فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      مستقبل مصر .. بين القائد والقيادة

      الحمد لله والصلاة والسلام على رَسول الله صلى الله عليه وسلم

      طريقان يمكن أن يسلكهما الخَط السياسيّ الذي يأمل المصريون أن يبدؤوه في القريب العاجل، لتأمين دولةٍ مدنية (اي غير عسكرية) حديثة، من خلال إنتخابات ممثلى الشعب، ثم رئيس الجمهورية وتدوين الدستور. وهما فرعٌ عن تصوّر الوسيلة المثلي للقيادة، أهي في قيادة الفرد المُلهم، أم قيادة الجماعة المتجانسة؟

      وأحب أن أوجه إنتباه القارئ الكريم لمقال نشرته في هذا الصدد، أو قريبٌ منه، تحت عنوان "قيادة الأمة ..بين سيد قطب ومحمود شاكر"، وضّحت فيها ما يراه كلّ من عِملاقي الفِكر، من ناحية مسؤولية قيادة الأمة، أهو الفرد القائد أم الجماعة القائدة.

      وقد كان التوجه السائد في الثقافة السياسية ببلاد المسلمين، خلال القرون السابقة، أن يتطلع الناس إلى الزعيم القائد، يستلهمونه التوجيه والرعاية، لأسباب عِدة، منها تاريخيّ ومنها شرعيّ، فإن قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة كانت مثالاً للقائد النبيّ، ثم من بعده الراشدون الأربعة، بما كانوه من مثلٍ أعلى، قد طَبعَ في الباطنِ السّياسيّ العَربيّ أنّ القائدَ المُلهم، هو خيرُ طريق إلى قيادة الأمة. ثم من بعد ذلك، وكنتيجة لهذا التصور، إهتمّ علماء الأمة بشروط الإمامة، وكان التركيز عليها أكبر مما كان البحث في أمر أهل الحلّ والعقد. وقد سَاهَم تجبر بعض الخلفاء في أن يرسّخ هذا التصور، خاصة وهم كانوا لا يزالون مع تجبرهم، على الإسلام، به يحكمون، وعلى شرعه يسيرون، في جلّ أمور العامة والجهاد. ومن هنا أجرى عليهم العُلماء، بحقٍ، أحاديث السَمع والطّاعة، مما زاد في الخلفية النفسية التي لا تتطلع إلى هيئة أو جَمْع يُصلح حالها، بل تنتظر صَلاح الإمام، تنعم به، أو طلاحه، تشقى به.

      لكن الأمر قد تبدل شرعاً وواقعاً. فالحكام خرجوا عن دين الله جملة وتفصيلاً، وتبعتهم كثير من الدهماء دون علم بما يجرّونهم اليه. وكانت الدكتاتورية الطاغوتية، التي انتشرت في أرجاء العالم العربيّ، في ظلّ تلك الدويلات والممالك والجمهوريات التي حكمها طغاة بغاة خارجون عن دين الله. من هنا فإن الصّورة التي يَسعى إليها الداعون إلى الحُكم الإسلاميّ، يجب أن تكون واضِحةً في سبيلها، بينة في مسلكها.

      ما يجب أن ندركه أن الواقع الذي نعيشه أصبح أكثر تعقيداً من أي عصرٍ في التاريخ. وقد ولّى عصر المرجعيات الموسوعية التي كان العالم الإسلامي ينعم بها، وغلب التخصّص على كافة مجالات الحياة. فلا يصْلح رجل بمفرده أن يستبد بالرأي، وإن كان صالحاً تقياً، وذكياً خريتاً. ولا شكّ أن الزمان قد عَرِى عمن يحوز الصفات اللازمة لمثل هذا القائد الأجل، والمرشد الأوحد. فإنه، إن أراد أن يستبد بالقرار، يجب أن يكون من أهل العلم والشرع، فقيهاً عارفاً بالحديث والسنة، عالماً بفنون الإقتصادِ وقواعد الإجتماع، مُدرّباً على فنون السِياسة دون أن يتلطخ بأوساخها. ثم يجب أن يكون من الأمانة والشرف والإيثار، ومن الإقدام والحكمة والتريث، ومن الصبر والعزم والهمّة، بمكانٍ عالٍ. ثم أن يكون من أصحاب الأصلِ والمنعة، وقوة الشخصية وفصاحة اللسان، ما يمكنه من أن يأسر قلوب الناس، فيكون لهم مثالاً وحافزاً. وهذا، كما نرى، موصوفٌ عزيزٌ في زماننا هذا، الذى ندر من تحلّى فيه ببعض هذه الصفات، بله كلها.

      لهذا فإن أمر القيادة التي يجتمع عليها رأس الدولة وممثلى الشعب، هي أولى وأوفق وأحزم، ففيها ما يدرأ الشُبهة ويُخزى الشيطان، ويعين الرئيس على رؤية الخير إن غاب عنه، وعلى دحض الشر إن تكاثرت شياطينه عليه. وترجمة ذلك أن يكون الأمر مقسوم بين الرئيس وبين البرلمان، وهو النظام الذي يسمونه البرلماني-الرئاسيّ. فهو يَجعل الرئيس، وإن كانت له سُلطة القرار، إلا إنه قرار صدر بإتفاق عن دراسة ونظر، مما يقلل من نصيب الهوى فيه. وفي هذا ضمانٌ لتحقيق المصلحة العليا للشعب، وهو مقصد الشرع الذي يجعل جلب المصالح للناس مقصداً أعلى للشريعة، بإجماع علماء أهل السنة.

      ثم، إنّ مجلسَ الشعب هيئة تنفيذية لا تملك حقّ التقنين – لا نقول التشريع – وهذا نظرٌ صحيح. فيجب إذن أن يكون هناك مُكملٌ لها من أهلُ الحل والعقد، ينصحون ويبيّنون قول الشرع الذي لا يجب الخروج عليه من نصِ كتابٍ أو سنةٍ أو إجماعٍ، ويوجهون فيما يصح فيه الإجتهاد بطرقه الصحيحة، وما يمكن أن يكون من باب المصالح المرسلة التي يمكن إدراجها تحت قاعدة من قواعد الشريعة العامة ومقاصدها العليا.

      هكذا يجب أن يكون تصور القيادة في الدولة الإسلامية المعاصرة، ليمكن أن تكتمل جَوانبها، وتنجَبر نواقِصها، لا يستبد بها رجلٌ فردٌ مهما كان من الأخيار ، كما لا تكون مشاعاً بين فرقاءٍ يتناحرون على قرار.

      وهذا المبحث أوسع من أن يحاط به في مقال، ولعلنا نعود إلى تفصيلٍ فيه حين يأذن الله بتولى المسلمين دفة الحكم إنه ولىّ ذلك والقادر عليه.