيقية للشعب، ولا بأمنه وحمايته. جهاز أمن الدولة يعمل تحت اسم الأكم القوميّ، والكلّ يعرف هذا ولا ينازع فيه أحد. التعذيب المفضى إلى الموت لا زال منهجاً لما تبقى من جهاز الشرطة الخائن العميل. الحكم العسكريّ، الذي يقبع فيه تسعة عشر صنماً بدلاً من صنمٍ واحد، يحكم ويأمر دون مُراجع. الصفقات المَشبوهة لاتزال سَارية المفعول، والغاز يتدفق إلى إسرائيل بنفس السِعر المَغبون، ولحسابِ نفس الشركة السَالمية المباركية! والأدهى أن مبارك، القاتل السَارق الخائن لبلده، يُكرّم من دكتاتور المَجلس العَسكرى في الإذاعة والتليفزيون طارق غير المهدى، ويمنع قول الرئيس المخلوع، ثم يقال أن هؤلاء سيحاكموه!!، لا والله حتى تطلع الشَمس من مَغربها، أو حتى يصلى أحد العمروان، عمرو حمزاوى و عمرو أديب، ركعة لله. النقص إذن ثابت لم يتحول، وحتى المكسب الذي إعتقدنا أن إنقلاب يناير مَكنّ منه، وهو حُرية الحديث عن مبارك وأهله، تبين أن العسكر لا يرضَونه، بل ويمنعونه. فترة "النقد" إذن يجب أن تبدأ، نقد العسكر وبيان عمالتهم وجرمهم، وأنهم أسوأ من ضباط يوليو 52، إذ أولئك قاموا بالإنقلاب بأنفسهم، أما هؤلاء، فقد ركبوا المَوجة، وسرقوا الثورة وحوّلوها إلى إنقلاب. السؤال المطروح الآن، متى تبدأ عملية "النقض" الحقيقيّ، والهَدم الذي يزيلُ الفساد من جذوره، لا أن "يقصقص" بعض فروعه البعيدة الناتئة، ويترك الجذع قائماً قوياً مُتحَكماً، يصدر البيانات، ويُقرّ القرارات، ويحاكم المدنيين عسكرياً، ويفضّ المُعتصمين من المسلمين جبرياً، ويخرج شاهينه على الناس يفزعهم ويهددهم، ويمُنّ عليهم أنه لم يقتلهم ويُشرد بهم!